تشكّلات السرد السعودي المعاصر... حسين السنونة نموذجًا المشاكَسَة والنزوع إلى التمرد في المجموعتين القصصيتين «أقنعة من لحم» و«ثرثرة خلف المحراب»
في مجموعتيه القصصيتين الأخيرتين «أقنعة من لحم» (دار سطور عربية، 2021)، و«ثرثرة خلف المحراب» (مؤسسة الانتشار العربي، 2020)، يجسّد القاصّ حسين السنونة تفجّرات السرد السعودي المعاصر؛ في انزياحاته الجمالية المُغايرة من جهة، وفي مغامراته وقفزاته الجريئة على الصعيد الاجتماعي، من جهة أخرى، ما يؤكد نزوعًا لدى أحدث أجيال الكتابة القصصية في المملكة إلى الانفلات والتمرد، ويعكس حرصهم على المشاكسة، بمعناها الإيجابي المنطوي على الاقتحام والتحرر، والرغبة في مراجعة الثابت المستقر، وتمحيص الموروث، وإعادة قراءة الواقع بمفاهيم عصرية، أملًا في إحداث حراك مثمر يضيء اللحظة الراهنة ويدفع القاطرة إلى الأمام.
ما من شك في أن أحد المعايير الجوهرية لقياس عمق الكتابة ونضجها هو مدى انفتاحها على المشهد الحياتي من حولها، وترجمتها مكابدات الواقع الملموس، وتعبيرها الواعي عن هموم الفرد وأزمات المجتمع وقضاياه الملحّة. ويتصل ذلك بطبيعة الحال بالكيفية الإبداعية التي يجري الطرح الفني من خلالها، وإلى أي مدى ينطوي التشكيل الجمالي على رصيد معرفي رصين، وسعة أفق ثقافية وفكرية، وقدرة على الابتكار والتطوير في المعالجة بمنظور أدبي مجرّد يشكّل قيمة بحد ذاته.
تحت هذه المظلة العامة يتحرك السنونة في أعماله القصصية كنموذج للسرد السعودي المعاصر، قاصدًا من مشاغباته أو تخييلاته القصصية إطلاق صيحة مباغتة، لربما تتخطى ميدان الأدب إلى فضاءات أخرى لم تكن لتسمح من قبل بتمرير صوت الاحتجاج أو الاستماع إلى عبارات الرفض، لاسيما في الأمور المتعلقة بالموروثات الدينية والشؤون الاجتماعية والسياسية والرواسخ الشعبية، إلى جانب المبادئ الخاصة بحقوق الإنسان والتطلعات المنشودة إلى العدالة والحرية واحترام حق الاختلاف مع الآخر وغيرها من العناوين العريضة المهمة ذات الصلة.
ولا يخفى أن مثل هذه الأطروحات الشائكة وغيرها، التي يقدمها السنونة في مجموعتيه القصصيتين، لم تكن لتتجلى على هذا النحو العاصف لولا حقيقتان أساسيتان: الأولى: تمدد مساحة التسامح بالفعل في المشهد السعودي الحالي، الذي بات يتسع صدره لكتابات جريئة وربما انتقادية لاذعة، باعتبارها تهدف إلى الصالح العام وبلوغ الأفضل، في مضمار الأدب، وفي مناحي الحياة المتنوّعة معًا. والحقيقة الثانية: اتكاء هذه الكتابة الواعية على حصيلة ثرية من نتاج الآباء والروّاد في السرد السعودي، على مدار سنوات طويلة. وقد ظهرت إرهاصات هؤلاء الآباء الشرعيين كأعمال إبداعية خالصة من جهة، وكلافتات للخلخلة والتثوير وكسر التابوهات من جهة أخرى، جماليًّا واجتماعيًّا، كما في إبداعات عبد الرحمن منيف ورجاء عالم وغازي القصيبي وبدرية البشر وعبده خال ويوسف المحيميد وآخرين من أجيال متلاحقة.
الكتابة السردية الجديدة في المملكة
ويمكن اعتبار مجموعتي حسين السنونة «أقنعة من لحم» و«ثرثرة خلف المحراب» تمثيلًا للكتابة السردية الجديدة في المملكة، وذلك من حيث موازنة الإبداع بين إعلاء شأن أدبياته وجمالياته التأثيرية، وعدم إهداره في الوقت نفسه القضايا الحيوية بالمحتوى المشتمل عادة على انتقاد أوضاع سلبية وإزاحة موروثات بالية. وهذا القصّ الجديد يمتلك من الخبرة ما يجعله يعتني بمهاراته وآلياته الأدبية والخطابية في المقام الأول، ويحتفظ كذلك بحقه في تقصّي اهتمامات الذات وانشغالات الآخرين بالمجتمع، تأكيدًا على أن النزعة نحو المحلية لا تنفي إنسانية الإبداع.
هكذا ينهل حسين السنونة من معين المشهد السعودي الآني، ملتفتًا إلى ملفات ساخنة، تتعلق بحرية الرأي والتعبير والأوضاع النسوية وغيرها من القضايا الجادة الجديرة بالتحليل والمناقشة، ولا يفقده هذا التوجه الواعي براءة التدفق وعفوية الاندياح وسلاسة الخيال وخصوبة التعاطي مع التفاصيل المتشابكة والحالات المرهفة في تيار الحياة المتدفق، وتلك اللحظات الحساسة التي يجري قنصها. كما تكتمل المعادلة الصعبة بمزج الواقع والفانتازيا، والحقيقي والسحري، والمعقول وغير المعقول، في سياق واحد محكم البناء.
في مجموعته «أقنعة من لحم»، ينطلق حسين السنونة من تعرية الزيف، وإدانة العتمة، والقفز على الجراح، وتوليد الدهشة والمتعة من ثنيّات الآلام، بروح مرحة لا تخلو من سخرية، وسمت كاريكاتيري حاد، يبلور المواقف، ويعتني بالمفارقات، فالمُضحكات هي ذاتها المُبكيات، والكوميديا المتاحة هي نفسها تراجيديا الأقنعة المدمّرة التي يرتديها البشر بدلًا من وجوههم المتهالكة.
لا يكف السنونة عن الدوران في حلقات مفرغة أنتجها الواقع المأزوم، المتخلّي عن عناصر إنسانيته، لصالح الآلية والقولبة والبرامج الجاهزة لتشغيل الحياة الرتيبة المفتقدة نكهتها وخميرتها الأولى البكر: «وجهي وجهي وجهي. من أين أتى هذا الوجه؟ أين ذهب وجهي؟ هذا ليس وجهي، أنا إنسان»، مثلما يصيح أحد أبطاله في «أقنعة من لحم».
السنونة والابتسامات المفقودة
ويتهكم السنونة في قصة أخرى على الابتسامات المفقودة في هذا العالم، على الرغم من وجود وزارات للسعادة في بعض البلدان العربية، لكن السعادة ذاتها «لا نراها سوى في الروايات الرومانسية، ونهايات الأفلام الهندية»، أما الأشياء التي اعتاد الوزراء أن يوزّعوها حين يفرغون من اجتماعاتهم المتكررة، فهي مجرد «ابتسامات صفراء لا تسر الناظرين».
ويتخذ السنونة من التندر والسخرية مداخل فنية مراوغة وإسقاطات متعددة المستويات والتأويلات، للنفاذ من خلال المشاهد البسيطة إلى قضايا اجتماعية وسياسية وإنسانية وفلسفية، منها قضايا التعليم مثلًا، والصحة، والتدرج الوظيفي، وغيرها. وهناك دائمًا على امتداد القصص حكي مباشر، مونولوجي، وحوار ثنائي، أو جماعي، ومن وراء ذلك تتخلى القصة عن عناصرها وأطرها التقليدية، لتكشف مقاصد أخرى أبعد، خارج القيود النوعية، تمسّ تلك «الصرخات الطينية»، التي يحكي عنها، حيث يتلاشى الواقعي، ليتحدث الطقس العام لغة الهذيان، إذ لا مجال للرفض والاحتجاج والاعتراض على شيء، سوى بالموت أو الانسحاب النهائي، وهذا هو معنى العجز الكامل «مؤلم أن تشعر بالعجز والفقد، الإحساس بأنك تعيش في زمن لا يشبهك، ولا يرغب فيك»، وهو ما يشير إليه أيضًا في «ترانيم مواطن لا يتحرك».
وفي مجموعته «ثرثرة خلف المحراب»، يتطرق حسين السنونة إلى الكثير من تداعيات هذه «الثرثرة» أو السيولة الكلامية العارمة من دون حساب، وهي ثرثرة يمارسها بأريحية «خلف المحراب»، لكي يعرّج على أمور سلبية تخص مجتمعه وتتهدد أعضاءه، لعل من أخطرها سوء توظيف هذا المحراب نفسه، حيث قد يُستخدم كمنبر للتطرف والتشدد الديني وممارسة التسلط وفرض الوصاية من المتزمتين الذين يرون أنفسهم وسطاء بين البشر والخالق من دون أن يمنحهم أحدٌ هذا الحق. ومن انتقاده لهيمنة مدّعي امتلاك السلطة الدينية، ينطلق السنونة إلى الاعتراض على السيادة السلطوية المطلقة عمومًا، سواء من جانب المؤسسات الرسمية أو الجهات غير الرسمية من حوله، أو حتى سيادة سلطة الموروث من التقاليد والعادات التي يتم التعامل معها كحقائق ومسلّمات من دون إعمال للعقل إزاءها.
ويراهن حسين السنونة في قصصه عادة على تصوير اللقطات المتقطعة القصيرة، والكادرات السينمائية المتلاحقة السريعة، والاقتراب من المواقف والشخصيات، كما أنه يتحرك من حالة إلى أخرى بعيون المتعمق الناقد، وبلغة الشعر المرهفة الشفيفة، المحمّلة أحيانًا بنصوص شعرية مكتملة، وهي كلها اجتهادات فنية في صالح القاصّ المتطلع إلى التطوير والابتكار. وتبدو منصة إطلاق الأفكار لدى السنونة غير محكومة بأطر، ومن ثم فإنه يتخذ من المطر الغزير في إحدى قصصه رمزًا للانفلات والتحرر والانطلاق إلى أبعد الحدود، في إثارة قضايا كثيرة، منها مثلًا الحقوق النسوية المنقوصة، حتى في أبسط صورها أحيانًا، كعبور المرأة في الطريق.
وفي إحدى قصص المجموعة، ينطق السارد بلسان واحد من السجناء، ليكشف كيف تقزمت حرية القول والفعل وممارسة الحياة، وصارت المناداة بالاستنارة في نظر البعض شططًا وخروجًا على تعاليم الدين ومناهج الأخلاق وبنود القوانين الوضعية، وهي القوانين التي تكبح جماح التغيير، وتخدم المتسلطين والمتسلقين والراغبين في بقاء الأمور الكارثية على ما هي عليه من دون إصلاح أو تطوير ■