الحَيَاة حَتَّى آخِر حَبَّة رَمْل

الحَيَاة حَتَّى  آخِر حَبَّة رَمْل

كيف يمكنك أن تُخْرِج فيلمًا لمدة عرض تتجاوز الساعة ونصف الساعة بممثل وحيد، وقداحة، وهاتف محمول، وسكين، وقلم، وساعة، وثعبان، وكشَّاف؟ وتستطيع أن تجعل المشاهد في حالة من الشغف معك طوال الفيلم تحت الأرض، داخل تابوت، يُتَابع ما يحدث في الظلمة من دون إضاءة باهرة... هذا ما فعله المخرج رودريجو كورتيس في فيلم Buried (مدفون)، الذي تم إنتاجه في إسبانيا، كتب له السيناريو كريس سبارلينج وقام ببطولته المطلقة الممثل الكندي رايان رينولدز.

 

لن تَخْرُج طوال مشاهدة الفيلم من بطن الأرض، لن يسمح لك المخرج بأن ترى شجرة، أو فتاة تحب فتى، لن ترى جدول ماء، ستظل طوال مدة الفيلم مدفونًا مع البطل في الرمال، حتى تشعر بمشاعره وتحسّ بأحاسيسه، لن يسمح لك المخرج ولا صُنَّاع الفيلم بأن تطل بعينيك خارج التابوت، فقط سيجعل خيالك يتصوَّر قيمة الحياة، وقيمة شَرْبة ماء، وأهمية أن تكون في بيتك تستمتع بسريرك ووجبتك الدافئة مع أسرتك. لن نغلق أعيننا عن الشاشة، على الرغم من أننا نعلم أن المدفون هو هو لم يتغير أي شيء في ملامحه أو حركته، نحن نتابع دراما من منطقة سكون حركة المدفون.

ظلمة محكمة
فور أن تنتهي مقدمة فيلم Buried وموسيقاه اللافتة والسريعة، تجد أمامك شاشة سوداء، يستمر هذا السواد فترة زمنية حتى تكاد تختنق من بداية الفيلم، وتريد أن تنفتح الشاشة؛ لترى البداية، وعند بداية الملل الشديد المستفز يأتيك ضوء ضعيف لشخص محبوس، كل ما يملكه هو ضوء باهت، كيف لم نتحمَّل هذا السواد القليل في بداية الفيلم وبطل الفيلم في ظلمة مُحْكَمة؟! يقول الفيلم إن ما يحدث لا يطيقه إنسان، فأنت أيها المشاهد لم تتحمَّل ظلمة الشاشة؛ لأنها طالت قليلًا، وبدا عليك الملل، فما بالك بمن يعيش الآن أمامك في تابوت ليس معه غير بصيص من نور مرتعش، محبوس في العمق، حتى طريقة حمله للقداحة تمثِّل صعوبة في وجوده المكبوت داخل تابوت، وهو أيضًا مربوط الفم واليدين، وحين تقع الخرقة من فمه بعد محاولات صعبة ومجهدة، تصدر منه صرخة استغاثة من دون كلمة؟!
حين تظلم الشاشة مرة أخرى تكون مشاعرنا قد تغيَّرت ناحية إدراك الظلمة، يغزو قلوبنا الإشفاق على هذا المدفون بعد أن كانت الظلمة توترنا نحن، فقد أدركنا أن غيرنا يعاني أمامنا من ظلمة أشد، هذا المدفون داخل صندوق في عمق التراب، يمنحك صُنَّاع الفيلم جزءًا من حيوية الأمل حين تكتشف أن لديه هاتفًا محمولًا.
عن طريق هذا الهاتف سنعرف المعلومات الأساسية عن بطل الفيلم، ويكون هو وسيلة التواصل بينه وبين العالم فوق الأرض، ووسيلة التواصل بيننا وبين الحكاية التي تدور الآن. 
سنكتشف أنه مدفون في العراق، وهو سائق أمريكي يعمل لدى شركة (ك.ر.ت)، وهو ليس جنديًا بل متعاقد مدني تعرَّض للهجوم في بغداد، وأنهم قتلوا جميع السائقين الآخرين، هذه المعلومات حصلنا عليها مع مزيد من التوتر والتنفس السريع والحديث اللاهث في الهاتف، لقد فهمنا قبل أن ندخل للحكاية من هذه الدقائق أن العراقيين قساة، دفنوا سائق شاحنة بريئًا. يريد صُنَّاع الفيلم أن نكتسب التعاطف مع المدفون منذ البداية، وأن يمس قلوبنا هذا الأمريكي البريء المدفون تحت الأرض، وبالتالي نكره العراقيين، وطوال المأساة التي سيتعرَّض لها في بطن التراب.
حين تظلم الشاشة بعد ذلك يكون لدينا مشاعر تَرَقُّب نحو المدفون، الذي نعرف أن اسمه بول كونري، ونستمر في معرفة أنه أثناء نقله بعض المواد الغذائية ألقى بعض الأطفال الحجارة على شاحنته، ثم انفجرت عبوات ناسفة، وخرج مجموعة من الرجال من وراء المنازل معهم أسلحة، وظلوا يقتلون في السائقين العُزَّل. 
لقد أغمى عليه ووجد نفسه داخل تابوت، هذا ما حدث في الخارج، وهو يأخذك الآن بخيالك عبر تصور ما حدث معه قبل أن يُدْفَن، واجبك الآن وقد تورطت في مشاهدة الفيلم أن تصنع الصورة التي حكاها لك في ذهنك ومخيلتك، أن تعيش الحدث بكامل خيالك وأحاسيسك، حتى تتابع ما يحدث داخل رأس المدفون. لك أن ترى انفعاله المتوتر بشدّة حين ينقطع الاتصال الذي يجريه، كأنه قد مسه تيار كهربائي صاعق.
حين يتَّصل به من دفنوه تتحوَّل الصورة التي أمامنا إلى خيط رفيع في منتصف الشاشة، شِقُّ رفيع نشاهد منه المدفون، يأتيه الصوت هادئًا مطمئنًا، ونحن نكاد لا نرى تمثيلًا، فقط خيطًا ضعيفًا من الضوء، لكننا في غاية التوتر، نتابع المحادثة الهاتفية بشغف لمعرفة ما يحدث، وكأنَّ أحدًا من الذين دفنوه يراه معنا الآن ويتابعه من هذا الشق.
 
أمريكا والعراق داخل التابوت
حين اتصل بول كونري بوزارة الخارجية الأمريكية تحركت الكاميرا بسرعة وأضاء وجهه وبانت طلَّة أمل في عينيه، كأنه وجد الحل، وهذا يعطينا الإحالة المقصودة لاحترام وزارة الخارجية الأمريكية؛ لأنها القادرة على الفعل وهي المُنْقِذ الحقيقي لهذا الأمريكي المدفون تحت الأرض في العراق، ومن هنا يتَّضح الجانب السياسي في الفيلم، فالمدفون لا ذنب له، فهو سائق وليس جنديًا، وأحد الذين دفنوه يخبره عبر الهاتف: «أحداث 11 سبتمبر لم تكن ذنبي، ومع ذلك أنتم هنا، صدام لم يكن ذنبي، ومع ذلك أنتم هنا» والمدفون يردد: «أريد فقط العودة إلى دياري»، والذين دفنوه يريدون خمسة ملايين، ويريدون فيديو لفضحه على العالم، والأمريكيون يخشون من هذه الفضيحة، خصوصًا مع قناة الجزيرة ويردِّد المدفون للأمريكان: «هذا كل ما يهمكم، أليس كذلك، لا تكترثون لأمري». 
وأراد قادته في العمل أن يخرجوا من اللعبة ففصلوه من وظيفته؛ بحجة أنه كان متورطًا في علاقة مع إحدى الموظفات بشركته، فهو الآن عمليًا لم يعد موظفًا في شركة (ك. ر. ت)، أي ليسوا مسؤولين عن أي خطر يقع عليه، لقد نظفوا أيديهم وضمائرهم منه تمامًا بشكل رسمي، وتنسحب الكاميرا ويبدو التابوت، كأنه يمتد بعيدًا جدًا لعمق طويل جدًا في باطن الأرض، ويبقى الصراع داخل التابوت بين المدفون الذي يحاول أن تنقذه دولته أمريكا من العراقيين الذين دفنوه ودفع الدِّيَّة له، لكن للسياسة حسابات أخرى، فأمريكا لا تتفاوض مع الإرهابيين، وفي الوقت ذاته يدخل العراقيون التابوت عن طريق الضغط على أمريكا بواسطة هذا المدفون وغيره. 

أمومة رائقة 
هذا المصباح الإضافي الذي اكتشفه المدفون في التابوت جعل الكاميرا تتجوَّل براحة أكثر، كأننا صرنا في براح، فقط براح الضوء، تستعرض حركة جسم بول كونري وتتابع توتراته وخبطاته في خشب التابوت، والتي لم نكن نراها من قبل. 
 كانت لقطة مميزة حين وضع الهاتف على بطنه ليستريح قليلًا، فرنَّ الهاتف رنَّة أزعجت الهدوء للدرجة التي شعرنا فيها بتوتره الشديد، وعلمنا في داخلنا أن هذه الرنَّة المزعجة يجب أن تكون من الذين دفنوه، وبالفعل حين تحدث الطرف الآخر شعر بول كونري بالاختناق وأصابته أزمة، لقد وتَّرَتْه المكالمة، فقد كانت مكالمة صارخة تطلب تسجيل فيديو، لكنه تماسك وهدأ وشرب دواءه.
حين تحدَّث لأمه كان صوته هادئًا جدًا، تخلَّص من كل التوتر، صار حنونًا ناعمًا، يطلب حنان الأم، يريد أن يطمئنها ويطمئِن، كانت مكالمة حزينة، لقد لاحظنا أن والدته مصابة بألزهايمر، فهي طوال المحادثة لا تتذكَّر سوى أنها لعبت مع والده الورق، مكالمة شفيفة، كنا نتمنَّى أن نرى هذه الأم، فتصوَّرنا أمهاتنا في خيالنا، كانت لحظات قاسية، لم تُبْكِه الحَبْسة والدفن اللذين تعرض لهما، لكن هذه المكالمة أبكته، وشعر بأنها المكالمة الأخيرة، أصابنا الحزن معه، وفي تلك اللَّحظة للمرة الأولى ينكشف وجهه بوضوح، مليء بالدموع، كان رايان رينولدز بارعًا في أن يجعلنا ننسى أنه مدفون تحت الأرض، ونندمج معه في حالة الأمومة الرائقة.
لما عَرَضوا عليه مشهد فيديو عن طريق رسالة لهاتفه، يصور ما قالته امرأة رفضت السلطات الاستجابة لمطالب الإرهابيين المالية، فأطلقوا عليها الرصاص، لقد شعر بأن حياة أسرته في خطر، وأنهم قادرون على الوصول إلى أسرته والنيل منها، وبدأ تسجيل الفيديو الذي طلبوه ثم لحظة وكأنه نام، وأظلمت الكاميرا؛ كي يستريح ونستريح معه من هذا التوتر، ولم نشعر بطول مدة الظلمة على الشاشة.
تأتي لحظة في غاية التوتر حين يخرج ثعبان ويتحرَّك داخل ملابسه، الآن هو وثعبان قاتل يريد أن يلدغه، وأصابه الذعر والخوف المكتوم، وبدأ تنفسه يختنق، هو والثعبان داخل تابوت مغلق، حياة أخرى معه تريد أن تلدغه، وبدأ هنا صراع حقيقي، وموسيقى رفعت حِدَّة الصراع بين ثعبان يخرج لسانه يريد أن يلدغ، ومدفون يريد المحافظة على حياته، والهاتف يرد، وأَوْقَد القداحة، وخاف الثعبان وخرج من الشِّق الجاني الذي جاء منه دون أن نراه ساعة قدومه.
عندما تم استخدام الإضاءة الحمراء من البطارية وصار التابوت بلون الدم شعرنا بأن دماء ستسيل، وفي تلك اللَّحظة ضغط التابوت عليه وبدأت الرمال تنزف من أعلى تريد أن تخنقه، ويقترب الفيلم من النهاية ويسجل وصيته الحزينة، ويظل ينظر لضوء القداحة الذي أخذ يتضاءل كضوء شمعة أزرق، وتنهمر الرمال كخيط ماء ضعيف يريد أن يغرقه ببطء، وينفِّذ رغبتهم ويسجل فيديو آخر ويقطع إصبعه ونتألم معه وهو يصرخ وتسيل دماؤه. 
وفي اللَّحظة الأخيرة يرن الهاتف وتعرف فرق الإنفاذ مكانه وتخبره أنها ستأتي إليه، وتحدّثه زوجته، ونشعر بأن النهاية السعيدة المنقذة توشك على المجيئ، وأنه سيخرج وسيحتضن زوجته، ويأتيه الصوت: «تماسك، نحن فوقك تمامًا، تقريبًا وصلنا»، ونكاد نتنفَّس بعمق؛ فإنقاذ المدفون يوشك أن يكون حقيقة، ونوشك أن نرى النور معه ونلمس ضوء الشمس. 
تأتيه المكالمة الأخيرة التي ظننا أنه سينجو بها «متأسف يا بول، لقد أرشدونا إلى مارك وايت»، لقد تم إنقاذ غيره، والرمال تنهمر فوقه، وتبقى آخر نقطة نور تتعلَّق بها أبصارنا في الظلمة النهائية، وتكون آخر كلمة في الفيلم «آسف يا بول، آسف للغاية»، وتنطفئ آخر نقطة نور، ويظلم التابوت ظلمة النهاية، ولا ننسى أنه أمريكي في العراق، هذا ما أراده صُنَّاع الفيلم حتى آخر حَبَّة رمل أطفأتْ النور ■