معرض «أسماك» حلمي التوني
أهدى الفنان التشكيلي حلمي التوني أكثر من لوحة من لوحاته الجميلة للفنان الرائد محمود سعيد (1897 - 1964)، من خلال معرضه «السمكة» الذي أقيم مؤخرًا بقاعة «شيلتر» بحي العطارين في الإسكندرية، بالقرب من شارع فؤاد (أو طريق الحرية) مقابل منطقة كوم الدكة، تلك المنطقة التي شهدت ميلاد عملاق الموسيقى سيد درويش.
ليس هذا فحسب، ولكن يذكرنا التوني بلوحة محمود سعيد الشهيرة «بنات بحري» عن طريق رسم لوحة بها ثلاث فتيات من الإسكندرية، بملاءتهن اللف السوداء، فوق الفساتين الملونة (الأزرق والبيج والأخضر)، واليشمك على الوجه، وفي المعصم أساور، هي أقرب إلى المشغولات البلاستيكية، أما مقدمة الأحذية الظاهرة بوضوح أسفل اللوحة، فهي تأخذ نفس لون الفساتين الثلاثة، وقد رصَّع الفنان التوني لوحته بسمكتين يمينًا ويسارًا، بالإضافة إلى وجود «قوقعة» أسفل يسار اللوحة، وزهرة حمراء أسفل يمين اللوحة، ليحقق بذلك عناصر التوازن في النصف الأسفل من تلك اللوحة، أما النصف الأعلى فقد لاحظنا فيه أن شعر الفتيات الثلاث من خلال القُصة المنسدلة على جبهاتهن مصبوغ بلون فساتيهن (الأزرق والبيج والأخضر). وفي حين أن خلفية لوحة التوني صُبغت باللون الأصفر، لون رمال شواطئ الإسكندرية، كانت خلفية لوحة «بنات بحري» لمحمود سعيد هي البحر الذي يوحي بأنه بحر الأنفوشي وسماء الإسكندرية الزرقاء.
في لوحة محمود سعيد «بنات بحري» نجد أن فتاة المنتصف هي أطول الفتيات الثلاث، في حين أن فتيات حلمي التوني متماثلات في الطول، وفي لوحة سعيد نرى قطة بيضاء تعطينا ظهرها ناظرة ناحية اليمين، بينما نرى في لوحة التوني سمكتين (خضراء وزرقاء بلون فستانين من الفساتين الثلاثة) تنظران نظرتين متعاكستين، السمكة الأولى تتجه بنظرها ناحية اليمين (مثلها مثل قطة سعيد)، بينما السمكة الثانية يتجه نظرها ناحية اليسار. وبينما خلت لوحة سعيد من اللون الأحمر الصريح، كان هذا اللون موجودًا في لوحة التوني، وقد تمثل في خصلات الشعر المنسدلة على أكتاف الفتيات الثلاث، وكان أحد ألوان الأساور البلاستيكية، فضلًا عن الوردة الحمراء أسفل يمين اللوحة.
محمود سعيد قام بتعرية جزء من سيقان فتياته، وكأن الهواء كان يطيح بملاءتهن، فبرزت مقدمة الأرجل من الأسفل، ومعها لون الأحذية التي تنتعلها الفتيات والتي تنوعت بين الأبيض والأسود، مما ساعد على بروز خلخال فتاة المنتصف (التي أطلقتُ عليها اسم «حلاوتهم» في روايتي «اللون العاشق» التي تناولتْ تلك اللوحة المرسومة عام 1935) بينما كان التوني أقل جرأة من محمود سعيد، فلم يُظهر شيئا من سيقان فتياته.
التوني حافظ على عنصر التوازن والتناغم وتوحيد أو تقييد حركة يد الفتيات الثلاث سواء اليمنى أو اليسرى، بينما لم نجد هذا التوازن والتناغم في حركة يد فتيات محمود سعيد، وإنما أعطى سعيد لكل فتاة حرية حركة يدها كما تحب.
وإذا كان محمود سعيد قد أظهر البحر وسماء الإسكندرية الزرقاء في لوحته، فإن حلمي التوني أظهر ما يشبه الشعاع الأزرق، الذي ينتهي بنجمة زرقاء، فوق رؤوس فتياته، وكأنه يختصر البحر أو السماء التي عند سعيد في هذا الشعاع الأزرق.
أما لوحة التوني التي أهداها إلى محمود سعيد، كما هو مكتوب أسفل يسار اللوحة، فهي صورة لفتاة رابعة من فتيات التوني، حاجباها أشبه بحاجبي فتاة المنتصف (حلاوتهم) في لوحة محمود سعيد، وتحمل بيدها اليسرى سمكة كبيرة من أسماك بحر الإسكندرية، يبدو أنها تريد إهداءها لمحمود سعيد، وهنا سنلاحظ أن خلفية لوحة التوني جاءت زرقاء يُضيئُها اللون الأحمر المتمثل في سمكتين مجردتين ووردتين حمراوين، مع نجوم تجريدية مضيئة بخطوط بيضاء ترصع الخلفية الزرقاء التي تمنحنا شعورًا بأنها البحر والسماء معًا.
ويخطف أبصارنا اللون الأحمر، وهو لون فستان الفتاة، وخصلات شعرها، بينما جاء الجزء الظاهر من ملاءتها باللون الأخضر على عكس الشائع، فنحن نعرف أن ملاءات النسوة معظمها سوداء اللون، بل إن اللون الأسود نفسه لا نلمحه في هذه اللوحة من لوحات التوني، أما مصدر الضوء والإنارة في لوحة التوني التي يهديها إلى محمود سعيد، فقد جاء من وجه الفتاة المنير، وعنقها، وجزء من صدرها، وذراعيها، حيث نلاحظ وجود الأساور البلاستيكية الملونة في معصميها، وربما كانت إحدى هذه الأساور ذهبية بمعصم اليد اليمنى.
وعلى الرغم من أن حاجبي فتاة التوني أقرب في تشكيلها إلى حاجبي فتاة المنتصف في لوحة سعيد، فإن ملامح العينين تبدو أقرب إلى ملامح عيني فتاة اليمين بلوحة محمود سعيد، والتي أسميتها «ست الحسن» في «اللون العاشق».
أطلق الفنان حلمي التوني على معرضه اسم «السمكة» وبالفعل لا نجد لوحة من لوحات ذلك المعرض - التي بلغت أكثر من 25 لوحة واسكتشًا - إلا والسمكة - دون تحديد نوعها - عنصرًا رئيسيًا فيها، ويلفتنا في هذه اللوحات أن إحدى فتيات التوني قد وضعت سمكة بدلًا من رابطة العنق (الكرافت) وسمكات أخرى تدلّين من شجرة بدلًا من الأغصان، وفتاة أخرى تحتضن السمكة وكأنها كنز غال تحتضنه وتخاف عليه، وقد شاهدنا أن فتاة إحدى اللوحات تزين السمكة بزهرة عبّاد أو دوّار الشمس مثلما تزين شعرها بها. وأخرى تضع السمكة على رأسها كنوع من أنواع الاحترام والتبجيل وكأنها تقول «السمكة على راسي من فوق».
وفتاة أخرى تضع سمكتين في أذنيها بدلًا من القرط الذهبي. فهي تتزين بالأسماك. وأخرى تضع السمكة بين حاجبيها وفوق أنفها في شكل بديع. بل تضع أيضًا سمكة ذهبية تتدلى من السلسلة التي تطوق عنقها. وتجد أخرى تصنع من جسد السمكة آنية زهور خزفية تضع فيها ورودها الحمراء. وتسبح سمكة أخرى إلى عقل إحدى الفتيات، ما يؤكد في النهاية على أن السمك الإسكندراني - تيمة هذا المعرض - كان متغلغلًا في وعي الفنان وملك عليه أفكاره وريشته وألوانه وخطوطه، فجاء معرض «السمكة» للفنان حلمي التوني - الذي رسمت معظم لوحاته خلال العامين 2019 و2020 - معرضًا متميزًا ومعبرًا عن روح الفنان العاشقة لكل ما هو جديد وجميل ومتميز.
وقد صرح الفنان حلمي التوني بأن فكرة معرض «السمكة» نشأت بعد ما عرض عليه المشرفون على قاعة «شيلتر» أن يعرض بعض أعماله في الإسكندرية التي لم يعرض فيها لوحاته من قبل. فكان لا بد أن يبدع شيئًا عن بيئة الإسكندرية وخصوصيتها وروحها، فروح الإسكندرية كأنها روح سمكة لا تستطيع أن تغادر البحر والماء.
ويكشف الفنان أن هذا المعرض هو أول معرض له خارج القاهرة. لقد عرض التوني أعماله ولوحاته خارج مصر، لكنه لم يعرضها من قبل في أي محافظة من محافظات مصر، ولهذا كان سعيدًا أن يكون أول معرض له خارج القاهرة في الإسكندرية مدينة محمود سعيد ومحمد ناجي وعبدالهادي الجزار وأحمد عثمان وسيف وأدهم وانلي وغيرهم. لكنه على الرغم من ذلك كان يشعر أن الإسكندرية فقدت ريادتها الفنية، وفقدت شيئًا مهمًا من روحها الكوزموبوليتانية، رغم وجود اتيليه الإسكندرية وكلية الفنون الجميلة بها، لكن للأسف لا توجد فيها قاعة عرض متخصصة، مثل القاعات التي نراها في القاهرة. وهذا ما يشعر به فنانو الإسكندرية أيضًا ويحزنون له.
وقد شعر التوني بأنه يغامر بعرض أعماله الأخيرة في الإسكندرية، ولكن أحس أنه واجب وطني، مثلما أحس بعطش وجوع ولهفة للإسكندرية متمنيًا أن تعود إلى مجدها وماضيها الفني التليد، وكان سعيدًا بلقاءات شباب الفنانين في الإسكندرية الذين زاروا معرضه وتبادل معهم العواطف والمشاعر الدافئة الجميلة، مؤكدًا أن الإسكندرية «مدينة العواطف، وليست مدينة العواصف».
ولعل معرض «السمكة» يكون بداية حقيقية لعودة الاهتمام بالحركة الفنية بالثغر، معظم الفنانين في الإسكندرية يلجأون إلى ما يسمى بـ «الأستوديو» وهو مكان شديد الخصوصية يزوره الأصدقاء والمقربون للفنان، وليس كالمعرض العام أو الجاليري الذي يكون مفتوحًا للجميع.
يُذكر أن الفنان حلمي التوني من مواليد محافظة بني سويف 1934، حصل على بكالوريوس الفنون الجميلة عام 1958، وتولّى العديد من المناصب، وأقام العديد من المعارض المحلية والدولية، وعاش في القاهرة وبيروت، وهو من أهم فناني مجلة «العربي» و«العربي الصغير»، ويعتز أيما اعتزاز بتجربته في رسم 54 غلافًا من أغلفة روايات صاحب نوبل العظيم نجيب محفوظ.
قال عنه الناقد الدكتور عز الدين إسماعيل:
«لوحات التوني تتكلم لغة واضحة ورموزها ذات دلالات معروفة ولكنه يصنع بتشكيلاته منها وتركيباتها الخاصة به أسطورة أو حوارًا يوحي بميلاد حدث غامض.
رغم استخدام حلمي التوني لأسلوب المسطح وابتعاده في الأغلب عن عناصر الإيهام بالبعد الثالث إلا أن لوحاته تحقق عضوية متفجرة، فالبضاضة عنده تتفجر بأضواء لا نعرف من أين».
وقال عنه الفنان والناقد التشكيلي كمال الجويلي، رئيس الجمعية المصرية لنقاد الفن التشكيلي:
«يرتاد الفنان حلمي التوني جديدًا، حينما تتأمله تقفز إلى الذهن كلمتان بغير انفصال بينهما؛ «التعبيرية الغنائية» تعبيرية شجية تغني لأحزان البشر دون أن تفقد الحلم، فيختلط في لوحاته الواقع بأحلام اليقظة بالأمل.
هو لا يقدم شكلًا فقط كما يفعل بعض مستعيري ملامح وموتيفات التراث، لكنه قد غاص في أعماق ذلك التراث بكل أشكاله ومضامينه ودلالاته واختار «مسرحه التصويري» بنفسه ولنفسه.
لا ينضوي التوني تحت لواء مدرسة فنية بعينها هو يعزف على سطح اللوحة «أنشودته»، ولأنه يبدأ بالإنشاد لنفسه وحنين ذاته فإنه يمس مشاعرنا وحواسنا بذلك «الناي» الحامل لأجواء السحر فيجعلنا شركاء في إبداعه».
وقال عنه الفنان د. فاروق بسيوني (مجلة العربى - مارس 1995):
«في أعماله شيء إنساني خاص بسيط رائق، فرح جامع بين فرح التعبير في بكارته التلقائية وهندسة البناء العقلي للأشكال في صياغاتها المتعددة، جمعًا لا نستطيع أن نتبين فيه أين يبدأ القصد وما حدود المصادفة» ■