الشغف بين التناغُم والهوس

الشغف بين التناغُم والهوس

 قبل أن نتّبع شغفنا، آملين أن نصبح أسعد ونثري حياتنا - كما ينصحنا كثير من الناس - علينا أن نتمهّل، ونعرف بعض ما يقوله العلم عن الشغف، ونسأل أنفسنا: أيّ نوع من الشغف هذا الذي سنتبعه؟ 
  منذ 2003، لم يعُد الحديث عن الشغف إيجابيًا كله، ففي العام المذكور، وضع عالِم النفس الكندي روبرت فاليراند وزملاؤه تأطيرًا مفاهيميًّا مختلفًا كشف عن وجود نوعين من الشغف؛ الأول ممتع وبنّاء ومتناغم مع جوانب الحياة المختلفة، والثاني، هوَسيّ مدمر، ويعيق التقدّم في مجالات الحياة الأخرى، بل يمكن أن يقود إلى الاحتراق والاكتئاب والإحساس بالممارسة القسرية الخارجة عن السيطرة للنشاط أو الشيء الممثّل للشغف، وذلك في إطار نظرية النموذج الثنائي للشغف، لتبدأ بعد ذلك سلسلة من البحوث التطبيقية في هذا الصدد.

 

في عام 2019 صدر أول كتاب أكاديمي حول الشغف بالعمل عن جامعة أوكسفورد لمجموعة من الباحثين حرّره كل من فاليراند ونتالي هولفورت، وكشف عن جوانب مظلمة للشغف المهني.

ما الشغف؟
سبق أن عُرف الشغف في ضوء مواقف متعددة منذ زمن فلاسفة الإغريق القدامى: رأى أحدها أنه «فقدان العقل والخضوع تحت السيطرة» - كما اعتقد أفلاطون - وارتبط بمعاناة صاحبه من جراء عواقب العبودية السلبية. ووجده موقف آخر أكثر إيجابية - كموقف ديكارت - «عواطف جياشة؛ حب، أو كره، أو فرح، أو حزن، أو إعجاب، وميل سلوكي متأصل مع حضور العقل».
وأكد رومانسيون - مثل روسو - أن «الشغف ضروري للحياة الصحية المشبعة، ولا شيء يتحكّم بالشغف إلّا شغف جديد». واعتبره هيغل ضروريًا لبلوغ أعلى مستويات الإنجاز، وقال إنه «لا شيء عظيم تحقق في هذا العالم من دون شغف». ومع حلول القرن العشرين ظهر موقف ثالث جديد جمع بين كلا الموقفين؛ السلبي والإيجابي، وسلّط الضوء على نوعين من الشغف؛ أحدهما منسجم نبيل، يخدم الآخرين، ولا يتعارض مع شغف آخر، والثاني أنانيّ لا يخدم سوى صاحبه، ويتعارض مع غيره؛ مع تأكيد دور العقل في السيطرة على النوع السيئ من الشغف. أما تعريف روبرت فاليراند للشغف فهو «الميل القوي نحو شيء معيّن، أو نشاط ما، أو مفهوم محدد، أو شخص يحبه المرء ويقدّره بعمق ويستثمر فيه وقته وطاقاته بصورة مستمرة ويعتبره جزءًا من هويته».
 
جوانب خفية 
شرح كل من براد ستولبيرغ وستيف ماغنس بعض جوانب الشغف الخفية، كالجانب البيولوجي، والجانب السيكولوجي - في كتابهما «مفارقة الشغف» - وأكّدا أن شعورنا بالاستغراق في نشاط، أو فكرة، أو شخص - حيث يتركز اهتمامنا على مصدر شغفنا، وينشغل به العقل والقلب ولا نرى سواه - يولد في الدماغ، ويتغذى على مادة كيميائية عصبية تُدعى الدوبامين. وتثير هذه المادة المسرّة فينا، وتركز انتباهنا على ما نقوم به؛ ونشعر تحت تأثيرها بالحماس والحيوية. كما تدفعنا التفاعلات العصبية نحو الهدف الذي نسعى إليه، وتخلق لدينا توقعات، ووعودًا بمكافآت وشيكة، كأن يقول الواحد منّا لنفسه: «إذا أنجزت هذا سأكون أسعد، وسأرتاح»؛ بينما لا تكون المكافآت التي نطاردها في الحقيقة سوى وهم. فبعد فترة وجيزة من بلوغ الهدف يعاودنا الاشتياق إلى المزيد. فلا ندمن الشعور المرتبط بإنجاز الهدف، ولكن ندمن الشعور المرتبط بمطاردة الهدف والتّوق؛ على اعتبار غلبة الشعور بعدم الرضا، والرغبة في بذل الجهد من أجل المزيد والمزيد. وكلما زادت حاجتنا إلى الدوبامين، لمواصلة الشعور على نحو أفضل، أصبحنا على استعداد لخوض كفاح جديد ومطاردة مكافآت مثيرة للتحدي بصورة أكبر. وكلما كررنا نشاطًا ما، لاسيما ما تمخّض عن مخرجات إيجابية - ميدالية، أو علاوة، أو ترقية، أو حوافز - ازددنا توقًا للدوبامين. وكلما حصلنا عليه، زاد شعورنا بالانتعاش والانتباه والدافعية. ومع الوقت، وبطريقة تشبه الإدمان، تصبح أدمغتنا أقل حساسية للدوبامين، ما يعني الحاجة إلى جرعات أكبر منه للاحتفاظ بذلك الشعور الرائع. ويقودنا هذا التوق مرةً تلو الأخرى إلى مطاردات لا تنتهي.
أما الجانب السيكولوجي للشغف، فيتضمّن وجود جزء منه ناتج من هشاشة الذات وضعفها، والهروب من أحداث الماضي المؤلمة، حيث تكبت الخبرات والذكريات، ثم تغوص في اللاوعي العميق. لكن لا تبقى هذه الانفعالات مكبوتة طويلًا، بل تنطلق في نهاية المطاف عبر دوافع ورغبات خارجية، عادة ما تكون مصحوبة بطاقة. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى ولادة شغف مثمر، كملاذ نفسي آمن يحمي من سلوك مدمر، لكنّه يمنع، في الوقت نفسه، مواجهة قضايا خفية. 
وسرعان ما يتحوّل الأمر إلى إدمان يُقصي الشعور بالفراغ وعدم الأمان، ويواصل البحث عن مزيد من الدوبامين. وربما لهذا ارتبط الشغف بالمعاناة في وقت من الأوقات، حتى جاء وقت حمل مضامين إيجابية خالصة واعتُبر جزءًا من الثقافة السيكولوجية الصناعية والمنظمة، قبل ظهور النموذج الثنائي المشار إليه.

البحث عن شغف 
يؤكد المؤلفان - وفقًا لدراسات - أن أكثر من 78 بالمئة من الناس يعتقدون أن السعادة تكمن في العثور على هواية أو عمل، أو أي شيء آخر - خارجهم - يمثّل الشغف. ولا ينتبهون إلى جوانب سلبية للشغف من جرّاء هذا التفكير المثالي، كالرغبة المستمرة في ملاحقته، وغياب الشعور بالراحة، والتضحية بفرص نمو بعيدة المدى من أجل مُتع عاجلة. وينصحان بالبحث عن الاستمتاع بالشغف والانفتاح على الاهتمامات بعيدًا عن المثالية.
فالاهتمام طريقة أخرى لمعرفة ما يجذب انتباهنا، كأن نمارس نشاطًا ما، أو نهتم بفكرة منجذبين نحوها، ثم نواجه اختيار: إما أن نسمح لأنفسنا بالميل والاستكشاف، أو ندير ظهورنا ونتجاهله. ويعني اختيارنا التجاهل، أننا نرسل رسالة قوية إلى أدمغتنا، مفادها أن ذلك النشاط أو تلك الفكرة ليست ذات قيمة؛ ولن يرسل لنا الدماغ بعد ذلك إشارة استمتاع؛ والعكس صحيح، عندما نشعر بأن الأمر يستحق بذل الجهد، والطاقة، والتركيز والوقت.
وما يثير الأسف - كما يرى الكاتبان - أن ندرك الفضول أحيانًا ونتجاهله، ونسوق تبريرات الانشغال أو عدم القدرة التي تمليها علينا متلازمة «احتمال لا أستطيع عمل هذا». ويؤكدان ضرورة التحلي بشجاعة الاستكشاف، لا لغرض مطاردة أي شيء، بل لتغذية الانفتاح العقلي. ولا ينصحان بالانتقال من نشاط لآخر، أو من فكرة لأخرى بسرعة، بل يوصيان بإتاحة حرية الاستكشاف ومقاومة صوت «لن أعرف»، ويذكران أن الشغف الكبير يبدأ باهتمام صغير.

جزء كبير من الحياة 
يمكن أن يجلب الشغف المتناغم تحقيق الذات الذي يقوم على الكفاءة والشعور بالسيطرة على مخرجات الجهد، والقدرة على التقدّم مع الوقت؛ والعمل بما يتناسب مع قيم الذات الحقيقية ووجودها؛ إلى جانب الشعور بالاتجاه والهدف والانتماء إلى شيء أكبر من الذات.
وقد تكون رحلة البحث عن شغف طويلة، لكنّ الأمر يهون مع الصبر ووجود خريطة طريق، فعندما نبدأ بتنمية شغفنا، يصبح الأمر مسألة وقت. وقبل أن نسأل كيف ننفق وقتًا وطاقة أكبر لملاحقة شغفنا، ليصبح جزءًا أكبر من حياتنا، علينا أن نلتفت إلى جوانب سلبية يمكن أن تأتي مع الشغف، كعدم القدرة على تلبية احتياجاتنا المادية، ما يجبرنا على التحول من الرغبة في النجاح إلى الحاجة الماسّة للنجاح.
وحتى لا يحدث هذا، يجب اتباع استراتيجية «حديدة رفع الأثقال» التي تتضمن سيناريو مخاطرة - مع مكافأة بقدر المخاطرة - في جانب، وسيناريو أمان في جانب آخر؛ وتجنّب المنطقة الوسطى التي لا أمان فيها ولا مكافأة. أي التدرّج في منح الشغف مساحة أكبر في الحياة، ووضع احتمال أن يكون الشغف نعمة أو نقمة في الاعتبار.
وتخبرنا النماذج الكثيرة للمشغوفين المهووسين بالنجاح والشهرة والثراء، وغير ذلك - ممن يعملون فوق طاقاتهم لساعات طويلة وفي الإجازات، ويهملون عائلاتهم وصحتهم وجوانب كثيرة في حيواتهم - كيف يركز هؤلاء بصورة قسرية غير متناغمة على بلوغ أهدافهم ويربطونها بهوياتهم، ويفقدون الاستبصار الباطني، ويعتمدون على مكافآت خارجية. ويعتقدون أنهم بتحقيق تلك الأهداف ينتزعون التقدير. فلا يتردد بعضهم في اتّباع طرق ملتوية للوصول، مدفوعين بمخاوف تهدد ذواتهم؛ كالبطل الرياضي الذي يخشى الخسارة، فيبالغ في استعداده للمنافسات حتى يقع تحت ضغط نفسي، ويحترق في رحلة كفاحه للمحافظة على تفوّقه، ويفقد استمتاعه بشغفه. ووفقًا لدراسة للبروفيسور ديفيد كونروي، أُجريت على رياضيين - أشار إليها الكتاب المذكور - هناك مناطق مشتركة للدوافع: الخوف من الإحراج والشعور بالخجل؛ والخوف من فقدان صورة الذات الإيجابية؛ والخوف من مستقبل مجهول غير مضمون؛ والخوف من فقدان اهتمام الآخرين؛ والخوف من غضب الآخرين، ولا تبدأ الحياة الحقيقية إلا بالتغلب على تلك المخاوف، وتقبّل الفشل كجزء حتمي يصاحب النجاح.
ولتحقيق النجاح، لا بُدّ من التركيز على العملية، وتقسيم الأهداف، ثم العمل على كل جزء بوعي وحضور «هنا والآن»، وسيخلق ذلك فرصًا يومية لانتصارات صغيرة تسهم في تعزيز تقدير الذات والشعور الرائع بالرضا والاستمتاع. ولا يهمّ أن نكون الأفضل، بقدر ما يهم أن نتطور، ونصبح أطيب وأكثر حكمة ■