تحولات مسرحٍ حيّ عن دينامية التحديث في المسرح المغربي
ارتبط المسرح المغربي الذي أنتجته الحركة الوطنية منذ إرهاصاته الأولى بالهموم الوطنية والشعارات القومية وقضايا التحرّر؛ فكان منذ البداية مسرح مواقف نضالية تكثِّفُها «تمثيليات» ألَّفها سياسيون من قادة الحركة الوطنية فشحنوها بخطاباتهم التحريضية المُناكفة للاستعمار والدّاعية إلى التحرُّر من ربقته.
لعل انتباه الإدارة الفرنسية من خلال ممثِّلها بالمغرب المسرحي الفرنسي «أندري فوازان» إلى هذا الدّفق النضالي الوطني هو ما جعلها تُبلور سياسة مسرحية بديلة تعود إلى الأشكال «ما قبل مسرحية» من حلقة وحكواتي و«بساط» ومواكب دينية وغيرها من أشكال الفُرجة المغربية الشعبية، منطلقةً من هذا الموروث الفُرجوي الإثنوغرافي والفولكلوري لرسم توجُّهٍ جديد لهذا المسرح.
الصديقي ... رائد مسرحي
بما أن الطيب الصدّيقي، الرائد المسرحي الكبير، كان من تلامذة «أندري فوازان» النابغين فقد سار على نهج أستاذه مُستلهِمًا بشكل خلّاق أسلوبَه في البحث المسرحي. لكنَّ عُمق الثقافة المسرحية للصدّيقي جعله يرسم لتجربته منعطفًا مختلفًا. صحيح إن دور أندري فوازان كان حاسمًا في توجيه تلميذه النّبيه باتجاه الفرجة الشعبية، لكنَّ الصدّيقي لم يكتف باستعادة تلك الفُرجات البسيطة، بل بحث عميقًا في مختلف أشكال التراث الدرامي العربي السردية والفنية ليصير من أكثر المسرحيين العرب نبشًا في هذا التراث بحثًا عن فرجة عربية أصيلة. هكذا استُقبِلت تجربته بالأحضان في مجموع العالم العربي الذي كانت طليعتُه المسرحية مشغولة في الستينيات وسبعينيات القرن الماضي بهواجس التأصيل، فوجدَتْ في أعمال الصدّيقي التحقُّق الأمثل لهذا الطموح.
هكذا عاد الصديقي إلى فرجة «سلطان الطلبة» الشعبية التي كان الطَّلبة يتسلَّوْن بها في حاضرتي فاس ومراكش وانطلاقًا منها قدَّم مسرحيته الرائدة (سلطان الطلبة) سنة 1965، كما اشتغل على سيرة أهم شاعر شعبي جوّال عرفه المغرب وهو الشيخ عبدالرحمان المجذوب ليؤلِّف انطلاقًا من أشعاره رائعته المسرحية (ديوان سيدي عبدالرحمان المجذوب) سنة 1967، ثم عاد إلى شعر الملحون الشعبي ومنه بَلور عمله المسرحي الأشهر (الحرّاز) سنة 1970. ولأن هواجس التأصيل العربية أسرَت الصديقي خصوصا بعد النجاح الكبير الذي صادفَتْه عروضُه في كلٍّ من الجزائر وبغداد ودمشق وغيرها من العواصم العربية، فقد عاد إلى فن المقامة العربية يشتغل عليه، وانطلاقًا من هذا الجنس السردي العربي الأصيل بلور مسرحيته المتميزة (مقامات بديع الزمان الهمذاني) سنة 1971. كما استلهم سيرة أبي العلاء المعري، وانطلاقًا من رسالته الأشهر قدّمَ مسرحية (الغفران) سنة 1975، ليعكف بعدها على التراث الأدبي والفكري لأبي حيان التوحيدي ومنه أعدّ وأخرج عمله المسرحي الأعمق (الإمتاع والمؤانسة) سنة 1983.
وإذا كان ديستويفسكي قد اعترف مرةً بأنه وزملاءه من رموز الأدب الروسي قد خرجوا جميعًا من معطف غوغول، فإن أغلب رموز المسرح والفن المغربيين خرجوا من معطف الطيب الصديقي، بدءًا بالمجموعة الغنائية الشهيرة «ناس الغيوان» التي كان أعضاؤها ممثلين في فرقة الصديقي يقدّمون أهازيجهم على خشبة مسرحه، مرورًا بأهم الفرق المسرحية التي صنعت ربيع المسرح المغربي في فترة السبعينيات والثمانينيات وعلى رأسها فرقة مسرح اليوم للراحلة ثريا جبران التي انْسلَّت خارج عباءة أستاذها الطيب الصديقي لتؤسّس مع رفيق دربها المخرج عبدالواحد عوزري تجربة مسرحية قوية انطلقت بمسرحية (حكايات بلا حدود) سنة 1987، وشكّلت أهم ظواهر المسرح المغربي خلال تسعينيات القرن الماضي.
دون أن ننسى التجربة الاحتفالية التي رغم صفةِ «الصِّدامية» التي ميّزَتْها ظلت تتقاطع في العمق مع الأفق الجمالي لتجربة الطيب الصديقي؛ فقد ظل مُنظِّر التيار الاحتفالي عبدالكريم برشيد يؤمن بأهمية العودة إلى الفُرجات الشعبية والحكواتي، لكنْ بطريقته. فالاحتفالية بالنسبة له «موقف قبل كل شيء. موقفٌ جدَلي، نقدي ضِدّيٌّ متحرّك. موقفٌ من الواقع والتاريخ، من الناس ومن الأشياء، من حركية التاريخ، ومن التفكير والفكر». وإذا كان الطيب الصديقي قد اشتغل على عدد من رموز الثقافة العربية في أعماله: الهمذاني، أبو نواس، أبوحيان التوحيدي، فإن عبدالكريم برشيد لن يتردّد في استدعاء شخصياتٍ ورموزٍ من نفس الماضي الحضاري، لكنه تعامل معها بطريقته الخاصة، أي انطلاقًا من موقفه الجدلي الضّدّي الذي يُفصح عن نفسه ومشروعه منذ عناوين أعماله: (ابن الرومي في مدن الصفيح)، (امرؤ القيس في باريس)، (النمرود في هوليوود)، (ابن رشد بالأبيض والأسود)، (عطيل والخيل والبارود)، وغيرها.
لكنَّ التفاعل مع تجربة الصديقي لم يتحقّق فقط باستلهامها والسير على منوالها، أو مشاكستها فنيًا وإبداعيًا، بل برفضها أحيانًا والاعتراض عليها بشراسة. هكذا أنتجت حركة مسرح الهواة بالمغرب خطابًا مسرحيًا ضدّ السلطة والمسرح، الذي يخدم أطروحتها ورؤيتها للعالم والمجتمع، مع أن الكثير من هذه التجارب ظلّ عند حدود الشعارات. لكن هناك أيضًا تجارب أنتجها هذا الموقف الفني الرافض كان لها نصيبٌ مُعتبَر من التوهُّج الفني. وهنا نستحضر - مثلًا - تجربة نبيل لحلو، هذا الفنان الذي بدأ يبشّر بمسرح طليعي في المغرب، أول شروط تحقُّقِه بالنسبة له التخلص من أوهام الخصوصية والمحلية والقطع مع الجماليات التأصيلية والرؤية الفلكلورية للمسرح. بالمقابل، بدأ نبيل لحلو يبشّر بجمالياتٍ مُضادَّة، أو على الأقل بجماليات حديثة تجلّت في الأعمال التي تولّى تأليفها وإخراجها بنفسه: بدءًا بعمله الأول (أوفيليا لم تمت) 1969، ثم (السلاحف) و(الإمبراطور شريشماتوري).
وتسجِّل الناقدة المسرحية الدكتورة أمل بنويس على نبيل لحلو وغيره من الطليعيين المغاربة توزُّعَهم ما بين متاهات يوجين يونسكو اللغوية، وتعليمية برتولد بريشت السياسية رغم أنهما على طرفَيْ نقيض. وكأنها تريد أن تقول إن التّلفيقية التي ظلوا ينتقدونها في أعمال الصديقي الذي حاول التوفيق بين المسرح كفنٍّ غربي والأشكال الفُرجوية التقليدية قد طالتهم هم أيضًا حينما جمعوا النقيضين يونسكو وبريشت فوق خشبة واحدة.
تعدد التجارب المسرحية
منذ التسعينيات تضاعفت أعداد الفرق المسرحية وبدأت التجارب الإخراجية تتعدّد. وبدأ السّجال بين الاختيارات المسرحية المختلفة يخبو ويفقد حرارته بعد أن صارت المُجاوَرَة هي الأصل. لا أحد يُلغي الآخر أو يحسُّ أنه لن يُرسي دعائم خشبَتِه إلّا على أنقاض خشبة غريمه. فالمسرح فُرجةٌ تُصنَع لتُقترَح على الجمهور.
ومن الطبيعي أن تتعدّد الفرق والتجارب المسرحية، وتتنوَّع الأساليب والجماليات والاختيارات الفنية بتعدُّد أصناف الجمهور. لكن الملاحظ هو أنه مع بداية التحاق الدّفعات الأولى لخرّيجي المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي الذي تأسس سنة 1985 بدأت الساحة المسرحية تتعزز سنويًا بطاقاتٍ مسرحية جديدة، ذات تكوين أكاديمي في مختلف التخصصات. هكذا تأسّست فرق مسرحية في مختلف جهات البلد، وفي شتى المدن والحواضر؛ فبدا جليًّا أن المسرحيين الجدد لم يعودوا مُفكِّرين من أصحاب المواقف والتنظيرات، بل هم حِرَفيون متخصّصون يجتهد كلٌّ في مجال تخصُّصِه الذي تلقّى فيه التكوين. فالمخرج يتفانى في مجاله، والسينوغرافي يحرص على مزاحمة المخرج في عمله فتظهر بصْمَتُه هو الآخر على الخشبة، أما الممثل فيُجهِد نفسه ليقدِّم إضافتَه بتمَكُّن. حتى خرِّيجو شعبة الإدارة المسرحية التحقوا بالفرق لتعزيز عملها وتمكين مبدعيها من بحبوحة التفرُّغ للإبداع (كتابة، دراماتورجيا، إخراج، سينوغرافيا، ملابس، ديكور، إنارة، صوت، موسيقى...) خصوصًا بعدما رصد المهرجان الوطني للمسرح الذي صار يلتئم بوتيرة سنوية جوائزه لصُنَّاع الفرجة المسرحية من مختلف التخصُّصات.
صار المسرح ورشة عمل فنية حرفية أكثر منها منتدى فكريًا كما كان عليه الحال في السابق. وإذا كان هناك بين المسرحيين والمثقفين ورجال الإعلام مَن يفتقد حرارة النقاشات النظرية القديمة التي عاشها المغرب في الستينيات والسبعينيات خصوصًا مع جماعة الاحتفاليين التي يتزعمها عبدالكريم برشيد وجماعة المسرح الثالث ومسرح المرحلة وغيرها، فإن هناك من اعتبروا الأجواء الجديدة أفضل من سابقتها. فهي تُوفِّر ظروفًا أهدأ للاجتهاد بدل هدْرِ الطاقة في السِّجال. ودليلُهم على ذلك أن المغرب سيعيش ربيعه المسرحي بسبب هذه الظروف، حيث بدأت الفرق المغربية المحترمة بأسمائها الإخراجية الجديدة تكسب المساحات وتحظى بالتتويج في مختلف المحافل العربية. هكذا مثلًا فازت المخرجة أسماء هوري ومعها فرقة «أنفاس» بالجائزة الكبرى للمهرجان العربي للمسرح في دورته التاسعة بوهران عام 2017 عن مسرحيتها (خريف)، ثم عاد المغرب إلى منصة التتويج في تونس، حيث فازت مسرحية (صولو) لمحمد الحر بالجائزة الكبرى للمهرجان العربي في دورته العاشرة سنة 2018.
مع العلم أن مهرجانات أخرى عديدة شمال المتوسط وجنوبه بدأت تحرص على حضور التجارب المسرحية المغربية في برمجتها المسرحية مما عزَّز سمعة المسرح المغربي في محيطه العربي والمتوسطي، حتى إن بعض فرقه بدأت تستقطب خبرات فنية من خارج البلد، كما فعلت فرقة «دوز تتمسرح» الذي استقطبت مخرجًا عربيًا كبيرًا من قيمة جواد الأسدي ليشتغل معها في عرض (الخادمتان) عن نص لجون جونيه. لقد بدا واضحًا أن المسرح المغربي قد بدأ، على الأقل في تجاربه الأهم ينحو باتجاه الانخراط في دينامية المسرح المعاصر. وفعلًا فالفرق التي تصنع الربيع المسرحي اليوم بدأت تنحاز للجماليات المعاصرة على مستوى مختلف عناصر صناعة الفرجة، حيث بدأ التشخيص يتحوّل من التمثيل إلى الأداء، ومن تقمُّص الشخصيات إلى استعراض الأدوار.
كما بدأ المسرح المغربي ينفتح أكثر فأكثر على مختلف أشكال الفن المعاصر من الكوريغرافيا والرقص المعاصر وباقي فنون الجسد إلى البيرفورمانس (فن الأداء) وصولًا إلى التجهيز وفن الفيديو. بل بدءًا بالكتابة، صار المسرح ينهل من باقي الأجناس الأدبية من رواية وشعر ويوميات، وبدأت الكتابة الدرامية في المغرب اليوم تتجاوز الكتابة الدرامية التقليدية إلى التَّشذير والتقطيع واستخدام المونولوغ وغيرها من الأساليب التي تُخرِج النص المسرحي من تماسُكه السابق لتحوِّله إلى عجينة يمكن للمخرج عجنُها بأريحية وتفتيتها بحُرِّية ليُشكِّل بها عالمه المسرحي الخاص بروح تجريبية تستثمر في الجماليات أكثر مما تتكئ على النص المسرحي كما كان الحال في السابق.
هكذا لاحظنا كيف عادت أسماء هوري في مسرحيتها (خريف) المتوَّجة بجائزة مهرجان المسرح العربي، إلى مذكرات أختٍ لها كانت مُصابة بالسرطان دوّنت في دفترها الحميم يوميات معاناتها مع المرض ففجّرت المخرجة الشابة من هذه اليوميات المتناثرة عرضًا فنيًا عرف كيف يحوّل التشظّي والتمزُّق إلى تماسُكٍ فني وانسجام جمالي في عمل يتجاوَرُ داخلَهُ التعبير الجسدي والرقص والعزف الموسيقي الحيّ. محمد الحر المُتوَّج الثاني بالجائزة الكبرى لمهرجان المسرح العربي عاد إلى رواية (ليلة القدر) للطاهر بنجلون ليستثمرها كخلفية لكتابته الدراماتورجية البديعة والمُبتكَرة. مع العلم أنه حتى الفرق الجديدة التي حافظت على الحكاية والبناء الكلاسيكي للعمل المسرحي والمنحى الترفيهي الفرجوي في أعمالها كفرقة مسرح تانسيفت التي يقودها الكاتب والمخرج المسرحي حسن هموش؛ فقد عرفت كيف تستثمر في الجماليات المعاصرة لتجديد فرجتها، بدءًا باللعب داخل اللعب، والمسرح داخل المسرح والاستخدام الذكي والرشيق للموسيقى والغناء في أعمالها، والاجتهاد على مستوى المُقترَحات السينوغرافية والملابس وما إليه، ما جعل هذه الفرقة تصير مضرب المثل في الاستقرار الفني؛ حيث تشتغل منذ أكثر من عشرين سنة بوتيرة منتظمة وبمعدل ثلاثين عرضًا في السنة.
بل إن هذه الفرقة ستنجح في أكثر من عرض في تحقيق المعادلة الصعبة: كسب احترام النقاد والمُتخصِّصين وتأمين الإقبال الكبير للجمهور العريض على أعمالها في الآن ذاته. ويكفي أن نذكر هنا عناوين (كيد الرجال)، (مرسول الحب)، (ناكر لحسان)، لنجد أنفسنا أمام أعمال ناجحة جماهيريًا يتكرّر بثُّها على شاشات التلفزيون بالمغرب لأنها نجحت بفضل خفة دمها وحيوية حواراتها وذكاء فكرتها وبراعة ممثليها في نيل استحسان مختلف شرائح المجتمع، ومختلف الفئات العمرية بما في ذلك الأطفال.
وجب التنويه إلى أن فرقة مسرح تانسيفت تحمل اسم وادي تانسيفت أشهر أودية مراكش ما يدلُّ على الانتماء الجهوي للفرقة. وهذا عنصرٌ إضافي من عناصر ثراء التجربة المسرحية المغربية. فهي تجربةٌ لا تحتكرها العاصمة الثقافية والإدارية الرباط، ولا حتى العاصمة الاقتصادية الدار البيضاء. بل إن لكلِّ جهة من جهات المغرب فرقها التي تحظى بسمعة وطنية ولا يُنظَر إليها كتمثيليات لمُدنها وجهاتها، وإنما كنماذج تضيء المشهد المسرحي الوطني وتُجيد تمثيله خارج حدود البلد ككل. هذا البُعد الجهوي للمسرح في المغرب كان حاضرًا منذ الستينيات حيث اشتهرَت في مراكش- مثلا- تجربة فرقة الوفاء المراكشية مع مخرجها الراحل عبدالسلام الشرايبي، وهي الفرقة التي اعتُبِرت على امتداد عقدي السبعينيات والثمانينيات من أهم تجارب المسرح الشعبي في المغرب.
لكن مع بداية الألفية الجديدة اتخذ وزير الثقافة السابق الأديب محمد الأشعري قرارًا يقضي بإنشاء فرق جهوية تابعة لوزارة الثقافة في ست جهات. ورغم أن المشروع لم ينجح إداريًا وتنظيميًا، لكنه ساهم في تكريس جهوية مسرحية خصبة. هكذا تحولت الفرقة الجهوية في مراكش إلى فرقة مستقلة هي مسرح تانسيفت، وتحولت الفرقة الجهوية لمكناس إلى مسرح الشامات، الفرقة المتميزة التي يرأسها ويُخرج أعمالها الفنان بوسلهام الضعيف، فيما تميزت تجربة اللواء في الدار البيضاء مع الفنان المجتهد بوسرحان الزيتوني، وتميَّز في طنجة الزبير بن بوشتى الذي أسّس مسرحًا صغيرًا للجَيْب في قلب قصبة المدينة العتيقة، من دون أن نستثني دينامية المسرح الأمازيغي في كلٍّ من أكادير والحسيمة وإسهامات المسرح الحسّاني في مدينتي العيون والداخلة وباقي حواضر الصحراء المغربية.
دور محوري للمرأة
ولأن كل «ما لا يُؤنَّث لا يُعوَّل عليه»، فقد كان للمرأة دورٌ محوري في صناعة هذه الفورة المسرحية التي يعرفها المغرب في السنوات الأخيرة. صحيح إن الراحلة ثريا جبران كانت سبّاقة إلى التألق من خلال تجربة مسرح اليوم التي وقَّعت على عطاء منتظم ومسار لافت في تسعينيات القرن الماضي، لكن ثريا جبران كانت مديرة الفرقة ونجمتها، فيما تولّى زوجُها عبدالواحد عوزري إخراج الأعمال التي تقدِّمُها الفرقة. هذه المرّة وجدنا أنفسنا إزاء جيل جديد من الفنانات يتولَّين الإخراج والتمثيل، كما تفعل الفنانة لطيفة أحرار في أعمالها المونودرامية وأشهرها: (كفرناعوم)، و(العازفة)، وأحيانا تقوم أحرار بإخراج مسرحيات لفرق أخرى وتكتفي بدور المخرجة من دون أن تصعد الخشبة ممثلةً بالضرورة. نفس الشيء ينسحب على سامية أقريو الممثلة المتألقة والمخرجة أيضًا، والتي أسَّست مع رفيقات لها أول فرقة نسائية مائة بالمائة، وهي فرقة «الكعب العالي» التي اشتهرت بعملها المتميز «بنات لالّا منّانة»، من إخراج سامية أقريو، وهو عرضٌ كلُّ عناصرِ فريقِه الفني والتقني نساء.
وقد حاولت الفرقة في هذا العمل إثارة الانتباه إلى أنَّ كل المهن المسرحية تم تأنيثُها، وهذا صحيح. فقد صارت لنا نجمات مسرحيات ليس في التمثيل والإخراج فحسب، بل في الكتابة أيضا، وفي السينوغرافيا والملابس وإدارة الإنتاج. ويكفي التذكير من جديد بأن أوَّل تتويجٍ للمغرب بجائزة المهرجان العربي للمسرح كان من نصيب مخرجة أنثى، هي أسماء هوري. ومن التجارب النسائية اللافتة في المغرب هناك أيضًا تجربة مسرح الأكواريوم مع مؤسِّسَة هذه الفرقة ومخرجتها نعيمة زيطان التي تؤمن بأن المسرح في مجتمع تقليدي محافظ يجب ألا يكتفي بصناعة الفرجة، بل عليه أن ينخرط في التوعية والتربية والتثقيف، هكذا نذرت نعيمة نفسها منذ انطلاق تجربة الأكواريوم سنة 1994 للتحسيس بقضايا المرأة ومطالبها بل أحيانًا تسعى إلى تأمين نوع من التربية الجنسية عبر المسرح، وفي هذا الإطار يندرج عرضُها المُثير للجدل (ديالي) الذي فاجأت عبره المجتمع المغربي، هي ومُمثِّلاتُها، بطرحهن قضايا بالغة الحميمية بجرأة لم يكن المجتمع المغربي معتادًا عليها.
المسرح أبو الفنون ما في ذلك شك، لكن المسرح المعاصر اليوم عرف كيف يجدّد نفسه بانفتاحه على مختلف الفنون الجديدة المُستحدَثة، والمسرح المغربي المنفتح على ضفَّتَيْ المتوسّط الشمالية والشرقية عرف كيف يبلور لنفسه أفقًا جديدًا يُراوِح ما بين عمقه العربي وانفتاحه الثقافي واللغوي على الجوار الأوربي، ما جعله يحتل موقعًا أساسيًا في قلب الدينامية التجديدية التي يعيشها المسرح العربي المعاصر ■