الغزل في شعر الأخطل الصغير
لا تحلو الحياة بغير الحب، ولا يحلو الحب بغير الغزل، ومنذ عرف الإنسان الحياة اكتشف فن الغزل؛ «لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط في القلوب لما(قد) جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل وإلف النساء، فليس يكاد أحد يخلو من أن يكون متعلّقًا منه بسبب وضاربًا منه بسهم». وعندما يذكر الغزل يذكر الباعث إلى وجوده، ألا وهو المرأة بفتنتها وسحرها، وكل ما تبعثه في القلوب من شوق وحنين وحزن وأنين، وإقبال وودّ وهجر وصدّ... لذلك اهتم الشعراء بهذا الفن اهتمامًا بالغًا وفتحوا له رتاج قلوبهم منذ العصر الجاهلي حتى يومنا هذا.
الأخطل الصغير (بشارة الخوري)... هو من شعراء عصر النهضة الذين اهتموا بالغزل، فاتسمت صوره الشعرية بالحيوية العاطفية، والخيال الرقيق، والإحساس المرهف، وسلاسة العبارة، والعذوبة والانسجام وانسياب الأنغام، حتى بدت قصائده مأنوسة وسهلة الحفظ والسماع وأكثر طواعية للتلحين والغناء، وهذا ما دفع العديد من المطربين إلى غناء كلماته، أمثال محمد عبد الوهاب وأسمهان وفريد الأطرش وفيروز وغيرهم.
الرومانسية بشعر الخوري
مَن يقرأ ديوان الشاعر يَرَ معظم قصائده تلونت بأصباغ الرومانسية، التي زينت شعره بألوان مبتكرة بمقتضى الألم والحلم واليأس والحزن والفرح والمرح والسعادة والسرور... وهذا ما جعل غزله في المرأة يتبلور في اتجاه وجداني واتجاه حسي واتجاه المزج بين الوجداني والحسي.
فعلى الصعيد الوجداني، رفع بشارة الخوري من مكانة المرأة في شعره «وشعرت بسلطانها واعتقدت أن لها من المواهب والصفات ما يجعلها معشوقة أكثر منها عاشقة».
وتعدّ قصيدة «بلّغوها» من أصدق وجدانيات الشاعر، والتي تعبّر عن شعور نبيل وحب صادق ومخلص، وشفافية العاطفة والشوق والتوق والألم والأمل... وهي قصة حب واقعية عاشها الشاعر، إذ إنه كان مطاردًا من السلطة العثمانية بسبب مواقفه السياسية، وقد وصله خبر علم السلطة بمكان وجوده وأنها قادمة لمداهمته ففرّ من مكان اختبائه داخل منزل صديقه خليل فاضل في بيروت، ووالد حبيبته أديل التي صارت زوجه فيما بعد، حيث لم يستطع أن يودّعها، فنظم لها أبياتًا أرسلها إليها، وتوارى عن الأنظار، ملتجئًا إلى ريفون، ومتخذًا لنفسه لقب «الأخطل الصغير»، فضلّل السلطة، وحال دون اعتقاله؛ ومن هذه الأبيات:
بلّغوهـــا إذا أتيتم حمـاهـــا
أنني متّ في الغرام فداها
واذكروني لها بكــلّ جمــيل
فعساها تبكي عليّ عساها
واصحبوها لتربتي، فعظامي
تشتهي أن تدوســها قدماها
لم يشقني يوم القيامة، لــولا
أمـــلي أنني هنــاك أراهـا
والتمس الأخطل الصغير في الطبيعة الحبَّ والحياة وصدق العاطفة، فمزج عواطفه بالشوق والحنين والشكوى والأنين، وأضفى إلى النسيم أبعادًا دلالية جديدة ارتبطت بواقعه النفسي، دلّت على اعترافه بالعجز أمام سليمى، وعلى ثقل الهموم التي أحاطت به، فدبّ اليأس في قلبه، وجعله حزينًا باكيًا شاكيًا، يرى في النسيم ما أقوى وأجدر ممّا لديه، فقال:
أنا لو كنت يا ســـليمى نسيما
لقطعت الرُّبى وجُبتُ السهولا
وحملت الهوى إليك جريحًــا
وترامـيت بين يديـــك علـيـلا
غير أني، كما علمت، ضعيف
حمّــلتــه الأيــام عبئـًا ثقيـــلا
إنّ مـــا يقــدر النســيم عليــه
بات صعبًا عليّ بـل مستحـيلا
توشّحت قصائد الشاعر في بعض الأحيان بومضات حسّية أخّاذة، تتعلق بالنفس في أدق إحساساتها، وتجمع بين الصدّ والودّ، والجزر والمدّ، وبين اللون والعطر ورائحة الورد... ففي قصيدة «وردة وفراشة» أخرج الكلمات من علاقتها العادية، ولم تعد العلاقة هي نفسها التي تربط الشاعر بالمخدّة، أو تربط الفراشة بالوردة، بل صارت علاقة قائمة على الغريزة، وعلى أجواء الحب والغرام التي تلهب قلب العشّاق، فقال:
رضيَتْ، وقـد ذهب الجـفـــا
وكذا الهــوى لين وشــدّه
وتبسّمت، فـعلمت أن رجـــ
عــتْ لنــا تلك الـمــــودّه
ورمى الهوى بـي فارتميت
وكـان نهــداهــــا المخـدّه
فـأنـا بصـــــــدر حـبيبتــي
كفراشــــة في قلـب ورده
الطبيعة والإنسان بقصائد خوري
وفي لوحة أخرى، أوجد من خلال التركيب البلاغي في قصيدته علاقة حسية موصوفة بين مكونات الطبيعة والإنسان، جعلت البلبل يتغزّل بجمال المرأة ويسمعها ألحانه، والروض يسكر بمفاتنها، والورد يقتل نفسه حسدًا وغيرة من جمالها، فوهبها دماءه ووضعها على خديها لتزيد جمالاً وإشراقًا؛ هذا بالإضافة إلى أنه خلق علاقة إنسانية كلامية بين الأشياء والحيوانات، تشدّد على أهمية حاسة الذوق التي دفعت بالأنسام إلى إرشـاد الفراشات إلى شـفتي تـلك الفتاة، حيـث يعـبق منهما الرحيق الطـيّب المذاق، والذي وجدت فيه تلك الفراشات ما هو أطيب وأشهى من رائحة الزهور الحقيقية، فقال:
ما تغنــى الهــــزار إلا ليلقي
زفـــرات الغـــرام في أذنيك
سكر الروض سكرة صرعته
عند مجرى العبير من نهديك
قتل الورد نفسه حســــدًا منك
وألقــى دمـــــاه في وجنتيـك
والفراشات ملّت الزهـر لمّا
حدثتها الأنســــام عن شفتيك
وفي قصيدة «كصلاة الأطفال» مزج الشاعر بين الوجدانية والحسّية، حيث شبّه أنفاس المرأة النائمة بصلاة الأطفال المفعمة بالبراءة والبساطة، والتي تحلم حلمًا أبيض الألوان، بعيدًا عمّا يدنّس ويعكّر صفو طهارتها، لكنه في القصيدة نفسها أشار إلى الطابع الغرائزي الكامن في أعماق الإنسان - الذي يتأثر برؤية المفاتن المحجوبة عند المرأة، إلى أن أطلق العنان لكلماته ووصل إلى نتيجة أن الملاك الطاهر قد يشعر بما يعتمل في قلبه حين يرى مفاتن تلك الفتاة، فيعيش حالة صراع بين الحلم والواقع، وبين الطهر والإثم، وبين العقل والغريزة، حتى بدت صورته الشعرية كأنها لغز خاص بلغة الشاعر، فقال:
رقدتْ، ترشف الكرى مقلتـــــاها
مثلما ترشفُ العطاشُ المياها
صاعـــدات أنفاســها، هادئـــات
كصلاة الأطفال طهر شـذاها
تحلــم الحــلـم لـؤلـؤيًا: فتملــيــه
طهــورًا على الصبـا شفتـاها
وأزاح النسيمُ عن صدرها الثوبَ
فلاحــا... ولا تقـــل نـهـــداها
شكّ في نفسه الملاك، فـــلا يدري
إن كــان صبّــهــا أم أخــــاها
أسلوب جديد في الغزل
أخيرًا، كلمة حقّ تقال إن غزل الأخطل الصغير من أرقى وأعذب أنواع الغزل في الشعر العربي، لما فيه من سلاسة لفظ وجزالة تعبير وحسن جرس تألفه الأذن ويعشقه القلب، فينفذ إلى مشاعر الإنسان دون إذن أو استئذان. هذا بالإضافة إلى رقي الشاعر في التعاطي مع المرأة، حيث كان شفافًا لا يعلن الحرب عليها أو يتظلّمها، بل ظل يومئ من بعيد بعبارات وألفاظ ناعمة زيّن بها قصائده، فعبّرت عن نبل في مواقفه، وثقافة متنوعة، هذا بالإضافة إلى أنه تميّز بامتلاك مفردات خاصة بشاعريته، جعلتها ذات دلالات جديدة، تتناسب مع همومه وميوله واهتماماته وتطلعاته ورؤاه، فعبّرت عن فنّية دلالية، قد تكون تأسيسًا لأسلوب جديد في الغزل، يستلهمه جيل من الشعراء الذين جاؤوا من بعده ■