في الذكرى السابعة لوفاته أنسي الحاج ورؤاه النَّقديَّة

في الذكرى السابعة لوفاته أنسي الحاج ورؤاه النَّقديَّة

مرَّت منذ مدَّة قصيرة الذّكرى السابعة لوفاة الشاعر والناقد والصحفي أنسي الحاج (72 / 7 / 7391) - (81/2/4102). وقد يكون من المهم التحدُّث عن رؤى هذا الشاعر «المتمرِّد» إلى الشعر، في هذه الآونة التي نقرأ فيها كتاباتٍ جديدة متحرّرة من كلّ قيد، ما يذكِّر بتجارب أنسي ورفاقه، التي كان يواكبها التنظير ويليها النقد، في حين تفتقر هذه الكتابات إلى هذين الصَّنيعين. نشأ أنسي في فضاء ثقافي يتيح له فرص القراءة والكتابة والنشر، فوالده، لويس الحاج، صحفي ومترجم، وعمل رئيسًا لتحرير جريدة «النهار» اللبنانية. 

 

بدأ أنسي إبداعاته بكتابة القصَّة القصيرة، فنشر قصصًا في الصحف منذ العام 1954. وبدأ عمله الصحفي في جريدة «الحياة» اللبنانية، ثم في جريدة « النهار» اللبنانية التي واصل العمل فيها، منذ العام 1956، إلى العام 5791، فأصدر، خلال هذه المدة، ملحقها الثقافي الأسبوعي، ورئس تحريرها. 
أسهم عام 1957 مع يوسف الخال وأدونيس، في تأسيس مجلة «شعر»، وأصدر عن دار نشرها، في عام 1960، مجموعة «لن»، وهي أوَّل مجموعة من مجموعات قصائد النثر في الأدب العربي. وتوالت مجموعاته من هذا النوع الأدبي، فبلغت ستَّ مجموعات صدرت بين عامي 1960 و1974. ثم أصدر كتاب مقالات: «كلمات... كلمات»،  في ثلاثة أجزاء، في عام 1978، وكتابًا في التأمُّل الفكري: «خواتم» في جزأين، في عامي 1991 و1997. وصدرت أعماله الكاملة عن هيئة قصور الثقافة في القاهرة عام 2007. التحق عام 2006 بجريدة «الأخبار» اللبنانية، ليكتب فيها مقالًا يُنشر يوم السبت من كلِّ أسبوع، وبقي فيها إلى حين وفاته.
قال أدونيس عنه: «إنه الأنقى بيننا».
هذا الأنقى بين روَّاد «تجمُّع شعر»، ماذا يقول عن الشعر والشعراء؟ 
نجيب عن هذا السؤال، معتمدين مقالاته في «لن» ومجلَّة «شعر» ومجلَّات أخرى مصدرًا لنا.
يرى أنسي الحاج أنَّ الشاعر إنسان مختلف، متميِّز، يمتلك «ملكَة الشعور» التي تتيح له الكشف والرؤيا، كما أنَّه ذو «طبيعة ناريَّة» تصهر وتبدع، في مناخ الحرِّيَّة وهاجس التساؤل والبحث الدائمَين.
ويبدو أنه كان معجبًا  بالمدرسة السريالية الأدبية والفنية. وكان يرى أنَّها «تهدف إلى معرفة كاملة للإنسان والعالم»، وأنَّ روَّادها «المشاغبين» ألَّفوا أهمَّ مركز اضاءة وتفجُّر واحساس شعري في القرن العشرين. (شعر، 9 / 9591 / 18). 
غير أن رؤى أخرى له تفيد بأنَّه لدى العمل في صناعة الشعر لم يكن «مشاغبًا وسرياليًّا»، وإنما كان من الشعراء الذين يذكّرون بـ «صنَّاع الشعر»؛ ذلك أنَّ مرحلة «صناعة الشعر» لديه تأتي بعد مرحلة  الصَّهر والإبداع، فبعد أن ينهي الشاعر الرَّائي هذه المرحلة، وتولد القصيدة بين يديه، تأتي مرحلة التجويد، فـ «يُعيد العمل - في هذه المرحلة ويُكثر الغَرْبلة، يحذف، ويحوِّر، لكن يعاني المشقَّة، بعد ولادة القصيدة، أكثر مما يعانيها من قبل» ( العصر، 4/7/0891، ص.22).
وإذ يكتمل تشكُّل القصيدة بين يديه، يرى أنَّ شعريتها تتمثَّل في «كونها الشعري»، وفي هذا «الكون»  يكتسب العنصر شعريته من توظيفه فيه. يقول: «نرى عند بعض الشعراء سردًا هو عبارة عن ذكر الأشياء... شريط حيادي في الظاهر، لكنه بنظرة بعيدة لاتفكيكية، يبدو متكاملًا ومشبعًا وإعادة خلق، إن لم يكن خلقًا بالتمام». ويرى، من المنظور نفسه، أنَّ الخطابية يمكن أن تكون تخلُّفًا «عندما تستحيل صوت الشاعر الوحيد»، ويمكن أن تكون عنصرًا شعريًا إذا نحن استخدمناها «كفاكهة، أو كعصا لتفجير الانتفاض، من ضمن القصيدة ...» ( شعر، 41 و51/0691/621 و09).
ومن هذا المنظور يقرر أن الواقعية ليست الأداء المباشر، وإنّما هي النفاذ إلى الواقع المستور الذي تراكم عليه غبار الأيام، وأخفته عيوننا السطحيَّة... (شعر /15/ 128).

فهم مشترك
يبدو أنَّ هذا الفهم للواقعية كان مشتركًا بين شعراء هذه المرحلة، فنقرأ لخليل حاوي قوله:  الواقعية هي «واقعية نفَّاذة، عبر الواقع اليومي والأحداث الطارئة، إلى حقائق النفس والوجود التي ترتفع بالطارئ والعابر إلى مستوى البقاء الدائم» (الآداب، 2/5691/1). وهذا الفهم للتجربة التي تملي الشعر يفضي إلى فهم للالتزام يتمثَّل في تبنِّي أنسي الحاج قول عبد الوهاب البياتي: «وأجمل الغناء ما كان من قلوبكم ينبع»، وتقديمه هديَّةً، كما يقول، إلى «دعاة الالتزام»، ويسألهم إن كانوا يوافقون عليه، ويقول: إنَّ الالتزام «يعني صدق الشعور وصدق التعبير، وهو أساس كل غناء»، وأنَّ الارتباط بحياة الجماعة يعني شيئًا واحدًا فقط هو «الاغتناء بتجارب الجماعة والتأمُّل فيها، والانطلاق منها...» ( شعر، 2/7591/ ص28 و38، و01/9551، ص 321).
هذه التجربة الحياتية الشعرية، الشخصية والجماعية التي ينبع الشعر من قلبها، المفضية إلى «التحوُّل الخلَّاق»، تضع الشاعر في مقام «البحث المستمر ودوام الاختراع»، فيقول أنسي: «ليس في الشعر ما هو نهائي. وما دام صنيع الشاعر خاضعًا لتجربته الداخلية فمن المستحيل الاعتقاد بأنَّ شروطًا وقوانين، أو حتى أسسًا شكليَّة، هي شروط وقوانين وأسس خالدة، مهما يكن نصيبها من الرحابة والجمال» (لن، ص 19 و 20).
تثير هذه الرؤية إشكالية الثبات / التحوُّل  في مسار تاريخ الشعر، فإذا كنَّا نعرف أنَّ التحوُّل ثابت من ثوابت هذا التاريخ لا ينفكُّ يحدث مادامت التجربة الحياتية الأدبية المتحوِّلة على الدوام تمليه، فماذا عن الثَّبات في النَّص الشعري المتحوِّل؟

موقف مختلف لأنسي
الثابت الأوَّل يتمثَّل في عملية الإبداع، وقوامها أنَّ التجربة الحياتية الشعرية تملي النصَّ الشعري، وهذا مايراه أنسي، كما مرَّ بنا قبل قليل.
الثابت الثاني هو اللغة وقوانينها، ففي الآونة التي كان ينشط فيها «تجمُّع شعر»، أعلن يوسف الخال الوقوف أمام جدار اللغة، ودعا إلى الخروج على اللغة العربية الفصحى والكتابة بالعامية، وكان لأنسي الحاج موقف مختلف، إذ إنَّه لم يتخلَّ عن الكتابة بالفصحى، ورأى أنَّ «كلَّ شاعر مخترع لغة»؛ لأنَّه «في حاجة دائمة إلى خلق دائم لها»، أي عليه أن يخلق لغته الخاصة من اللغة الفصحى (لن، ص 87)، فالقضية هي قضية الشاعر القادر على إبداع لغته الخاصة، وليست قضية اللغة العربية الفصحى،  فلغة الشاعر العربي الخاصة تولد مع كلِّ مبدع، من اللغة العربية الفصحى.
والثابت الثالث هو ما يمكن تسميته بـ«المؤلِّف الضِّمني» و«القارئ الضِّمني»، المتمثِّلين بالأصول الشعرية الثاوية في ذات كلِّ واحدٍ منهما، الواعية واللاواعية، والتي تسهم في تشكيل تجربته التي يصدر عنها نصُّه، ومن هذه الأصول أصول تراثية يبدو أنَّ أنسي الحاج ما كان يريد التخلِّي عنها، وإنَّما عن تقليدها، أو عن النسخة المعاصرة منها، واحتذاء القالب الجاهز، وهو ما عبَّر عنه بـ «السدّ»، فقال: «ولكي يتمَّ لنا الخلاص، علينا، يا للواجب المُسكر، أن نقف أمام هذا السدّ، ونبجُّه». كان يريد «اختراع لغة شعرية جديدة  وايقاع شعري جديد»، وهذا ما لم يجده في مجموعة يوسف الخال: «قصائد في الأربعين»، فقال: «يوسف الخال... كلاسيكي وُجد في عصر فوضوي، فآلمته الفوضى إلى حد مقاومته لها». (شعر، 02/1691/201). الثابت الرابع يتمثَّل في بنية النوع الشعرية، أو في الخصائص البنيوية النوعية الشعرية التي تعطي النَّصَّ الشعري هويته، وتجعل منه شعرًا، وهي، كما يفيد تاريخ الشعر العالمي والعربي، مجاز  / انزياح لغوي عن المعيار: إيقاعي،  معجمي،  تركيبي، بلاغي،  مجازي رمزي، ينطق لدى تشكُّله بنيةً ذات وحدة برؤية خاصة كاشفة إلى العالم وأشيائه وقضاياه.
وإذ يدعو أنسي الحاج إلى الخروج على القوانين والقيود...، لا تتمثل دعوته في التنويع على قصيدة «الوزن العروضي والقافية»، فهو يرى أنَّ أشكالًا من هذا التنويع لا تعدو أن تكون أشكالًا من « تجزئة البيت» هي في الحقيقة «ممالأة للحركة الحديثة» (شعر، 41/0691/09).
 
قصيدة النثر لدى أنسي
ففيم تمثلت دعوة أنسي للتحرُّر من القوانين والقيود إذًا؟ يمكن الاجابة عن هذا السؤال بالقول:  تمثلت دعوة أنسي الحاج للتحرُّر من القيود والقوانين، وإنتاج التحوُّل...،  في كتابة «قصيدة النثر». فما هي قصيدة النثر، من منظوره؟  
يعرِّف أنسي قصيدة النثر، فيقول: «لتكون قصيدة النثر قصيدة نثر، أي قصيدة حقًا، لا قطعة نثر فنية، أو محمَّلة بالشعر، شروط ثلاثة: الإيجاز (أو الاختصار)، التوهُّج، والمجانية، فالقصيدة، أي قصيدة... لا يمكن أن تكون طويلة ... ويجب أن تكون قصيرة، لتوفِّر عنصر الإشراق، ونتيجة التأثير الكلي المنبعث من وحدة عضوية راسخة «هذا التعريف ترجمة لما أجملته سوزان برنار من نتائج، بعد دراستها نماذج من الشعر الفرنسي، وبلورة نوع أدبي جديد سمَّته poeme en prose، أي في ترجمة دقيقة للمصطلح الذي وضعته، شعر منثور، أو شعر في قالب نثري، وليس «قصيدة النثر». 

الخروج عن الثوابت 
يبدو أنَّ «قصيدة النثر» تخرج على ثابتين من الثوابت التي ذكرناها اَنفًا: أوَّلهما ثابت عملية الإبداع، فقد صدرت قصيدة النثر هذه في مرحلة تأسيسها ونشأتها من المفهوم المستقى من نصوص الشعر الفرنسي، وليس من مسار تاريخي شكَّل تجربة حياتية شعرية، وأنتج نصوصًا استُقي منها المفهوم والمصطلح الدال عليه، وثانيهما الايقاع الشعري، ولا أقصد الوزن الخليلي، وإنَّما أقصد الإيقاع الوزني والنغمي الذي تمليه التجربة الحياتية الشعرية، والنظام الموسيقي الخاص الذي تلده هذه التجربة، ومن دون هذا النظام الإيقاعي اللغوي ليس من شعر حقيقي، لأنه مكوِّن أساس من مكوِّنات النوع الشعري.
إن الكلام عن إشكاليات قصيدة النثر كثير، وما أودُّ قوله هو أن: القصيدة  «فعيلة» من قَصَد، أي صيغة مبالغة من القَصْد، وتعني قصيدة الشعر، لغويًا واصطلاحًا، القَصْد إلى تجويد نصٍّ شعري يمثِّل تجربة عيش كاملة (يتألَّف من سبعة أبيات أو عشرة)، وإحكام بنائه، والمبالغة في ذلك، ليأتي مجوَّدًا، محكم البناء، ذا وحدة عضوية، مكثَّف اللغة، ينطق بدلالة كلية كاشفة. بهذا المعنى يصنع الأديب من الشعر قصيدة، ويمكن أن يصنع من النثر قصيدة، هي قصيدة نثر، لا قصيدة شعر،  تكون نوعًا أدبيًا جديدًا، مثلها مثل الأنواع الأخرى التي نشأت في العصر الحديث وتطوَّرت، كالرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جدًّا. وقد ميَّز أنسي الحاج بين الشعر والقصيدة، فقال: القصيدة «تقوم على عناصر الشعر لا لتكتفي بها، وإنما لتعيد النظر فيها...»، ويرى أنَّه «مادام الشعر لا يُعرف بالوزن والقافية فليس ما يمنع أن يتألَّف من النثر شعر، ومن شعر النثر قصيدة نثر» (راجع للمزيد: لن،  ص 01 و41 و شعر، 91/1691/501).
تتمثل الإشكالية هنا، في «أن يُصنع من النثر شعر»، أي أن يُصنع من نوع أدبي نوع أدبي اَخر مختلف عنه تمام الاختلاف، أي مختلف عنه في  بنية النوع، وليس في تجلياته، فقصيدة النثر قَصْدٌ إلى إحكام بناء النثر وتجويده، وليست قصدًا إلى إحكام بناء الشعر، وذلك لأنها تفتقر إلى مكوِّن أساس من مكوِّنات الشعر، وهو نظام الإيقاع اللغوي، أو إلى النظام الموسيقي: الوزن والنغم، الذي يميِّز الشعر، ويُكسب النصَّ هويته. لهذا، كما يبدو لي، ليس يضير «قصيدة النثر» أن تكون نوعًا أدبيًّا جديدًا يُصنع من النثر وليس من الشعر.
حاولنا في هذه المقالة، أن نتبيَّن رؤى أنسي الحاج النقدية، عن طريق قراءة في نماذج من خطابه النقدي، قد تكون دالَّة على رؤى فئة من الشعراء اللبنانيين إلى الشعر، في مرحلة من مراحل تطوُّره ■