عندما أصبحتُ امرأة في الأربعين!!
على عتبات العمر تبللنا الكلمات فتتداخل الأصوات وترتفع خطوط حمراء وصفراء وخضراء... نندفع بسرعة في اتجاه واحد وعلى طول حبل الذكريات تظهر صور معتمة محطمة تومض وهي تحترق وتهرع أخرى فزعة تحدق بنا من كوة صغيرة وتعد حتى العشرة أربعة؛ خمسة؛ ستة؛ سبعة..... تقترب المسافة أكثر، أغلق عيني، رسالة عاجلة تقول:«أصبحت امرأة في الأربعين».
يبدأ الخوف لدي من تسرب العمر كحبات رمل بين يدي، فتختلط علي الأوراق وتتشابك الكلمات ويتيه الحوار بينهما... لندرك في النهاية أنه مهما بلغ عدد البجعات البيضاء التي رأيناها فلا يسمح لنا بالقول إن كل البجع أبيض...
ففي كل رحلة للجبـــل صعــود فوصــول للقمة فنزول، وأنا في القمة ولكَــم أخشى النزول.
«الأربعون»... هذا الرقم، الذي على ما يبدو له سحر ودلالة يتميز بها عن باقي الأرقام، حيث تحول من رقمٍ عادي جدًا إلى رقمٍ له معانٍ خاصة حوَّلته إلى ما يُشبه الأسطورة؛ فنجد له حضوره دينيًا وأسطوريًا.
«اﻷرﺑﻌون»... ﻫﻮ العمر اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ﺧﺼﻪ اﻟﻘﺮآن الكريم ﺑﺪﻋﺎء ﻣﻤﻴﺰ {ﺣﺘﻰ إذا ﺑﻠﻎ أﺷﺪه وﺑﻠﻎ أرﺑﻌﻴﻦ ﺳﻨﺔ ﻗﺎل رﺑﻲ أوزﻋﻨﻲ أن أﺷﻜﺮ ﻧﻌﻤﺘﻚ اﻟﺘﻲ أﻧﻌﻤﺖ ﻋﻠﻲّ وﻋﻠﻰ واﻟﺪي وأن أﻋﻤﻞ ﺻﺎﻟﺤًﺎ ﺗﺮﺿﺎه وأﺻﻠﺢ ﻟﻲ ﻓﻲ ذرﻳﺘﻲ إﻧﻲ ﺗﺒﺖ إﻟﻴﻚ وإﻧﻲ ﻣﻦ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ}.
في الأربعين نحتاج أكثر أن نرتب أحلامنا؛ فما زال في القلب زوايا لم نرها من قبل؛ قد تكون أركانًا موحشة وغرفًا موصدة وتراكمات من المشاعر في سراديب لم يتسن لها أن تخرج بعد، تحط مثل ورقة خريف متعبة، فهل سنكتفي بأن نودعها عند الباب ولا نتذكرها؟ كيف سنتركها تأخذ مكانها على الرف بكل بساطة؟!
نستشف ذلك التيه والحنين أكثر لدى الشعراء؛ حيث الكثير منهم تركوا بصمتهم عند عبورهم بوابة الأربعين، بصمة أغلبها شكوى وأنين، وخوف من الدخول في كهف الأربعين، أو خيمة الأربعين، كما يسميها الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد في أحد مجاميعه الشعرية «خيمة على مشارف الأربعين»:
مضى ما مضى منك خيرًا وشر
وظل الذي ظل منك طي القدر
وأنت على كل ما يزدهيك
كثير التشكي كثير الضجر
كأنك في خيمة الأربعين
تخلع أوتادها للسفر
أما نزار قباني فقد رمى بثقل سنوات الأربعين إلى المرأة، ففي قصيدة «10 رسائل إلى سيدة في الأربعين» يقول في بعض منها:
وأعرف أنك في الأربعين
ستقطع عنك مياه المطر
وأعرف أنك في آخر الشهر
ستكونين حقلًا بغير ثمر
وأنك في آخر الليل
سوف تكونين ليلًا بغير قمر
ولأنك سوف تجوبين كل مقاهي
الرصيف
بغير جواز سفر
هنا يخبر المرأة بأنها ستذبل بهذا العمر، أما هو فبنظرة فحولية وأسطورة الرجل الذي لا يشيخ ولا يكبر سيغادرها حين تبلغ الأربعين.
هذا الانتقال المقصــود لنــزار بهاته المرحلة من الرجــل إلى المرأة كان أقــرب الى نفسيتها، حيث تحس أنها أصبحت في المنتصــف لا هي قادرة أن تعود إلى أول الطريــق إذا أخطأت ثم لا تبلغ نقطــة البدايــة أوتبلغهـا بعد فوات الأوان.
«تجاوزت اﻷربعين»، عبارة قد تقلب كيان المرأة لمجرد التفكير فيها، فما بالك أن تعيشها وهي تتملكها مشاعر الرهبة، فتتلعثم خطواتها وتشق باقي خط سيرها وهي خافضة رأسها كمن ارتكب جرمًا أو تبالغ في رفعه لحد التيه والضلال... وهي بين هذا وذاك كسفينة في مهب الرياح.
في الحقيقة ما هي إﻻ مرحلة انتقالية تحدث فيها تغيرات فسيولوجية قد تربك المرأة، فهي لم تعد في العشرينيات أو الثلاثينيات حيث كانت بمأمن من إحساسها بأن أنوثتها تأخذ في الذبول، إنها على أبواب منتصف العمر وما لذلك من انعكاسات نفسية واجتماعية وجنسية... لم تعد تستطيع معها أن تسافر مع الرياح ولا أن تحب غضب الحياة.
لم تعد حياتها تشبه كتابًا تقلب صفحاته حيث يبدو كل شيء سهلًا رغم ما عانته، لا بد أن السنوات كانت تجري، ولربما لم تمنحها ما تريده فتركن إلى الهاتف بداخلها وهو يرن في كل لحظة «ﻻ أدري كم بقي لي من العمر وأنا أحتفظ بحيــويتي وجمالي، فلابد من استغلاله».
هنا تختلف استجابتها، فقد تستغله في تمتين روابطها اﻻجتماعية واﻻنخراط في إشباع حاجتها وعواطفها بالمزيد من العطاء في العمل والبيت وتتفرغ للقراءة والعمل اﻷدبي أو تنساق في مسار آخر لتشبع بندول خوفها، بالبحث عن الحب خارج إطار الشرعية، فالمرأة في هذا العمر لها ميل أكثر وأقوى إلى الحب، إذ تكون قد وصلت إلى ذروة جمالها واكتسبت من الخبرات والتجارب ما يجعلها تشعر بالقوة... ولتعيد التوازن إلى حياتها لتجتاز تلك المرحلة بهدوء التي ما هي إﻻ رقم من أرقام الحياة ما عليها إﻻ التعايش مع الواقـع، فالجمال الخارجي ﻻ يدوم، وإنما الجمال الداخلي هو المستمر، لذا يجب أن تعمل عليه وتساعده على الظهور...
فالممتلئ من الداخل لا تلفته إغراءات الكؤوس.
الأربعون... رقم حيوي، انطلقي أيتها المرأة وﻻ تظلي حبيسة ظلك وتخوفاتك، انشغلي باكتشاف عوالم نفسك، راجعي احتياجاتك، وابحثي عن منابع السعادة داخلك، استغلي خبراتك وتجاربك لتغيير من هم حولك، فأنت معطاءة بطبعك، أكيد ستحصلين بقوة على ما تريدينه فعلًا من حب ورعاية.
(على هذه الأرض ما يستحق الحياة، نهاية أيلول - سيدة تترك الأربعين بكامل مشمشها...) محمود درويش ■