عادل إمام... فنان الشعب

 عادل إمام...  فنان الشعب

لا يبدو وصف «فنان الشعب» اليوم مألوفًا لنا في لغتنا اليومية، على الرغم من ازدياد الشعبوية في أرجاء العالم، شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا، بل ربما بدت العلاقة بين الأمرين عكسية؛ فكلما زدنا في الشعبوية ندر العثور على فنان تتحقق فيه الشروط العامة التي تصنع منه فنانًا للشعب. وتزداد هذه الندرة يومًا بعد يوم، إلى الدرجة التي يتبدى فيها كأننا وصلنا حد القحط.

 

هناك أمثلة في فننا العربي لأسماء نستطيع أن نطلق عليها بثقة هذا الوصف، منهم من رحل، ومنهم من لايزال بيننا بحضوره الحي: سيد درويش، أم كلثوم، نجيب الريحاني، فيروز، زياد رحباني، دريد لحام، وعادل إمام. ومن المؤكد أن القارئ سيضيف إليهم أسماء أخرى لعدد من كبار فنانينا العرب ممن لا يتسع المقام لذكرهم.
ندرة وجود الفنان الذي نستطيع الآن إطلاق هذا الوصف عليه، هي ظاهرة لها ثلاثة أسباب؛ أولها: شخصي يتعلق بالفنان نفسه. والثاني: بنيوي هيكلي خاص بالظروف والتغيرات التي حدثت في العالم، وفي القلب منه وطننا العربي، وبدلت من شروط صنع الفن، وكيفية تلقيه. والسبب الثالث هو: كيفية تفاعل الفنان، طوال مسيرته الفنية، مع المتغيرات التي طرأت على مجتمعه وعلى العالم. من هذا المنطلق تأتي تأملاتنا التالية في مسيرة عادل إمام.

صعود وأفول
رغم أن الجمهور العربي يعرف عادل إمام منذ مسرحية (أنا وهوَّ وهيَّ، 1963)، عندما لعب دور «دسوقي أفندي» وكيل المحامي، ومازال يتذكر جملته الشهيرة التي صارت مثلًا شعبيًا حينها: «بلد بتاعت شهادات صحيح!»، إلا أنه ظل طوال العقد التالي حبيسًا في الأدوار الثانوية، وفي أحسن الحالات البطولة الثانية. يتذكر المشاهد أدواره في تلك الفترة في أفلام من قبيل (مراتي مدير عام، 1966)، و(لصوص لكن ظرفاء، 1968)، و(البحث عن فضيحة، 1973).
لكن في الخمس سنوات التي تلت انتصار أكتوبر 1973 أخذت عملية ما تتضح بسرعة، فقد راحت الأوضاع تتغير في المجتمع المصري تغيرًا دراماتيكيًا من ناحية، وفي الوقت نفسه بدأت المسيرة الفنية لعادل إمام هي الأخرى في التطور تطورًا دراماتيكيًا.
عاد الرجال من الحرب وهم أكثر واقعية، وهي عملية شرعت بداياتها منذ حرب الاستنزاف. وكانت السينما الشعبية المـــصــريــة آنذاك في انفصال شبه تام عن الواقع. كان فؤاد المهندس هو نجم السينما الشعبية وقتها، وكان يصنع أفلامًا من قبيل (أخطر رجل في العالم، 1967)، و(مطاردة غرامية، 1968)، و(شنبو في المصيدة، 1968)، و(العتبة جزاز، 1969)، و(إنت اللي قتلت بابايا، 1970)، و(عماشة في الأدغال، 1972)، وهلمّ جرّا. هزليات ربما كانت مقبولة من جمهور السينما الشعبية في فترات الاسترخاء، لكنها لم تعد تلقى رواجًا في فترة الحرب. خصوصًا مع انتشار موجة السينما الواقعية في أنحاء العالم، وتسلل بعض تلك الروائع إلى المُشاهد، سواء عبر شاشة التلفزيون العربي، أو في بعض دور السينما. ما فاقم من حالة عدم رضا المُشاهد عن تلك الأفلام، هو التطورات الجديدة التي حدثت في الاقتصاد في مصر، والتي أدت إلى توابع خطيرة وحاسمة في تغيير كيمياء المجتمع.
في عام 1974، وفي احتفالات الذكرى الأولى لانتصار أكتوبر، طرح الرئيس أنور السادات «ورقة أكتوبر» التي دشنت عصر الانفتاح الاقتصادي (أسماه أحمد بهاء الدين: انفتاح السداح مداح). حددت «ورقة أكتوبر» أولويات السياسات الاقتصادية في مصر منذ ذلك الوقت وإلى اليوم، مشخصة مشكلة مصر الاقتصادية في الأعباء الكبيرة التي تتحملها الموازنة العامة بسبب الإنفاق على المجهود الحربي، وبسبب الزيادة السكانية، وخلافه، وبالتالي انخفاض معدلات النمو. عقب «ورقة أكتوبر» مباشرة صدرت عدة قوانين فتحت الباب أمام رأس المال الأجنبي في كل القطاعات الاقتصادية، وأعفته من الضرائب على الأرباح، وفتحت باب الاستيراد على مصراعيه، ونُزعت سيطرة الحكومة على التجارة الخارجية. وفي نفس الوقت صدرت قوانين أخرى حجَّمت دور القطاع العام، وألغت المؤسسات العامة التي كانت تقوم بالتخطيط والتنسيق والمتابعة لأنشطة الشركات الحكومية.
من الناحية الاجتماعية، كان من نتائج الانفتاح الاقتصادي تفشي الأخلاقيات الطفيلية، وعملية مستمرة من التدهور الطبقي للطبقة الوسطى راحت تتسارع يومًا بعد يوم، وازدياد الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وزحف استهلاكي تسبب فيه إغراء البضائع المستوردة التي كانت تروج لها إعلانات لنجوم الرياضة والفن، فأنفق أصحاب الدخول المتواضعة ما يفوق طاقتهم في مجالات الاستهلاك الكمالي بمجتمع عاجز عن سد الاحتياجات الضرورية لأبنائه. 
في ظل تلك التطورات الاجتماعية والاقتصادية العاصفة، لم يجد المُشاهد نفسه ممثلًا على شاشة السينما، خصوصًا الأجيال الشابة التي عاصرت فترة الحرب، وعاصرت أيضًا ثورة الشباب في فرنسا وتشيكوسلوفاكيا أولًا، ثم في العالم أجمع بعد ذلك. وشعر منتجو الأفلام الشعبية بأن الكوميديات الهزلية التي كانت تصور سعي الرجل المحدود الوسامة والذكاء للفوز بالفتاة الجميلة، التي كان يصنعها فؤاد المهندس، لم تعد مناسبة لجذب جمهور السينما. إن المهمة الأولى لمنتج الأفلام الشعبية هي الإحساس بردود أفعال المتفرج، وقياس حساسية سوق السينما واستجابته لما يتم تقديمه من أعمال، وتأتي أهمية هذا الدور سابقة حتى على أهمية عملية التمويل. في ذلك الوقت راهن بعض منتجي السينما الشعبية على عادل إمام، فسمحوا له بلعب دور البطولة في عدد من الأفلام منذ منتصف السبعينيات، مدفوعين بقدر كبير من الحماس الناتج عن الشعبية التي حازها بين الجمهور، خصوصًا بعد عرض مسرحية (مدرسة المشاغبين، 1973).
منذ ذلك الحين، التقط عادل إمام جمهوره من الطبقات الوسطى والفقيرة، ثم اتحد بهذا الجمهور إلى الأبد. هناك ما يُلاحظ بانتظام في أعمال عادل إمام؛ كلما أصبح أكثر سلطة، كنجم، في التحكم بشروط صنع الفيلم زادت مساحة تمثيل المتغيرات القيمية والاجتماعية والاقتصادية، بل السياسية أيضًا، في أفلامه. حين يصل عادل إمام إلى السلطة المطلقة في بداية التسعينيات، يصنع أفلامًا، لا تعكس فقط الواقع الاجتماعي والاقتصادي، بل تنتقد كذلك الوضع السياسي والحزب الحاكم، وبصراحة نادرة في تاريخ الفن العربي؛ من قبيل: (اللعب مع الكبار، 1991)، و(الإرهاب والكباب، 1992)، و(المنسي، 1993)، و(بخيت وعديلة، 1995)، و(طيور الظلام، 1995)، و(النوم في العسل، 1996)، و(مرجان أحمد مرجان، 2007). فإذا كانت السلطة المطلقة هي فساد مطلق فإنها في حالة عادل إمام قد أنتجت العكس؛ إصرارًا دائمًا، إرادة جبارة لا تتزعزع، في تمثيل حال الناس على الشاشة، وفي رسم صورة للمتغيرات الهيكلية التي تحدث في المجتمع، والتي هي أكبر وأقوى من قدرة الفرد على مقاومتها. 
السلطة المطلقة في تحديد ما يصنع من أفلام، ومع من يعمل، وأية قضايا يتناولها، ومتى، لم يحُزْها عادل إمام نتيجة حرفية منقطعة النظير في فن التمثيل، أو مهارة عالية بالعلاقات العامة أو بزنس السينما، وإنما تراكمت عبر سنين طويلة نتيجة المصداقية؛ عبر الخضوع لاختبار الثقة مع الجمهور، وعلى مر عقود، والنجاح دائمًا في كل اختبار.
في إحدى المناسبات سمعتُ ناقدًا يصف أحمد زكي، وكان حاضرًا، بأنه أهم ممثل في تاريخ الدراما العربية. رد أحمد زكي فورًا قائلًا بحماس:
- لا، بل هو عادل إمام، في الوقت الذي كنتُ أنا أصنع فيه (درب الهوى) كان عادل إمام يصنع (الحَرِّيف)، وفي الوقت الذي كنتُ أصنع فيه (شادر السمك) كان هو يصنع (الأفوكاتو).
إن ما يميز عادل إمام أنه، وبقدر اهتمامه بصقل الحيل الفكاهية في أعماله، حتى تأتي القضايا الاجتماعية في بعض أفلامه كأثر ثانوي من آثار العمل الكوميدي، إلا أن كل عمل من أعماله، وبغض النظر عن مستواه الفني، يراكم ببطء طبقات رقيقة فوق بعضها البعض لتشكل الصورة الكاملة لعدم ملاءمة المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للطبقة الوسطى. هذا التراكم، وهذا الثبات الذي يشبه انتظام دقات ساعة سويسرية دقيقة الصنع، يجعلان من القضية الاجتماعية هي الأرضية العامة لأعماله. لذلك لا يمكننا كتابة تاريخ اجتماعي لمصر، بل لعديد من بلداننا العربية أيضًا، خلال الأربعين عامًا الماضية، بمعزل عن أعمال عادل إمام؛ فعلاقة التاريخ الاجتماعي بأفلام عادل إمام هي نفس علاقة اللون الأبيض بألوان الطيف. إن أعماله هي أطياف واسعة من نفس اللون. بعبارة أخرى، الفساد، والأزمات الاقتصادية، والتطرف الديني، وحال الطبقة الوسطى، هي التاريخ الطبيعي الذي ترجع إليه أعماله الفنية، وقد جرى التعبير عن هذا بصورة مثالية في عدد من أجمل الأفلام العربية: (الحَرِّيف، 1983)، و(الأفوكاتو، 1983)، و(اللعب مع الكبار)، و(الإرهاب والكباب)، و(طيور الظلام).

دور التكنولوجيا
خلال حقبة السبعينيات من القرن الماضي، ظهر الفيديو كاست في المجتمع المصري وباقي المجتمعات العربية، وصار اقتناء الجهاز الجديد مسألة أساسية بالنسبة للقادرين من أبناء الطبقة الوسطى، وعلامة من علامات الاستهلاك التفاخري، ودليل على مواكبة العصر. وخلق العرض، أي التكنولوجيا الجديدة، الطلب على أفلام تصلح للعرض في بيوت أسر الطبقة الوسطى، التي عزفت منذ فترة عن طقوس الذهاب إلى دور العرض لحضور الأفلام الشعبية الجديدة. فخلال حقبتي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، واظبت أسر الطبقة الوسطى المصرية على طقس الذهاب إلى سينما الحي في ليل الخميس أو الجمعة، مصطحبين معهم طعامهم، الذي كانت خادمة الأسرة الصغيرة تقوم بحمله. كان المتفرجون في سينما الحي من العائلات التي تقطن نفس الحي، وكانت دور السينما وقتها آمنة، واجتماعية، وتوفر فرص المتعة من ناحية، ولقاء العائلات مع بعضها البعض من ناحية أخرى. هذه الطقوس أخذت في التلاشي تدريجيًا، وبسرعة متزايدة، مع تدهور الصيانة في دور السينما من جانب، وتجرأ الشباب العزاب والحرفيين على مزاحمة العائلات في السينمات. لذلك وفرت تكنولوجيا الفيديو كاست الجديدة تعويضًا لعائلات الطبقة الوسطى في مشاهدة السينما بطريقة آمنة وسهلة في شققهم ذاتها. وخدم ذلك عادل إمام، وباقي ممثلي الكوميديا في تلك الفترة، بأن اكتسبوا قوة في مواجهة المنتجين الذين كانوا يسعون إلى تلبية طلب لا ينقطع على الأفلام الجديدة. أصبح عادل إمام هو النجم المفضل في الشقق المصرية، ونافسه في الشعبية، وإن كان على مسافة واسعة منه، سمير غانم؛ بموهبته الكوميدية اللامحدودة على الارتجال و«الإفيهات»، وإن ظلت أعماله في منطقة المساخر لا تتجاوزها، لذلك كانت تستنفد طاقتها من المشاهدة الأولى، على عكس أفلام عادل إمام التي وجدت فيها عائلات الطبقة الوسطى معبرًا عنها، وصورة لأحوالها، ووجهًا يشبهها ويماثلها. وجهان متماثلان، لا يُضحك أي منهما بمفرده، لكنهما يضحكان باجتماعهما معًا.
بالنسبة إلى جمهور دور السينما من الطلبة والشباب حدثت عملية معكوسة؛ حيث خلق الطلب العرض هذه المرة. فالشباب الذين فقدوا الاهتمام بمتابعة أفلام فؤاد المهندس، كانوا يطالبون برؤية الوجه الذي يشبههم على شاشة السينما، وهو ما أدى إلى دفع المنتجين بعدد من الوجوه الجديدة التي تبشر بالنجاح التجاري إلى صدارة المشهد السينمائي في مصر، وكان منهم عادل إمام، الذي أثبت أنه الرهان الأهم والأكثر ربحًا في شباك التذاكر. وجد الشباب أخيرًا في عادل إمام الوجه الذي يماثلهم، وحرص هو من ناحيته، ليس فقط على تطوير مهاراته الفكاهية وتنويعها، بل أيضًا وفي الأساس على تمثيل حالات اجتماعية باتت واضحة في المجتمع الذي راح يتشكل على نحو مختلف.
بالنسبة لمن هاجروا إلى الخارج، أدى انتشار الفيديو كاست أيضًا إلى ربطهم بالوطن الأم الذي ابتعدوا عنه. كانت أفلام سمير غانم بالنسبة لهم مسلية لا شك، لكن أفلام عادل إمام كانت تفتح عيونهم على ما يحدث في وطنهم البعيد. من الفروق الحاسمة بين المساخر وبين الأشكال الأرقى والأذكى من الكوميديا، أن الأولى غير قادرة على حمل أية خبرة إلى المشاهد، في حين تستطيع الثانية أن تمرر خبرة مفيدة للمشاهد. المساخر تستخدم عنف الحركة في استدرار الضحكات، أو السخرية والتنمر على أشكال الأجساد البشرية، أو إباحية اللفظ، أو التلاعب بالكلمات. في حين تلجأ الأنواع الأرقى من الكوميديا إلى توليد الضحك من المفارقات في الموقف الدرامي؛ لذلك يُقال إن الكوميديا مسألة عقلية، لابد أن تمر بالعقل أولًا لكي يدرك المتفرج المفارقة بين ما ينبغي أن يكون وما يراه على الشاشة فيضحك. تسخر الكوميديا الذكية من الأوضاع الاجتماعية ومن العلاقات البينية بين الطبقات، لذلك فهي تحمل في جوهرها هدفًا اجتماعيًا، من دون الاضطرار إلى تضمين تصريحات أخلاقية مباشرة داخل العمل الفني. 
لذلك كان طقس مشاهدة فيلم جديد لعادل إمام، لمن هاجروا إلى خارج مصر، لا يبعث فقط على المتعة الفنية والضحك، أو يثير حنينًا إلى ذلك الماضي الذي كانت فيه العائلات تجتمع في سينما الحي، بل إنها أيضًا، إلى جانب ذلك، أدت وظيفة معلوماتية أيضًا وهي ترسم صورة للظواهر الاقتصادية والاجتماعية الجديدة، ولآخر أشكال الفساد الإدراي والاقتصادي الذي ظهر على سطح المجتمع، وللتحولات في العلاقات بين الطبقات، بل للألفاظ والمصطلحات العامية الجديدة أيضًا التي ظهرت في الشارع.

الحقبة الأصعب
لم تبدأ الحقبة الأصعب باغتيال الرئيس السادات في 6 أكتوبر عام 1981؛ في الاحتفال الثامن لانتصار العرب على إسرائيل عام 1973، لكنها بدأت قبل ذلك بثمانية أعوام؛ في عام 1972، على إثر الاشتباكات العنيفة بين المسلمين والأقباط فيما عُرف إعلاميًا بـ «أحداث الخانكة»، في القاهرة. وخلال العقد التالي، أي في الفترة من عام 1972 إلى اعتقالات سبتمبر 1981، لم تكن «أحداث الخانكة» هي الوحيدة في مسلسل التأزم الطائفي في مصر، بل كانت هناك اشتباكات عنيفة بين المسلمين والأقباط في أعوام 1975 و1976 و1977، وحتى بدايات الثمانينيات؛ فيما عُرف إعلاميًا بـ «أحداث الزاوية الحمراء» في القاهرة. خارج القاهرة، وخصوصًا في صعيد مصر، كانت الصورة أكثر قتامة. سجلت محاضر الشرطة في مدن الصعيد اعتداءات يومية على المواطنين الأقباط، وعلى محلاتهم ودكاكينهم ومحال رزقهم، بل وصل الأمر إلى حدوث اعتداءات على طلبة الجامعات الأقباط في ساحات الجامعة والمدن الجامعية.
وجدت الجماعات المتطرفة في الأحياء الفقيرة والمتوسطة بيئات حاضنة لها، وهي عملية أدت إلى أن تصبح مدن الصعيد، وخصوصًا أسيوط، والمنيا، حصونًا وقلاعًا، بل ودولًا داخل الدولة، تحكمها الجماعات المتطرفة مثل (جماعة الجهاد الإسلامي)، و(الجماعة الإسلامية). بل في القاهرة الكبرى ذاتها أيضًا، كانت هناك أحياء يكاد يكون كل منها «إمارة إسلامية» مستقلة عن الدولة في كل شؤونها اليومية؛ منها حي المطرية، وعين شمس، وكرداسة، وناهيا، والوراق، وغيرها. الأمور كانت أكثر استفحالًا في حي إمبابة القريب من أحياء المهندسين والزمالك والعجوزة. كانت إمبابة إمارة إسلامية مستقلة عن الدولة، وكان لها رئيس اسمه: الشيخ جابر (جابر أحمد محمد، الشهير بجابر ريان، فني كهرباء، الجماعة الإسلامية). كان الشيخ جابر رئيسًا لجمهورية إمبابة وقائدًا لجناحها العسكري حتى أوائل التسعينيات. ووصل الأمر إلى حد أنه كان يلتقي في مقر إقامته بوفود وممثلي باقي الأحياء (الإمارات الإسلامية) للقاهرة الكبرى ومحافظات الصعيد، مثل أي رئيس جمهورية يلتقي المبعوثين الرسميين الذين يحملون رسائل إليه من زعمائهم.
وهذا ما يجعلنا نقدِّر الدور النبيل الذي لعبه عادل إمام منذ ذلك الحين في الوقوف بشجاعة نادرة أمام موجات التطرف التي ضربت أرجاء المجتمع المصري، بل في داخل مؤسسات الدولة نفسها أيضًا. هو لم يكن مضطرًا للوقوف في وجه العاصفة، وأية عاصفة؟ عاصفة من بيئات اجتماعية من المفترض أنها هي نفسها جمهوره من الطبقتين الوسطى والفقيرة. حتى وإن كانت قناعاته الشخصية ضد التطرف الديني، لم يكن ملزمًا بصنع أفلام تتحدى جزءًا معتبرًا من المجتمع، كان يكفيه الصمت، كما فعل الكثير من الفنانين والكتاب، من الذين آثروا عدم التحدي للحفاظ على لقمة عيشهم وتجنب المشاكل، بل لتجنب أن توضع أسماؤهم في قوائم الاغتيالات للجماعات المتطرفة، كما وضِع اسم عادل إمام منذ ثمانينيات القرن الماضي وإلى اليوم.
لا يمكن تصور هبّة المجتمع المصري واستفاقته لمواجهة التطرف والإرهاب منذ أواخر الثمانينيات بدون مساهمات عادل إمام في تحفيز الوعي ضد الإرهاب في تلك الفترة. أفلام من قبيل (الإرهاب والكباب)، و(الإرهابي)، و(بخيت وعديلة)، و(طيور الظلام)، و(النوم في العسل)، والتي تعاون فيها مع التنويريين؛ وحيد حامد ولينين الرملي، ساهمت بقوة في التصدي للمحاولات المستميتة من قبل الجماعات الإرهابية لكسب الأغلبية الصامتة من الجماهير. ولم تقتصر المسألة على حدود صنع أفلام شعبية تواجه المتطرفين وتفند أفكارهم، بل شملت المسألة أيضًا تحركًا على الأرض يتسم ببسالة يُحسد عليها. حين كانت قوات الأمن الشرطية تبدو عاجزة عن السيطرة على بعض مدن الصعيد، قرر عادل إمام أن يعرض مسرحيته (الواد سيد الشغال) في أسيوط نفسها؛ معقل الجماعات الأكثر تطرفًا ودموية في مصر. 
في عام 1988، وتحت دعوى أن الفن حرام، وضرب من ضروب الكفر والفسوق، قامت (الجماعة الإسلامية) بأسيوط بالاعتداء على فرقة مسرحية من الهواة في قرية «كودية الإسلام» التابعة لمركز ديروط، كانوا وقتها يعرضون مسرحية اجتماعية تحض الفلاحين على التمسك بالأرض وعدم الهجرة. أسفر الاعتداء عن استشهاد اثنين من الممثلين بالفرقة، وإصابات بالغة بالمطاوي والجنازير لباقي الممثلين. على الفور قرر عادل إمام مواجهة التطرف والإرهاب بالفن، والذهاب بفرقته المسرحية إلى هناك وعرض (الواد سيد الشغال) مجانًا للمواطنين في أسيوط، وكان يومئذ على قائمة الاغتيالات للجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد الإسلامي وغيرهما من الجماعات الإرهابية. عرض عادل إمام المسرحية على خشبة مسرح (مركز ثقافة أسيوط) لعدة أيام وسط حضور واحتفاء جماهيري غير مسبوقين، ثم رجع سالمًا إلى القاهرة، حيث كان في حماية جمهوره.

البطل
من الشيق تحليل أفلام عادل إمام في تلك الفترة، خصوصًا فيما يتعلق بالدور والشخصية التي لعبها في كل منها، مثلًا، في (الإرهاب والكباب) يلعب دور المواطن الضحية؛ أحد أفراد الأغلبية الصامتة في المجتمع. على العكس، في (الإرهابي) يلعب دور الجلاد؛ المتطرف الإرهابي الدموي الذي يقتل باسم الدين. فكأنك ترى صورة للمجتمع من كلا الجانبين. وهو وإن ظهر في دور الجلاد، إلا أن موقفه الفكري مع ذلك ظاهر وواضح للمتفرج لا لبس فيه. لا يخاف عادل إمام من لعب دور الإرهابي، لأنه يعرف أن موقف الفنان يظهر في طريقة معالجته لموضوعه، وليس في موضوعه نفسه. في هذا السياق، تعددت الشخصيات التي لعبها في أفلام تلك الفترة؛ المرشح النيابي الفاسد في (بخيت وعديلة)، محامي الشيطان الذي يعمل لصالح أحد كبار وزراء الدولة في (طيور الظلام)، وحتى ضابط الشرطة النزيه في (النوم في العسل).
رغم ذلك، وربما بسببه، وأيضًا بسبب أنه خضع عبر عقود متتالية لاختبارات شعبية نجح فيها جميعًا، يتفق الجميع على عادل إمام. اليسار موافق عليه، واليمين موافق عليه، المعارضة موافقة عليه، والنظام موافق عليه. رغم أنه سخر من الجميع في أفلامه بلا استثناء، ولم يوفر أحدًا من سخرياته؛ سخر من اليمين، واليسار، والأغلبية الصامتة ورجال الحكومة والبرلمانيين ورجال الشرطة والفقراء والأغنياء وهلمّ جرّا. ربما الاستثناء الوحيد الذي يكن كراهية عمياء له هم المتطرفون والإرهابيون. 
ربما لافتقادهم لحس الدعابة بشكل صارخ، أو ربما لأنهم يرون أنفسهم بشكل سافر في أعماله. ففي حين يضحك الإنسان العادي على رؤية نفسه على الشاشة، لأنه يرى وجهين متماثلين جنبًا إلى جنب؛ نفسه والشخصية، يمقت المتطرف رؤية نفسه ممثلة على الشاشة. هذا الأمر مُلاحظ، ليس فقط بالنسبة للمتطرفين دينيًا، لكننا نلمسه كذلك في اليمين الأبيض الشعبوي في أمريكا، وفي النازيين الجدد في أوربا، وفي باقي الجماعات المتطرفة والدموية.
من المهم أيضًا ملاحظة كيفية تطور علاقة شخصية «البطل» مع الجماهير في تلك الأفلام. على سبيل المثال في (الإرهاب والكباب) ينجو البطل من قبضة الشرطة بأن يندس وسط الناس الذين كانوا محتجزين في مُجمَّع التحرير. في (المنسي، 1993)، ينجو يوسف المنسي من قبضة بلطجية رجال الأعمال بأن يلتف حشد من الناس حوله في نهاية الفيلم، حائلين بينه وبين البلطجية. في (النوم في العسل)، يقود العميد مجدي الجماهير في مظاهرة حاشدة إلى مجلس الشعب للاعتراض على تدهور الأحوال.
وفي كل تلك الأعمال لا يظهر عادل إمام فبشخصية القائد، بل بشخصية المحارب الأخير البائس. ويتكثف ذلك أحيانًا حتى يصل إلى لمسة أمومية. فالفعل في أفلامه ليس سوى محاولة للوقوف ضد قوى هيكلية أكبر من قدرة الإنسان الفرد على مواجهتها، ما يجعله أشبه بالنضال ضد الريح أو المطر، وهو ما يمنح شاعرية لتلك الشخصية. المحارب الأخير الواقف في صف إنسان الطبقة الوسطى، والتجسيد الأعلى له في نفس الوقت. يعبِّر عادل إمام عن تراتبية الطبقة الوسطى بمختلف شرائحها، والذي يصل إلى قمته في (النوم في العسل) و(السفارة في العمارة)، ويصل إلى القاع في (على باب الوزير، 1982)، و(حتى لا يطير الدخان، 1984).
من السهولة أيضًا أن نتعرف على موقع أفلام عادل إمام من باقي خريطة الأفلام الشعبية المصرية؛ إنها دائمًا في صف قوى الممانعة، سواء ممانعة الفساد الإداري، أو السياسي، أو الاقتصادي والمالي، أو التطرف الأعمى والإرهاب، أو التطبيع. حين كانت باقي الأفلام الكوميدية والمساخر ضالة قيميًا، كانت أفلام عادل إمام نبيلة في الغايات. (إحنا بتوع الأتوبيس، 1979)، و(على باب الوزير)، و(الحَرِّيف)، و(حب في الزنزانة، 1983)، و(الأفوكاتو)، و(كراكون في الشارع، 1986)، و(اللعب مع الكبار)، و(الإرهاب والكباب)، و(المنسي)، و(الإرهابي)، و(بخيت وعديلة)، و(طيور الظلام)، و(النوم في العسل)، و(السفارة في العمارة، 2005)، و(مرجان أحمد مرجان)، و(حسن ومرقص، 2008)، وغيرها، أفلام كانت مضحكة وكانت نبيلة في آن معًا. لدى عادل إمام إرادة جبارة ترفض التدني إلى مستوى المساخر، أو الإضحاك من أجل جني الأرباح من شباك التذاكر فقط. من المؤكد أن هذا ناجم عن وعي والتزام اجتماعي في دمه، مثلما لديه روح الفكاهة في دمه. لدى عادل إمام فكاهة والتزام. هو كريم العنصرين.

الكوميديا والمساخر
الأسلوب والغايات كلاهما ملتحم متصل لدى عادل إمام، خصوصًا منذ حقبة الثمانينيات في أعماله الفنية، مثل زواج كاثوليكي أبدي. 
إن كل كوميديا رفيعة تتضمن صراحة أو ضمنًا شيئًا مفيدًا. هذه الفائدة قد تكون أحيانًا عبرة أخلاقية، أو نصيحة عملية في الحياة، وقد تتحول حتى تصير حكمة أو مثلًا. 
وفي كل الحالات يكون الكوميديان حاملًا المشورة لمشاهديه من جمهور السينما الشعبية والمشاهدين في البيوت. وإذا كان حمل المشورة قد بات الآن في اضمحلال، فما ذلك إلا لسيادة نمط المساخر، الذي يضرب قدرة الفنان على التواصل مع الجمهور ونقل الخبرة إليه، لذك يتدهور فن الكوميديا عندنا يومًا بعد يوم ويتبدد ويتحول إلى شيء أثري. فإذا كان المجتمع هو الرحم الإبداعي لأشكال الكوميديا الذكية، والخبرة التي يمر بها المجتمع هي المصدر الذي يستمد منه فنان الكوميديا عمله، فمع تدهور الكوميديا إلى مستوى المساخر تتلاشى تلك العلاقة، ويصبح الضحك على عنف الحركة (كضرب الممثلين بعضهم البعض)، أو شذوذ النسب الجسدية (طويل/قصير - بدين/نحيف)، أو السخرية من التشوهات الحركية للممثلين، أو ما يرتدونه من أقنعة (رجل يتنكّر مثلًا في زي امرأة)، أو إباحية اللفظ، أو هفوات اللسان، أو قلب الكلمات، أو الإفيهات، أو الردح، أو التلاعب بمعاني الكلمات، أو التكرار المتصلب لنفس الكلمة أو الجملة بما يوحي إما بالغباء وعدم التمييز أو بالخبث الشديد، ويصير الحوار الكوميدي في مجمله نفيًا لفكرة وجود أخلاق للكلمة، وتجسيدًا لفكرة الذات غير المسؤولة عن كلامها؛ يصير انحرافات وأكاذيب وتلاعب بالكلمات، ويصبح الممثل غير المسؤول عما يلفظ أشبه بالمجتمع غير المسؤول عما يلفظ.
أدرك عادل إمام أن كل كوميديا ذكية هي نقد اجتماعي، على نقيض المسخرة التي ما هي إلا نموذج للوقاحة تجاه المجتمع. إننا نضحك على الأوضاع المقلوبة ونصب أعيننا «ما ينبغي أن يكون»، لذلك يُقال إن الكوميديا دائمًا ما تحمل سوطًا إصلاحيًا في يدها، لذلك أيضًا هناك الكثير من المشاهد في أعمال عادل إمام يمكن الاستشهاد بها في المواقف المتنوعة بالحياة الاجتماعية والسياسية. 
إن الحيل الفكاهية عند عادل إمام لا ُتدمِّر مادة العمل الفني نفسه، ولا تلتهمها كما يلتهم النار الحطب، كالحال في المساخر، وإنما تعمل الفكاهة بمثابة التشويق الذي يتخلل العمل، والأشبه بالريح اللطيفة التي تشعل جذوة اللهب في الموقد، فتغذي شغف المتفرج لمتابعة أحداث الفيلم. في نفس الوقت، فإن الفنان الكوميدي الذكي، وإن كان عارفًا بأوضاع مجتمعه، والعالم، وعارفًا بالأنماط الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في بلده، ويختار منها ما يجد طريقه للعرض في لحظة تاريخية معينة، إلا أنه ليس مطالبًا بالانخراط بعمق في تفاصيل الصراعات الاجتماعية بأكثر مما ينبغي، حتى لا يتحول عمله إلى خطبة مباشرة أو حصة تعليمية، فيفقد بذلك المتفرج. يحتاج الأمر، للجمع بين الفكاهة والقضية، إلى ميزان حساس ورهافة وذكاء فني وبصيرة نافذة أولًا وقبل كل شيء.
شاهد الكاتب بنفسه مدى تفاعل أسرة بلجيكية في بروكسل وهي تشاهد فيلم (الإرهاب والكباب) في التلفزيون المحلي، وكانت قناة RTBF البلجيكية قد اشترته وعرضته في إحدى أمسيات عام 1998. الضحك والسعادة والسرور أثناء المشاهدة لم يختلف بأي حال من الأحوال عما لو كان الفيلم يُعرض في تلفزيون عربي أمام أسرة عربية. إن أفلام عادل إمام قابلة للمشاهدة في مختلف المجتمعات، ويمكن ترجمتها من لغة إلى أخرى؛ لأن التجربة الإنسانية متشابهة ومشتركة، بينما تستحيل المساخر على الترجمة لأنها مدينة لبنية الجملة واختيار المفردات في اللهجات المحلية.
يدرك الكوميديان الذكي أن عملية استيعاب المُشاهد تتطلب حالة من الاسترخاء، وتتنافى مع أسلوب الصدمات العنيفة في المساخر. هناك آلية عفوية تجري داخل المُشاهد وهو يتفرج على المساخر، أو الأفلام العنيفة أو المليئة بالصدمات؛ فلكي يحمي نفسه من تأثير الصدمة يُفعل المتفرج درعًا داخلية واقية بصورة لاوعيية، ما يمنع انتقال أية خبرة حقيقية من العمل الفني إليه. على عكس المُشاهد لأحد الأعمال الكوميدية الرفيعة الذي يكون في حالة مثالية للاستيعاب، لأنه يتفرج باسترخاء، من ناحية، ومن ناحية أخرى يكون ذهنه في حالة عمل لإدراك المفارقات الكوميدية وما يعتلي الأوضاع الاجتماعية من اختلالات باعثة على الضحك. من هنا تأتي أهمية حقن القيم المستهدفة من خلال العمل الكوميدي، ومن هنا جاءت أهمية أعمال عادل إمام لأنه لم يكف يومًا عن الانحياز للطبقة الوسطى وقيمها في أعماله ■