ظاهرة «أفضل الأفلام» بالسينما العربية والمصرية

ظاهرة «أفضل الأفلام»  بالسينما العربية والمصرية

مر ربع قرن على مولد هذه الظاهرة في السينما العربية خاصة حين قام مهرجان القاهرة السينمائي الدولي بالاحتفال بمرور مائة عام على تأسيس صناعة السينما في العالم، وأسند إلى الزميل الناقد أحمد رأفت بهجت عمل كتاب احتفالي لاختيار أهم مائة فيلم مصري روائي تم إنتاجها طوال هذا القرن، وبدأ الإعداد بتكليف المؤرخ الراحل محمد منير إبراهيم بإعداد كتاب يتضمن أسماء كل الأفلام التي تم إنتاجها منذ عام 1927 حتى 1995، حيث يذكر فقط سنة إنتاج الفيلم واسم المخرج وأسماء قليلة جدًا من الممثلين وتم طبع هذا المنشور ووزع على عدد كبير جدًا من المهتمين بأفلام السينما لتذكير الناس بأفلام قد تكون منسية. 

 

تم استقبال استمارات بها عناوين الأفلام، وبدأت عملية حصر الأفلام الأفضل من خلال عدد مرات ذكرها في الاستمارة، وجاءت النتيجة مرضية للجميع، لأن السينما الجيدة مثل أشعة الشمس القوية تفرض نورها على الجميع، فمن يمكنه أن ينكر أن أفلامًا مثل «العزيمة» و«السوق السوداء» و«غزل البنات» و«المومياء» وغيرها هي كالجواهر المرصعة تسحر الفؤاد والمشاعر الإنسانية والحواس.
الحكاية ليست هي الأولى من نوعها ففي عام 1967 أصدر الناقد سعد الدين توفيق كتابه «خمسون عامًا من السينما» قام في نهايته باختيار قائمة لأفضل أفلام السينما المصرية في تلك المرحلة، وفى القرن الأخير من القرن العشرين دأبت مجلات السينما البريطانية التجارية على عمل قوائم «أفضل الأفلام» في مجالات متعددة، وهي مادة ذات جاذبية للقراء الذين دأبوا على اختبار ذائقتهم الفنية، خاصة إذا كانت الأفلام المختارة قد شاهدوها واستحسنوها، وكانت العادة أن تتضمن كل قائمة فقط خمسين عنوانًا من أفضل الأفلام، هذه المجلات منها «فيلم ريفيو» و «فيلم» و«توتال فيلم» و«بروميير»، أما أبرز الموضــوعــات فكانت عن الأفضل في: التخيل العلمي - أفلام الحرب - الفيلم البوليسي - الفيلم الرومانسي - أفلام الصحراء - أفلام مأخوذة عن الأدب، وغيرها.
هي مجلات تجارية والهدف هو جذب أكبر عدد من القرّاء لشراء المجلة باعتبار أن المادة الثقافية أو التجارية كانت تخلو من النقد الحقيقي أو تعتمد على الصورة الملونة، وذلك عكس مجلات السينما الفرنسية التي كان يحررها كبار النقاد والسينمائيين، مثل: «الشاشة»، «دفاتر السينما»، «سينمــا»، وغيرها.
إن العملية تجارية والهدف معروف، وهكذا تكون مهرجانات السينما، من أجل عمل شُو أو عرض إعلامي في الصحافة الفنية، فقد أصدر المهرجان كتابًا تذكاريًا تمت فيه الكتابة عن كل فيلم تم اختياره في صفحتين، حيث يتضمن بيانات الفيلم وقصة الفيلم وصورًا من الفيلم، وتم ترتيب الأفلام حسب الأصوات التي حصلت عليها، وكانت الأفلام العشرة الأولى كالتالي: «العزيمة» و«الأرض» و«الفتوة» و«المومياء» و«باب الحديد» و«الحرام» و«شباب امراة» و«بداية ونهاية» و«سواق الأتوبيس» و«غزل البنات».
وقد لوحظ أن الأفلام المختارة تمثل كل أزمنة السينما المصرية وأجيالها من المخرجين والنجوم وكتّاب السيناريو، ومَن يعرفون بأنهم طليعة السينمائيين تم اختيار عدد كبير من أعمالهم باعتبارها الأفضل، ومنهم: يوسف شاهين وصلاح أبو سيف وكمال الشيخ وعزالدين ذوالفقار وأحمد ضياء الدين ونيازى مصطفى وبالطبع عاطف سالم، ومن الممثلين كان شكري سرحان في الطليعة وأحمد زكي ونور الشريف وزكي رستم وغيرهم، ومن الممثلات سعاد حسني وفاتن حمامة وشادية وهند رستم وغيرهن.
تلقينا هذه القائمة بانصياع شديد باعتبار أن هذه الاختيارت تمت من خلال عدد كبير ممن لديهن ثقافة سينمائية طيبة، وتلقت وسائل الإعلام الحدث في احتفاليات كبيرة من أبرزها برامج تلفزيونية حول أفضل الأفلام استطاعت أن تقدم أكثر من ٢٠٠ فيلم تعجب الناس باعتبارها الأحسن، ومن الملاحظ أن بعض الجمعيات السينمائية قد دخلت بقوة في المشاركة  ما جعل التصويت واجبًا ونتيجته مسموعة الجانب لكن لا شك أن خبايا ما كانت في الخفاء لبعض الاختيارات وليس جميعها، منها أفلام مثل «الجبل» و «ليه يا بنفسج» الذي كانت أسبقيته قبل أفلام أخرى كثيرة تستحق مكانتها، وبمرور الأيام وانتشار القنوات السينمائية المتخصصة بدأت الأمور الحقيقية تتضح، وهي كالآتي: أولًا كل النقاد الذين شاركوا في التصويت لم يشاهدوا جميع الأفلام التي أنتجتها السينما، وبالتالي فإن الأفلام التي لم يشاهدوها قد ظلمت وضاعت مرة أخرى في التاريخ، فكيف نرى فيلمًا مثل الجبل في قائمة ولا نرى أفلامًا مثل «الإيمان» لأحمد بدرخان و«غنى حرب» لنيازي مصطفى و«البؤساء»، و« شهداء الغرام» لكمال سليم وغيرها في القائمة؟! باختصار لأن النقاد لم يشاهدوا بعض هذه الأفلام أو تجاهلوها لصالح أفلام أخرى. أى إن هذه القائمة تقريبية ولا تمثل الأفلام المصرية، فكم من أفلام لم تكن متاحة قبل إنشاء قنوات الأفلام التي قامت بترميم الأفلام القديمة وعرضها ولم تكن متاحة إلا للقليل في تلك الفترة.
وقد كشفت هذه الظاهرة أن نقاد السينما لم يتعرفوا على كل الأفلام خاصة الضائعة منها، وأنهم فقط يتحركون في إطار ضيق للغاية يتمثل في الأفلام المتاحة في التلفزيون المصري وفي هذه السنوات كانت الأفلام المحتاجة للترميم أكثر من المتوقع، وهي أفلام صارت معروفة ومتاحة من خلال قنوات السينما المتخصصة وأغلبها اعتمد على الاتجار بالأفلام أو عرضها مقابل اشتراكات ثانوية مثل قناة ART في تلك الفترة ثم قناة روتانا في مرحلة لاحقة، أي إن هؤلاء النقاد لو أتيحت لهم المساهمة في عمل قائمة أحسن مائة فيلم في عام 1996 بنفس الأفلام المتاحة اليوم على اليوتيوب وقنوات الأفلام فإن النتيجة ستكون مختلفة تمامًا، ومنها أفلام مثل شجرة الدر لأحمد جلال، وأيضًا أحلاهم، وأفلام حديثة مثل السلم الخلفي لعاطف سالم بالإضافة إلى ما ذكرناه سابقًا.
هذا الأمر وحده كفيل بانهيار قائمة الأفلام المنشورة مع الاستفتاء وإبعاد عناوين بعينها لتحل محلها أفلام ذكرناها في السطور السابقة، أي إننا في حاجة إلى تجديد عمل استفتاء، لكن للأسف الشديد فإن الكثيرين جدًا ممن شاركوا في الاستفتاء السابق قد غادروا عالمنا للأبد وأغلبهم كانوا على معرفة جيدة بتاريخ السينما لكنها ليست ممتازة، وللأسف الشديد فإننا نفتقد وجود أمثالهم مع الجيل الحالي من النقاد الذين لا يقتربون كثيرًا من مشاهدة الأفلام على اليوتيوب رغم توافرها أحيانًا بالمجان وأحيانًا باشتراك رمزي.
يبدو أن استفتاء 1996 كانت له إيجابيات كثيرة في أكثر من مجال، ما دفع ثلاثة من النقاد بقيادة أحدهم للتفكير في عمل احتفالية جديدة في 2006 تسمى أيضًا مئوية السينما المصرية تم فيها عمل احتفالية مزعومة بادعاء أنه في ذلك العام مر قــرن كامل على تصوير أولى اللقطات السينمائية في مصر، وخاطب هؤلاء النقاد وزير الثقافـــة لتدبير 6 ملايين جنيه لعمل الاحتفال في تظاهرات ثقافية أشبه بكل التظاهرات الاحتفالية في بلادنا وهي إصدار مطبوعات أو إقامة ندوات أو حفلات عشاء وما شابه، وتم الاتفاق مع مكتبة الإسكندرية على عمل قائمة جديدة بأهم مائة فيلم بالسينما المصرية، وهنا بدت الكارثة واضحة؛ فالاختيارات فردية في المقام الأول قام بها شخص واحد، وقام الاثنان الآخران بالتزكية عليه، وبدت المهزلة هنا في الأفلام المحذوفة من القائمة الأولى وأيضًا في عناوين الأفلام التي وضعت محلها، فمن الأفلام التي حذفت مجموعة من إخراج حسام الدين مصطفى، وهو الرجل الذي كان دائمًا على خلاف وجدل مع الناقد الذي اختار هذه الأفلام، أي إن الاختيارات الجديدة بدت كطابع شخصي جدًا والأفلام التي تمت إضافتها أبدًا ليست أفضل الأفلام، فهل يتصور أحد أن فيلم «مفتش العام» إخراج حلمي رفلة وبطولة إسماعيل يس وفيلم «نهارك سعيد» إخراج فطين عبدالوهاب بطولة منير مراد يستحقان أن يكونا في قائمة الأحسن؟ الفيلم الأول يستحق بجدارة أن يكون الأسوأ، والطريف في هذه الاحتفالية أنها طبعت في كتاب إصدار مكتبة الإسكندرية وشارك في كتابة مقالات نقدية بعض النقاد وبدت المهزلة في استهانة البعض بالكتاب، فكيف تتم الكتابة عن فيلم ما هو الأحسن لمجرد سطور قليلة جدًا؟ وقد قام أحد النقاد بإعادة نشر ما كتبه في مجلته داخل هذا الكتاب التذكاري، أي إن الاحتفالية هذه أعدت نفسها لتكون ضئيلة تحتفل بأفلام غير قابلة لأن تكون أفضل، وقد وقف أحد النقاد لهذه الظاهرة بقوة، وأبلغ وزير الثقافة السابق فاروق حسني بهذا الأمر، وعضده في ذلك سينمائيون أبرزهم المخرج الراحل رأفت الميهي.
انتقلت هذه الظاهرة إلى المهرجانات العربية الوليدة لكن في هذه المرة تم عمل قائمة أفلام أفضل جرى إنتاجها على مستوى الوطن العربي وشارك فيها نقاد كثيرون من خارج مصر لا يكن بعضهم أي مودة للسينما المصرية بحجة أنها أفلام تجارية في المقام الأول، وبدت العناوين المختارة أكثر تركيزًا على السينما المغاربية خاصة الأفلام المشتركة التي تم إنتاجها مع أوربا ومنها فيلم «وقائع سنوات الجمر» وغيره، ولم يكن للسينما المصرية وجود الصدارة مثلما كان يحدث قبل.
الجدير بالذكر أن ظاهرة عمل قوائم سينمائية للأحسن في المجلات البريطانية قد تضاءلت كظاهرة مع بداية القرن الحالي باعتبار أن الظاهرة قدمت ولم يعد فيها الجديد، لكن في بلادنا بعض النقاد انتابته ما يسمى صرعة اختيار أهم مائة فيلم، ما يشير إلى أن اختيارات الجيل الجديد تتناسب مع محدودية ثقافته السينمائية، ونحن نؤكد على مصطلح ثقافته لأن السينما خرجت من إطار الفرجة إلى آفاق أكثر اتساعًا في رحاب الثقافات المتعددة، باعتبارها الآن الأكثر صدارة في ثقافات الشعوب ■