«سماوات لا تنبت أشجارًا» لحسن علي البطران في سبيل تأصيل نوع قصصي معاصر

«سماوات لا تنبت أشجارًا» لحسن علي البطران في سبيل تأصيل نوع قصصي معاصر

تكثر في هذه الأيام كتابة الأنواع الأدبية القصيرة جدًا، ومنها القصة القصيرة جدًا (ق. ق. ج). ويمكن القول في هذا الشأن: إن التجربة الحياتية المعاصرة أفضت إلى إتاحة فرص الكتابة لجميع الكتَّاب على اختلاف مستوياتهم، ما يعني أن النافذة التي فُتحت لتجديد الهواء في القاعة تحتاج إلى شبكة من السلك لتنقّي هذا الهواء من الشوائب التي قد تختلط به، وهذه الشبكة هي في ما يتعلق بالكتابة الأدبية النقد الأدبي الذي يميِّز النصوص، ويتبيَّن خصائصها.

 

في ما يأتي أحاول أن أتيح لهذا النقد أن ينهض بأداء هذه المهمة، ويقدِّم قراءة نقديَّة في هذه المجموعة القصصية.
أبدأ بعتبات المجموعة:
عنوان المجموعة: «سماوات لا تنبت أشجارًا»، مجاز. علامة دالَّة ليس على السماوات، وإنما على ما تسقطه من مطر يُنبت أشجارًا. يحضر في النص هنا تناصٌّ مع ما أنشده جرير قديمًا: 

إذا سقط السماء بأرض قومٍ 
رعيناه وإن كانوا غضابا
 فهو يقول إنهم يرعون العشب الذي ينبت في أرض أولئك القوم، وإن كانوا غضابا. والمقصود هو أنَّ ماشيتهم هي التي ترعى سماء الآخرين/ المجاز. وهذه ثنائية ترسم مشهدًا دالاًّ على قوة الأنا وعجز الآخر. 
«سماوات»، عنوان هذه المجموعة، جمع، «لا تنبت أشجارًا»، أي لا تُسقط مطرًا ينبت أشجارًا، وهذا دالٌّ على الفقد، فقد الخصب، والعقم، وتشكيل فضاء نصِّي هذه هي دلالته.
في عناوين عدد من القصص ما يؤدّي هذه الدلالة، مثل: «سماء بدون غيوم»، والصواب «من دون غيوم»، و«طيور ينقصها الريش»، و«غصن لم يكتمل نموُّه بعد»، و«شمعة لا تضيء». ولا يفوتني أن أشير إلى أنّي كنت قد كتبت قصة عن الطير الذي يفقد ريشه، وتاليًا هويته، في مجموعتي القصصية «مناديل»، الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب سنة 1994 (كنوز طائر، مناديل، ص 66).
تبدأ مجموعة «سماوات...» بتصدير هو: «أغمضت عيني، ثم أبصرت، فرأيت حسن - جدتي فهيمة». تلفت في هذا التصدير ثنائية التضاد: الإغماض/ الإبصار، ثم ثنائية التوالد: الإبصار/ الرؤية - رؤية حسن، وهو المؤلف، ومن أغمضت، وأبصرت ورأت جدته فهيمة، والاسم دالٌّ على الأصل والفهم، والسؤال الذي يطرح هنا هو: هل من دلالة على أن حسن المرئي، بعد إغماض فإبصار فرؤية، هو وليد رؤية الأصل والفهم، وهو مَن سيقوم بكشف عالم هذه السماوات العقيمة، ولعلها السماوات التي يهديها مجموعته. وقد نجد، في قصة «برميل نفط»، ما يؤيِّد ما نذهب إليه، فالجدَّة، في هذه القصة، ترفض تزويج حفيدتها من رجل لا يملك من المزايا سوى برميل نفط، فالجدَّة ترفض أن تعيش حفيدتها، كناية عن الجيل الجديد، في فضاء سماء من هذه السماوات العقيمة.
تتضمن المجموعة ثلاثًا وستين قصة قصيرة جدًا، تتوزع على إحدى وعشرين مجموعة، تحمل كل مجموعة عناوين القصص الثلاث التي تتضمنها، ولا أنكر أنني لم أتمكن من معرفة المعيار الذي اعتُمد في هذا التوزيع.
تفيد قراءة قصص هذه المجموعة بأنها تتصف بما يأتي: 
1 - السرد هو العنصر الأساس المهيمن في قصص هذه المجموعة، والحوار عنصر أساس أيضًا، يؤدّي وظائف، منها تنمية السرد وتعريف الشخصيات وبيان مواقفها. أما الخطاب متنوّع العناصر فقلما يرد، وإذا ورد فلأداء وظائف يقتضيها السرد.
2 - القصص قصيرة جدًا من حيث الحجم، إذ يتراوح عدد كلماتها بين سبع عشرة كلمة وست كلمات. وكنت قد اقترحت، في غير مقالة، أن يسمَّى هذا النوع من القص قُصيصة، لأنَّ هذا المصطلح يتألف من كلمة واحدة، ودالٌّ على النوع، وغير مترجم. وإن يكن الحجم، المتمثل بالإيجاز، عنصرًا لازمًا في تحديد النوع فإنه غير كاف، إذ ينبغي أن تتوافر عناصر أخرى سوف نتبينها في ما يأتي.
3 - الحدث لحظة مهمة من الحياة، أي تفصيل مهم مُلتقط من الحياة يدلُّ على حالة، أو موقف، أو شخصية، من دون تفصيلات في الوقائع. والملاحظ في قصص هذه المجموعة، أن «الحدث» فيها يتنوَّع عدة أنواع: 
أوَّلها حدث واقعي يمضي السرد فيه بمسار تُنمِّيه علاقاته الداخلية، ويبرز فيه نوعان: أوَّلهما الحدث واقعي مكثف تتمثل فيه ثنائية الحضور/الغياب، أو المسكوت عنه، المتروك للقارئ أن يقوله، ومن نماذجه على سبيل المثال قصة «راجو»؛ حيث تتشكل ثنائية احترام الأب/احتقار الأم، والدال الكاشف للخيانة أثر أحمر الشفاه على قميص البائع، وقصة «دموع أم بكاء»؛ حيث تتشكل ثنائية مناورة القوات المسلحة/غناء أم كلثوم الكاشفة حال الناس، ومن النماذج كذلك قصة «وسادة مبللة» وقصة «بقايا جسد». وثانيهما الحدث واقعي مباشر لا يخلو من إيحاءات، ومن نماذجه قصة «استغلال»، وفيها أشارت المرأة للرجل بسبابتها، بعد الاستيلاء على ثروته، تطلب النزوح عنه، وهنا نلحظ مفارقة لغوية؛ إذ كان متوقعًا أن تطلب الزواج منه، وقصص «شمعة لا تضيء» و«إرضاع» و«وطني». 
وثانيها يمضي الحدث في مسار تمليه إرادة الراوي المتحكِّم إلى نهاية غير محدَّدة، يكتنفه الغموض ويحتاج إلى ملء فراغات، ويتيح المجال لتعدُّد تأويله، ومن نماذجه قصة «ميل في ميل»، ونصُّها: «صمت برهة/ ثم قال: أهلا بحلوتي/ مشطت شعرها/ ولبست فستانًا/ واقتربت منه/ وناولته خنجرًا»، ففعل صمتَ... يعني أنه كان يتحدث. وتأهيله بها يعني أنها وصلت، أو أنها حضرت بعد فعلٍ ما، لكن مع من كان يتحدث، هل كان يتحدث بها قبل التأهيل؟ ومشطت... ولبست ... تعنيان أنها كانت في وضع مشعثة الشعر وعارية أو شبه عارية، وتنكير الفستان يدل على أنه ليس فستانها، وإذ تقترب يعني أنها بعيدة عنه، ثم لماذا تناوله خنجرًا؟ هل لذلك علاقة بالوضع الذي كانت عليه قبل تمشيط الشعر ولبس الفستان؟، وقصص أخرى، مثل: «شجرة منزوعة الأوراق» و«مزامير خضراء» و«بقايا من مذاق».
وثالثها الحدث يتمثل في مشهد يتشكل من تفصيلات سردية تقوم بينها علاقات بنيوية، فتشكل بنية قصصية تنطق بدلالة. ومن نماذجه قصة «سماء بدون غيوم»، المتشكلة من تفاصيل: الجنين، الشجرة، الصورة، السماء، وقصة «رداء»، المتشكِّلة من تفاصيل: بكاء الطفل، رقص الأم، تكسر إطارات الصور، تلاعب الأب بريش الطيور...، وفي هذا النوع من القصص غموض يُترك للقارئ تبيُّنه. 
4 - معظم عناوين هذه المجموعة تتألف من كلمة أو كلمتين، وكثير منها يمثل علامة تسهم في النطق بدلالة القصة، كما مرَّ بنا آنفا، غير أنه توجد عناوين تتألف من عدة كلمات، مثل: «ثقوب من شباك النافذة»، و«شرعية الهدف رغم تسلُّله»، فهذا العنوان، فضلًا عن كثرة عدد كلماته ينطق بدلالة مباشرة كأنه عنوان مقالة.
5 - شخصيات قصص هذه المجموعة قليلة جدًا، ففي كل قصة شخصية واحدة أو شخصيتان، لا تُرسم بالتفصيل، وإنما بالإشارة الدالَّة، والشخصية، في كثير من القصص، دور، وكثيرًا ما تتمثل بضمير، ماعدا قصتين هما: «رطوبة بئر» و«شجرة منزوعة الأوراق»، ويبدو أن التسمية في كل من القصتين لم تؤد دلالة إضافية، أما تسمية «أم كلثوم» في قصة «دموع أم بكاء» فليست تسمية شخصية، وإنما هي تسمية طرف من طرفي الثنائية الضدية الكاشفة حالة من حالات الناس الواقعية.
6 - الزمان والمكان غير محدَّدين، وإنما مفتوحان، وفي حالات يحيلان إلى الماضي القريب أو البعيد، أو المستقبل. ومن نماذج هذه الإحالات ما جاء في قصة «نحو البعيد»: «أراد زوجة، فأعطي عصا يهشّ بها على غنمهم». الواضح أنَّ هذه القصة تحيل إلى قصة زواج النبي موسى، وإجابته الله سبحانه وتعالى: (هي عصاي أهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى)، وهذا تناصٌّ مع القرآن الكريم.
والتناص، بوصفه حضورًا لنصٍّ من الزمن الماضي في النص، ملاحَظ في بعض قصص هذه المجموعة، ومن هذه القصص قصة «عذراء» التي تتناص مع قصة السيدة مريم العذراء، كما وردت في القرآن الكريم، وخصوصًا مع الخطاب: (وهزِّي إليك بجذع النخلة)، وقصة «وآوت يوسف» التي تحضر فيها قصة النبي يوسف، والواضح أن هذا التناص يتم مع نصوص من القرآن الكريم.
7 - تكثر الثنائيات / المفارقات في قصص هذه المجموعة. والمفارقة اسم مفعول من «فارق»، أي غاير وباين واختلف. والمفارقة، اصطلاحًا، هي وحدة لغوية تنطق بما يباين معناها المعجمي ويخالفه ويغايره. ما يعني أنها تحتاج إلى تأويل، فيكون المؤوِّل بذلك مشاركًا في إنتاج المعنى، وقد يختلف المؤوِّلون، فيتعدَّد المعنى. ومن النماذج الدالة نذكر: قصة «دبلوماسية»، ففيها تتمثل ثنائية مناسبة وجاهة/ مناسبة مساكين. لايحضرهما. يسأل فتأتي المفارقة؛ إذ يجيب: لم أر ممثلًا عن جامعة الدول العربية! ما علاقة هذه الإجابة بالحدث؟ ليس من علاقة مباشرة. هل هي سخرية وتهكم؟ وفي قصة «دخول» تأتي المفارقة بعد عدم سماعه لها ومواصلة إدخاله. فتقول له: هل من عنقود عنب يتدلى؟ ما علاقة هذا السؤال بالحدث؟ الأمر متروك للتأويل. وفي قصة «وسادة» توحي المفارقة بالدلالة؛ إذ إن المجاز التركيبي: «كان أحد ضحاياي في لعبة القط والقطة» دال على ما كان بينهما من علاقة مهينة في زمن ماضٍ.
8 - غني عن البيان أن هذه الثنائيات والمفارقات والمجاز التركيبي والحذف والمسكوت عنه، إضافة إلى النهايات المفتوحة، تعطي دورًا للقارئ في إنتاج النص؛ إذ تتيح له أن يضيف ويؤول ويضع النهاية...، كما تتيح تعدُّد الدلالة. 
9 - اللغة مقتصدة، ألفاظ معجمها دقيقة الأداء، عباراتها قصيرة، تركيبها بسيط. ومن نماذج ذلك: «سقطت وردة. انكسرت الكأس. ابتسمت الفتاة. عزفت الموسيقى... انصرف المدعوون». 
10 - الفضاء اللغوي يحتاج إلى عناية، فعلامات تنصيص الحوار في هذه المجموعة تأتي قبل فعل القول في كثير من الأحيان، كما أن فعل القول لا تليه نقطتان في عدة حالات، إضافة إلى أنَّ علامات الترقيم تحتاج إلى أن تكون أكثر دقة. 
والأمر الأهم هو الأخطاء اللغوية والإملائية، إذ لا تخلو بعض قصص هذه المجموعة منها. ينبغي في هذا النوع القصصي إيلاء هذه الأمور الأهمية القصوى، إذ إنَّها مكوِّنات أساس من مكونات هويته.
تفيد هذه القراءة بأن هذه المجموعة القصصية تمثل تجربة جيدة، يمكن أن تسهم في تأصيل هذا النوع القصصي المعاصر ■