القيم الأسرية في الأدب الشعبي العُماني

القيم الأسرية  في الأدب الشعبي العُماني

 تُعرف القيمة التي هي اعتقاد مكتسب طويل الأمد نسبيًا بأنها تبرير لسلوك معيّن أو تفكير معيّن لدى الفرد أو الجماعة، فهي بالتالي «متغيرة»، خصوصًا تلك القيم الأسرية، في زمن تكاد الحدود فيه على أنواعها تمحى، فكيف تبدو في أدب الناس، في أمثالهم وحكمهم وأغانيهم... في «مسقط» عاصمة سلطنة عمان، نموذجًا؟
أدبياتنا، ودراساتنا الأكاديمية، أن القيم تلتبس معانيها في أذهان الناس، وهي في أفضل تحديداتها تشبه الرغبات المجسدة في مسالكهم، والمتغيرة بين حين وآخر، أي تحلّ محل الرغبات المعتمدة رغبات أخرى، تبعًا لعوامل كثيرة تطرأ على حيواتهم.

 بعض هذه القيم تُفهم على أنها «اعتقادات» أو وسائل، وظيفتها أن تلحم النظام الاجتماعي، فبواسطتها تدرج العائلة أعضاءها في الحياة الاجتماعية. وهي تبدو في كل ثقافة مرتبة في منظومة، منها يستمد كل عنصر هويته، إلّا أنها في صراع دائم لتعدّد الموروثات الثقافية ونتائج الأزمات القيم التي تطرأ، ألم يقُل ابن خلدون إن أخلاق الناس وقيمهم تختلف باختلاف فرصهم من المعاش؟ وهو ما أدى إلى التغيير المستمر.

القيم والدين 
يقول المفكر والفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري، في كتابه «نقد العقل العربي»، إن وجود الانسان وجود هادف، فكل ما في الحياة مخلوق لخدمته، وهو مخلوق ليخدم نفسه، والخدمة هذه تتركز حول ثلاثة أهداف: خلافة الله، وعبادته، وعمارة الأرض. وينقل عن الماوردي في «أدب الدين والدنيا» أن العقل هو أساس الأخلاق، فأدب الدين ضروري، أما أدب الدنيا فموضوعه المعاملات.
والمستخلص أن قمة القيم في كل دين هي الإيمان به، ولما كان الايمان في الاسلام ليس من أجل الله (فالله غنيّ عن العالمين)، بل من أجل الإنسان، فلطالما ورد لفظ الإيمان وما اشتق منه مقرونًا بالمضمون الاجتماعي الإنساني (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، فالوجه الديني للثقافة والعادات الاجتماعية يشكّل مصدرًا حاسمًا لإنتاج الأحكام، ألم تؤسس هذه «النظرية» لما يعانيه مجتمعنا العربي اليوم من سلوكيات (وأفكار وحركات) مقلقة؟

القيم والعولمة
يؤمن كثيرون بأنه حيث يكون الدين تكون الأخلاق فيكون السلام، وهي مقولة أثبتها كانْط. ويأتي الانفتاح (العولمة) ليعرضنا لأزمة بنيوية، حين اجتاح منظومات الإنسان ومسّه في حقوقه، فتأثر «السلام» المطلوب لاستقرار القيم، وتزعزعت البنى الاجتماعية.
فهل هذا الانفتاح، في إحدى سلبياته، سيهدد القيم، ويحاول تهميش فضاء التقاليد، أو إعادة تشكيل هوية جديدة لجيل جديد في المجتمع العربي؟

الأسرة وعناصر تواصلها وتغيّرها
تحمل كلمة أسرة صورة مصغرة عن أصغر تشكيلة اجتماعية أو جماعة قبلية يجمعها النسب، أمّا كلمة عائلة (من جذر عال) فتمثّل مجموعة الأفراد الذين يعيلهم معيل أو كاسب.
وفي دراسة الأسرة في مجتمعنا العربي لوحظت محاور ثلاثة: القرابة والنّسب، حيث تحديد العصب الجامع والسلطة الأبوية، ثم المشاركة في السكن، ثم توزيع الأدوار المعيشية الذي يتفاوت بين المناطق والشرائح الاجتماعية ونوعية عمل أفراد الأسرة.
وفي الدراسات الاجتماعية تبين أن تحوّلًا واضحًا يجري من القيم الجماعية إلى القيم الفردية في الأسرة، فهناك تهرُّب لدى الشباب من الالتزام المطلق بمشيئة الأهل، مع محاولة منهم لاستعادة سلطتهم، وهنا يظهر عامل «السياسات التعليمية»، وهي مصدر مهم لرسم وتأسيس القيم، فبعضها يسعى إلى التحديث بإعداد مواطن «غير خاضع للتقليد» وأخرى تتشدد في تقليدها.
وفي هذه الدراسات التفاتة إلى أن المرأة المتعلمة صارت تكتسب «حقوقًا» إضافية، خصوصًا إذا كانت منتجة أو فاعلة في المجتمع المدني. ومع تطوّر الأسرة العربية من «ممتدة» إلى «متحولة» إلى «نووية» وتباعُد الأزواج، وزيادة مسؤوليات الزوجة، تقلصت العلاقات والواجبات الاجتماعية بين الأجيال.
وتتابع الدراسات تفصيل عناصر تغيير القيم تحت عناوين: الشرف، والطاعة، والالتزام الديني، لتخلُص إلى أن منظومة القيم في أسرنا تتعرّض لتغيّرات مهمة، رغم محاولات إعادة إنتاج النظام الأبوي في أشكال جديدة.

الأدب الشعبي 
«أدب الشعب»، أو «الأدب العامي»، أو «الأدب التقليدي»... في مصطلحه ترجمة لـ «فولكلور»، أو الأدب غير الشخصي، أي الذي لا مؤلف محدد له، «وهو فن من فنون القول التلقائي العريق المتداول والمتوارث جيلًا بعد جيل، والمرتبط بالعادات والتقاليد»، كما يقول الصحفي المصري أحمد رشدي صالح في كتابه «الأدب الشعبي».
وهذا الأدب، الذي يعبّر عن ذاتية الشعب، حيّ لأنه إرث يتنقل بالكلمة أو المحاكاة، ويكون: جملة الأشعار، والأغاني، والأمثال، والحكايات، والطرائف، والنوادر، المُصاغة باللغة الشعبية، أي باللهجة العامية، إذًا هو جزء من الفولكلور الذي يضمّ إلى العادات والتقاليد، وهو ألصق بحياة الناس من أدب الفصحى.
ولأنّ الحداثة لا تعني الانقطاع التام مع التراث، ولا الانفصال عن الماضي، لم يعد «الفولكلور» هو «البقايا» أو «المخلّفات» الثقافية، بل فيه من الثقافات القديمة الكثير، فـ «الفولكلور» ميدان معرفة عن الإنسان ومجتمعه، فيه صدى الماضي وصوت الحاضر القوي.
هذا التواصل، في القرية والمدينة، يتعرّض للتغيّر السريع، فيفرض أنماطًا جديدة من السلوك والفهم والتربية والأخلاق، أي هناك «خسارة ما» أو ضريبة ندفعها لهذا التقدم وما يصيب الروح الجماعية وفنونها.
والثقافة الشعبية لا تسكن المتاحف، ولا تنزوي، بل إنها حيّة على ألسنة الناس، وهي ليست للتسلية فقط، بل هي معيار صادق ومؤشر علمي لرسم ملامح الشعب. ويؤكد الدارسون أن الأدب الشعبي له وظائف نفعية أيضًا واضحة في «مفاهيم» العلاقات، مثل: الصداقة، والعداوة، ووقوع المصائب، أو الأحداث المحزنة أو المفرحة، ويتمظهر في مأثورات شفوية متنوعة، سنتناول بعضها في «القيم الأسرية العمانية»، أو في مسقط العاصمة نموذجًا.

مسقط
ذكر الإدريسي موقع «مسقط» وأسماه «مسكة»، وربما «موشكة»، الميناء الحضرمي الذي ذكره بطليموس، لكنّ مسقط لم تكتسب أهميتها التجارية إلّا بعد أن استولى عليها البرتغاليون عام 1508، وبذلوا الكثير لجعل مرفأها محطة للسفن التي تقصد مستعمراتها في الهند، وبعد أن جاء العرب لطردهم واتخاذها عاصمة لهم.
وتقوم مسقط، طبيعيًا، على منحدر من الأرض عند خليج بحري ذي امتداد شاسع، ترتفع من جانبيه تلال صخرية تعلوها قلاع تحمي المدينة. والمدينة الناشطة عمرانيًا واقتصاديًا وخدماتيًا، هي ولاية تضم 10 قرى، فازت عام 1996 بلقب أجمل مدينة عربية، وفازت أيضًا بالجائزة الأولى للتنمية الإدارية في مجال النظافة العامة عام 2002، وقد تميزت بلديتها على مستوى العالم بـ «أفضل تجارب للخدمات العامة المقدّمة للجمهور».
اجتماعيًا، في مسقط تنوّع سكاني لافت، أسّس قبل أن تنفصل زنجبار عن عمان، ومصدره الإضافي اليوم تنوّع الأصول العربية لسكان الملحقات بها، والوافدون الكثر من الشرق والشرق الأقصى. وتشير المطبوعات الإعلامية عن مسقط إلى النسق القيمي للمجتمع، المرتكز على الإيمان والعمل الصالح المنتج. وفي أدبيّاتها السياسية أن التربية تسعى إلى تحرير طاقات الفرد والجماعة من رواسب الجهل والتخلف، مع إيلاء المرأة اهتمامًا خاصًا يمكّنها من القيام بدورها الطبيعي في بناء حياة اجتماعية عصرية.

تكوين الأسرة
يحضّ المجتمع العماني على الزواج - السترة للفتى وللفتاة، فالعزّاب قلة، والزواج يتم في سنّ مبكرة «والصالحون يضرعون إلى الله تعالى أن تكون ذريتهم صالحة مستقيمة على درب الخير»، كما يقول المفتي العام للسلطنة، الشيخ أحمد الخليلي. والمحفز على الزواج هو المستوى التعليمي للفتاة وعملها، إلّا أن المعجل من الصداق دائمًا هو أعلى بكثير من مؤجله، لذلك صدر قرار بتحديد سقف الصداق، ومنح مساعدات اجتماعية للمحتاجين، وقرار آخر بمنع الزواج من الخارج إلّا بعد دراسة الطلب ونيل الموافقة.
لذلك: «لكل ساقطة في الحي لها لاقطة، وكل بايرة يومًا لها سوق»، أي لا بدّ أن تتزوج كل فتاة، وأن تجد من يلائمها و«كل شارب له مقصّ». ولا بُدّ لإتمام ذلك من التعارف في فترة الخطبة، وإن كان الزواج بالواسطة فـ «لا يستوي الحب في الحيل والمحبوب راكب خيل»، أي إن الالتقاء اليوم ضروري بين الخطيبين، ورغم ذلك، ولكيلا يكثر الطلاق، تعمل دائرة خاصة في وزارة الشؤون الاجتماعية على دراسة حالاته وتحليلها لتجنّب مسبباتها.
ويبقى «التدين» هو القيمة الإضافية التي يفضّلها الشباب في الفتاة، والتي تبنى عليها العبارات التبريكية الدينية في احتفالات الأعراس:
بسم الله، باركوا له
أمه أدت نذرها
شاباش له المعرس
الله يبارك له 
صغير غاوي وزين 
وخنيزة بألفين 
باركوا له بين الحلالين
يا جليليب با يروح 
عنبر ومصلوح

  وتحدّث البعض عن «حالات حب» نتيجة الاختلاط والتعارف، وإن خجلوا في إظهار ذلك، مع أن في تراثهم العماني «شعر الونة» تحريفًا لـ «شعر الأنة»، أي فن الغناء بالتنهيدة، حاملًا الأسى والشوق:
يا قلب يا متعوب      
لا تزيدني بس شوج
خذني الهوى بالسلوب  
ودعا القلب محروج
عفت الكرى ومشروبي  
حتى الأكل ما أذوج

الأصالة والنسب
يقول المثل العماني «بو يبغي لبنها يبرق في وجنها» بو تعني الذي، وهي كلمة فصيحة وردت في لهجات عربية قديمة، ومثل آخر يقول «كان بغيت الولد نقّي له جدّ وخال»، أي اختر العائلة الكريمة، ويفضل أن تكون العروس معروفة من العريس وأهله، ومن مستواه «لا يعرف رطني إلّا ولد بطني»، والاحترام بينهما مبنيّ على التقدير المتبادل، لأنّ الاختيار يتم على أسس متينة، فـ«مال القراح من طاح راح»، أي إن النخلة التي تزرع في أرض رملية تسقط وتضيع، لذلك يجب أن يقوم الزواج على أسس متينة، وفي الزوجة لا يكتفى بأن يكون نسبها صفة مميزة مقصودة، بل علمها وعملها أيضًا فـ«من بغيت عونها برق في لونها»، أي إذا أردت أن تكون الزوجة عونًا لك فتأكد من قدرتها على ذلك، والأفضل لك أن تتصالح مع زوجتك من أن تتزوج بأخرى «اسحلها ولا تغسلها»، وهي من «القيم» السائرة والرائجة في الأغاني الشعبية، منها في فن «المناناة» مع ترداد: ييناه ييناه، من الكورس، ثم من المغنية الرئيسية إثر كل جملة:  ساير يصيد الحمام... يتشوّح كنه يمام... ساير يبل خوصه... يتشوح بعقوصه... لبنية إن دخلت البيت غني... قولي له مرحبًا بك ولد عمي... لبنية إن دخلت البيت صيحي... قولي له مرحبًا بك يا نصيحي... ييناه وييناه

الجمال والمال 
صحيح إن «حيي مالك بمال»، أي إن المال يجلب المال ويصونه، لكن الاكتفاء بالنصيب «قيمة» سائدة «خذ من الرخيص نهاك ومن الغالي عشاك»، أي خذ من المتوفر ما يكفيك، وقد يضطر الشاب أن يتحمّل جمال العروس فـ «بو ياكل حلواها يصبر على بلواها»، علمًا إذا كانت جميلة جدًا، فالجميع سيعرفون ذلك فـ «السماء ما تغطى بموخل». أما الغزل فقد عرفه التراث كثيرًا، وله في الأغاني الشعبية العمانية، والمرافقة للرقص الجماعي، محطات متنوعة منها في فن «الباكت»، وفن «تغرود البوش»، وفن «بن عبادي» ومثاله:
علوه (تكرر بعد كل جملة) 
طلبت ربي الكريم ما خاب طلابه
يا طير با ناشدك ريتهن طيور القطا
العين سودا كحيلة والوجه نور الصباح
والخشم نصلة حريشي في يدين شاجعة
والعنق عنق الظبي يرعى في سيح الخلا
ختمتها بالنبي وسيدي المصطفى

علاقات الأسرة البينية
لما كان الزواج - السّترة هو «قيمة» مقصودة، يكون منتهى ما تصبو إليه الفتاة أن تصير أمًا، وهو المسيرة التقليدية لها ولزوجها، وتبدأ استقبالات الزوجين بالاستبشار: «نفرح لكم بعريس» «الله ينور البيت بالعرسان»، وفي مسقط «بو يخجل من بنت عمه ما يجيب ولاد»، والمهم أن يأتي الولد، والتفضيل أن يكون صبيًا، فإذا كان بنتًا كان في كلام التعزية «اللي تجيب البنت تجيب الصبي»، و«الحمد لله على السلامة».
أما التسمية في مسقط، فالمرغوب للصبيان: عبدالله وعبدالرحمن وأحمد ومحمد، وللبنات أسماء تراثية دينية. والطهور أو الختان يسمى «التنجيلة»، وفي احتفالاته تُردّد أغانٍ، أو يزفّ المختون بفن «الحادي»، ثم بفن «الميدان»، أي فرديًا ثم جماعيًا مع رقص مشترك:
من الباحة تمس ولي التين
طحينك يا خباز عينته
وين أحسن البوت ولا التين
ولد السنجري هديب عينته
 
العلاقات مع الآخرين 
حين تلف الفرحة العائلة عند ولادة مولود جديد تحضر قريبات الأم مآكل مغذية لها، مثل: الحليب الطازج، العرسية بالترشة، لحم الدجاج المحلى مع الخضار، العسل، العصيدة.
وكما جاء في السُّنّة الشريفة عن «العقيقة»، يفضل العمانيون ذبح شاة عن البنت المولودة وشاتين عن الولد، في اليوم السابع أو ينتظر البعض شهرًا ونصف الشهر.
والعماني يسعى إلى تجنيب اختلاط أولاده بسواهم ممن يخشى أخلاقه أو أصوله أو دينه، وفي رقصة «الليوا»، وهي رقص جماعي رجالي مع قرع الطبول يردد:
عطيني بسرة حنيزي مابا زنجبار 
هذا الولد ما منّا لا تمشي وياه
وتدور السنة، فيحتفل الجميع بها مرددين أغنية «حال ودان» ومعنى حال سنة، أما دان فهي الترنيمة، ويلبس الطفل لباسًا جديدًا، وتُنثَر فوق رأسه قطعٌ مالية صغيرة وذُرَة مقلية يتسابق الأولاد في جمعها وأكلها.
 في علاقات الأسرة تبدو بعض «القيم» واضحة، وهي السلوك المعتمد في التعامل مع الأولاد، وتلقينهم مبادئ الحياة الأولى.
أما «القيم» في المناسبات الاجتماعية والدينية فمتعددة ومتنوعة، تحفظ لها فنون الأدب الشعبي نصوصًا جديرة بدراسة مستفيضة منفصلة، فمسقط غنية بكل هذا: «أنا شايف مسقط وكيتانها ما استعجب من دارست وكيزانها» ■