بطاقة دخول «طبربور»

بطاقة دخول «طبربور»

بطاقتي في يدي وقد دق عليها ختم خروج من مدن المنافي البعيدة، عجلات الطائرة تلامس رصيف المطار، سقطت دمعة، هي عناق الملح وتراب الأرض، تلفحني نسمات شآم شآم، أدق بقدمي على أرض هي لي، هي لي، من بين جبال سبع، تهفو الروح إلى جبل «عمان»، أقف بباب مقهى «رم» المقابل لدائرة الجوازات وذاكرة طازجة بهية لا تبارح مواقيتها، كما الأمس القريب، وأنا أمسك بيد أبي، أقف إلى جواره أمام الحاجز الزجاجي، يصلني صوته، يخاطب الرجل خلف الحاجز:
- هي صبيتي وقد بلغت السن لتقبض على بطاقة تحمل اسمها.
أسمع حروف اسمي، أنهض لأستسلم بطاقتي، كم كثيرة فيها الأوراق، أوراق عليها وشم المدن الغريبة، أصفر، أحمر، أخضر، تاريخ دخول، وخروج، هي بطاقتي التي ناولها لي أبي يوم أورقت مواقيت صباي، كم من المرات ذهبت إلى هناك، حيث الحاجز الزجاجي، أبحث عن مطارح أقدامه، أقف كما وقفته، أقبض على الأقلام، أجمع الأحبار، أكتب اسمي، هويتي، تاريخ ميلادي، أسمع اسمي من البعد، أقبض على بطاقة غربتي من جديد...
***
في المساء القريب فتحت حقيبتي، أدقق في بطاقتي، وقد قاربت على الانتهاء، اقترب وقت وقوفي هناك أمام الحاجز الزجاجي حيث وقفة أبي منذ سنوات بعيدة، جمعت أوراقي، أحباري، حروف اسمي من روح أبجدية أنا عاشقة لها، صوت السيدة تنادي على الأرقام، أقمت طولي، أقف على ذات بلاط مبنى الجوازات القديم، هو على حاله من عهد بعيد أنا ووالدي، اقتربت من النافذة الزجاجية، يدق حروف اسمي على شاشة الحاسوب، التفت إليّ منبهًا:
- هنا تعليمات بوقف إصدار البطاقة!!!
- لماذا؟!!!
لم يجبني، زحفت العتمة على حروف اسمي وعنواني، تاريخ ميلادي، اسم مدينتي، أمي، أبي، وقبل أن يشيح لي بوجهه، أعاجله بسؤال تسكنه الدهشة:
- أين أذهب يا سيدي؟!!!
- إلى «طبربور». 
أشرت إلى عربة في نهر الطريق، وجهتنا «طبربور» يحدث نفسه، أن يكون الطريق مفتوحًا أمامنا، مر وقت وإذ بي بباب المبنى الضخم، صعدت للطابق العلوي، أشار لي الرجل بالذهاب للبناية المجاورة، هناك كانت الحجرات كثيرة، أرقام الحجرات غير مسلسلة، من الرقم الأحادي إلى المئوي، كل حجرة فيها مسؤول يوقع، يسأل، يمعن في الفكرة، يسألني عن أبي، أخواتي، أسرتي، وحجرة أخرى تسألني عن اسم أمي و... وأخرى موعد خروجي من غرب النهر إلى شرقه، أشحذ ذاكرتي، أجاهد لأن أختزل سنوات العمر في دقائق  تصير أنا وأبي يوم قطعنا النهر واحتضني وأسكن في راحة يدي بطاقتي، يعيدني سؤاله حيث وقفتي أمام مكتبه: 
- أي عام بالضبط؟
أعود الى أربعة عقود، أعود وأنا غارقة بدمعة من ملح، أدخل إلى حجرة أخرى، يدق حروف اسمي على شاشة الحاسوب، يسحب ورقة، أدخل بها حجرة أخرى، أصورها، وأعيدها لتعانق ختم الموافقة، الممانعة، لا أدري، أمضي بين الحجرات، حجرة تسلمني إلى حجرة، وجوه مكدودة، تحمل في يدها أوراقًا باهتة، حكايات، أسماء، توثيقًا، أنا على عتبة الانتظار أرنو إلى لحظة الخلاص، حجرة رقم «5»، حجرة رقم 228، اقترب موعد انصراف الموظفين، الحجرات موصدة وأنا أحوم بين الممرات أبحث عن باب مشرع لي، أبحث عن نافذة أدق عليها، وحاجز زجاجي يستقبلني، أطفئت الأنوار، وعدت أدراجي من «طبربور» إلى جبل «عمان» أنتظر شروق شمس الغد لأعود من جديد، أطرق الأبواب الموصدة، أنشد أنشودة العائد، الغائب، وقد تكون مرثية احتضار قبل الرحيل، في يدي ورقة وحيدة خرجت بها وغدًا أعود بها، قد تصير أوراقًا تسكن الأصفر، الأخضر، ركنت إلى وسادتي، أرنو للنافذة، لم أعد أرى وطنًا، لم أعد أرى وطنًا...
***
أشرق الوقت وأنا هنا لا زلت والطرقات حيث مبنى الجوازات وجبل عمان، عدت إلى ذات الأرض التي وقف عليها أبي وأسلمني بطاقتي، عدت أقف أمام ذات النافذة، أرنو لشاشة الحاسوب، صورتي، اسمي، هويتي، يصلني صوته:
- ما زال المنع هنا أمامي، لم يتحرك عن الشاشة، اذهبي إن أردت إلى المدير.
اتجهت حيث حجرة قصية، وقفت أمام مكتبه وفي يدي ورقة وحيدة، فتح الحاسوب:
- ألم تذهبي إلى «طبربور»!!!!
- ذهبت وأمضيت نهاري بالأمس هناك.
يدق على هاتفه، يحدثهم:
- هي أمامي، أرسلوا الفاكس بذلك.
 وصلت الورقة المطلوبة، قفز من على مقعده، يعدو في اتجاه النافذة الزجاجية التي كنت أقف أمامها، وبنبرة عجولة:
- بسرعة أخرج لها بطاقة، قد يعيد الحاسوب منعها بعد دقائق.
يدق على الأرقام، اسمي، هويتي، ملامحي، أخرج وفي يدي بطاقة هويتي حيث فضاء «عمان» يطالعني مقهى «رم»، وهنت قواي، لم يعد الأخضر أخضر، لم تعد الشوارع على اتساعها، لم يعد البيت يهديني البهجة، لم أعد أنا، لم أعد أنا، ولكن في يدي بطاقة قد تدلني من أنا!!! ■