أدب الأطفال في نظرية الأدب الإسلامي

أدب الأطفال  في نظرية الأدب الإسلامي

  يجدر بنا في البدء التذكير بمفهوم مصطلح  الأدب الإسلامي، لاسيما أن لفيفًا عريضًا من القراء والمعنيين بالثقافة والمطالعة والفكر والأدب قد ينصرف فكرهم باتجاه دلالات ومعاني هذا المصطلح، تلك التي يجدونها في كتب تاريخ الأدب العربي المشهورة والمتداولة، مثل كتاب الدكتور شوقي ضيف (ت2005م)، وكتاب الدكتور عمر فروخ (ت1987م)، وهما من أشهر وأثرى وأهم المصنفات الموسوعية التي أُلفت عن تاريخ الأدب العربي. وفي تقديري الخاص أنّ هذين المصنفيْن أغنى وأثرى مما ألفه حنا فاخوري (ت2011 م) وأحمد حسن الزيات (ت1968م) والمستشرق الألماني كارل بروكلمان (ت 1956 م).

 

طبعًا لا يُعتبر هذا حكمًا مطلقًا، لأنّ الحديث هنا عن المؤلفات الأكثر شهرةً وتداولًا بين الباحثين والدارسين وطلاب العلم والأدب في الجامعات ومراكز البحوث ونحوها؛ وإلّا فإن الذين كتبوا في تاريخ الأدب العربي بمختلف عصوره كثيرون، قد لا يتمكّن الباحث من الإحاطة التامة بأسمائهم والوصول إلى جُلّ أعمالهم، ومنهم على سبيل المثال الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي (ت1937م) والدكتور طه حسين (ت 1973م) والأستاذ أحمد أمين (ت 1954م) والأستاذ أنور الجندي (ت2002م) والمستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير (ت 1973م)... إلخ.
  الأدب الإسلامي ضربان أو نوعان: أدبٌ إسلامي قديم، وأدبٌ إسلامي معاصر. أما الأدب الإسلامي القديم فهو أشهر من نار على عَلَمٍ، كما يقول أهل اللغة العربية في بعض الاستعمالات اللغوية المميّزة؛ لأنه أدبُ الدعوة الإسلامية الأولى، أو الأدبُ الذي انتصر للإسلام ومبادئه ورسالته في مهده الأول، وتصدى للمشركين وآزر رسول الله ، وساهم في نشر الحق وعقيدة التوحيد والقيم الإسلامية الكبرى.
 ومن أشهر أعلامه ورموزه الشعراء من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم: علي بن أبي طالب وحسان بن ثابت وعبدالله بن رواحة وكعب بن زهير وكعب بن مالك.

تصور إسلامي شامل
 أما الأدبُ الإسلامي المعاصر فهو كلّ أدبٍ ينطلق من التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان، أو على الأقل ينسجم مع هذا التصور ولا يناقضه بصورة كاملة، أو هو الأدب الذي يدفع الإنسان إلى الأمام، ويُطلقه من عقابيله وأوهامه، ويصوّر الحياة الواقعية بآمالها وآلامها على السواء، ويشحن النفوس بالعزم، وينير العقول بالمعارف السليمة، ويدعو إلى التراحم والوقوف إلى جانب الحق والخير والعدل والإنصاف والجمال.
 والأدب الإسلامي المعاصر يقف على الأرضية ذاتها التي كان يقف عليها الأدب الإسلامي القديم أو أدبُ الدعوة الإسلامية الأولى، من نُصرةٍ للعقيدة الإسلامية وتمكينٍ للتصورات الإسلامية المختلفة في شتى جوانب الحياة، لكنه بكلّ تأكيد تجاوزَ وتخطّى بأشواط كثيرة مرحلة الأدب الإسلامي القديم، فقد بات يشكّل نظرية متكاملة الركائز والمضامين والغايات، وهي نظرية تُدرّس ضمن نظريات الأدب ومذاهبه في أقسام الأدب العربي في جلّ الجامعات العربية والإسلامية، كما أنه أدبٌ مكتوبٌ بمختلف لغات الشعوب المسلمة، فهو أدبٌ عالميٌ، بخلاف الأدب الإسلامي القديم الذي كان منحصرًا في نطاق اللغة العربية، لأنه كان تعبيرًا عن هموم وآمال الدعوة الإسلامية المحاصَرة أو الناشئة في مهدها يومئذ.

أدب الأطفال 
حاولتْ اجتهادات عديدة وهي تروم استنتاجات مناسبة قصد صياغة تعريف جامع لمصطلح أدب الأطفال ضمن رؤية نظرية الأدب الإسلامي؛ وعلى العموم فإن تلك الاجتهادات توصلت إلى أن أدب الأطفال  حسب نظرية الأدب الإسلامي يمكن أن يُطلق على أيّ أدب يستلهم الإسلام ومبادئه وعقيدته، ويجعل منها أساسًا لبناء كيان الطفل عقليًا ونفسيًا ووجدانيًا وسلوكيًا وبدنيًا، ويُسهم في تنمية مداركه وإطلاق مواهبه الفطرية وقدراته المختلفة وَفْقَ الأصول التربوية الإسلامية» (نجيب الكيلاني، أدب الطفل في ضوء الإسلام، مؤسسة الإسراء، باتنة (الجزائر) ط2، 1991 م، ص 14).
 ونحن نلفى الدكتور عبدالله محمد محسن يفضّل التوسع أكثر في مضامين هذا المصطلح، وذلك بالإشارة إلى الجوانب الفنية والجمالية والأجناس التي يجوز أن يستوعبها؛ وبناءً على ذلك فإنّ هذا الأدب في نظره ينطبق على أيّ شكل من أشكال التعبير الجميل الموجّه للصغار، يمكّنهم من الحصول على معارف وقيم تسهم في نموّهم العقلي والنفسي والاجتماعي، يضم النثر والشعر والأنماط السردية والغنائية والدرامية؛ ويعبر عن الأفكار والأحاسيس والأخيلة التي تناسب مدارك الأطفال باللغة المناسبة لمراحل نموّهم، ويوظف عناصر المتعة والتشويق والإثارة، ولا يُعتبر بأيّ حال من الأحوال تبسيطًا لأدب الكبار وإعادة توجيهه للصغار، فهو أدبٌ له قواعدُه ومناهجُه، إنه فرعٌ قائمٌ بذاته يحتاج إلى خبرة أعلى وقدرة أرقى (عبدالله محمد محسن، قصص الأطفال أصوله الفنية ورواده، مؤسسة العربي للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة 1992،  ص 23).
معنى ذلك أن أدب الطفل في الأدب الإسلامي المعاصر أمامه أفق واسع ومجال منداح، وليس له شروط وضوابط تحدُّ من حيويته الإبداعية باستثناء التصور الإسلامي، وهو أيضًا ليس تبسيطًا لأدب الكبار أو شرحًا لانشغالات وقضايا تهمّ الكبار بأسلوب يتناسب وقدرات الأطفال اللغوية والفكرية والعقلية، بل هو إبداع متميّز خاص بشؤون الأطفال وعالم الأطفال، له قواعده ومناهجه المتفرّدة، حتى وإنْ كان صادرًا عن قريحة الكبار، فهو شبيه بطب الأطفال، يمارسه متخصّصون كبار، لكنه ليس تبسيطًا لطب الكبار، وإنما هو تخصّص خاصٌ بالأطفال ومقتصرٌ عليهم.
 وإذا كان مصطلح «أدب الطفل» مصطلحًا جديدًا، يخلو منه تراثنا الأدبي والفكري والثقافي، فليس معنى ذلك أنّ الموضوع بحدّ ذاته ليس له وجود تاريخي، كلاّ، ليس ذلك صحيحًا، فليس بالضرورة ولا من العدل أن نحكم على وجود شيءٍ ما من خلال اسمه أو عنوانه فحسب، بل العبرة كلّ العبرة بالمضمون، إذْ إننا نلفى في تراثنا نصوصًا تعكس تأثر الأطفال بأساليب القرآن الكريم في التهذيب والتربية وبناء الشخصية بناءً متوازنًا، والاستدلال على جلّ أحداث الحياة بمنهج صحيح مثمر للرشد والصواب، فقد اتخذ القرآن الكريم  القصة وسيلةً من وسائل الهداية والإقناع ينفذ بها إلى القلوب والأفئدة، ويفتح بها مغاليق العقول لتدخل إليها مفاهيم الدين الحنيف. والقرآن كما هو معروف عن منهجه لا يتخذ وسيلةً من وسائل الإقناع إلاّ إذا كان لها قوة التأثير في قلوب العرب وعقولهم. 
 وهنالك ملمح آخر ساهم في نشر أدب الطفل المسلم، وكان له أثره الواضح في التربية الإسلامية، ألا وهو رواية السيرة النبوية العطرة وبطولات الصحابة الكرام بأسلوب قصصي أخاذ، فبعد وفاة الرسـول  «كان الآباء والأمهات والمعلمون المسلمون يزوّدون أجيال الأطفال التي لم تعاصر النبي الكريم، بقصص عن حياته وسيرته، ومعجزاته وأخلاقه، وجهاده ومغازيه، وقصص أخرى عن بطولات المسلمين الأولين من صحابته الذين أسهموا معه في نشر دعوة الإسلام، فمنهم مَن استشهد في سبيلها، ومنهم مَن ظلّ يواصل العمل على نشر الدين وبناء الأمة الإسلامية» (علي الحديدي، في أدب الأطفال، مكتبة الأنجلو المصرية، ط4، القاهرة، 1988 م، ص 226).
ومما سبق نفهم أن القرآن الكريم والسيرة النبوية العطرة والمغازي وأخبار الصحابة الكرام وبطولاتهم المدهشة في فتح الأمصار وإبلاغ الدعوة وعقيدة التوحيد الخالص، كل هذا شكّل النواة الأولى لأدب الأطفال في التراث الثقافي الإسلامي؛ ولا ريب أنّ الكثير من كتب ومصنفات التراث العربي والإسلامي توجد بها مادة معتبرة ذات صلة مباشرة بأدب الأطفال، بيد أنها تحتاج إلى جهود بحثية علمية لتكشيفها وتبويبها وتصنيف مضامينها، كي تكون ناجزةً أمام جمهور القراء والمطالعين، ولعلّ خير مثال على ذلك كتاب «أنباء نجباء الأبناء» لمؤلفه محمد بن محمد بن ظفر المكي الصقلي رحمه الله (ت 567 هــ).

الأسرة المسلمة 
 مما يجدر التذكير به في هذا المقام والتشديد عليه: الأسرة المسلمة... فهي القلعة الصلبة في التربية والإعداد وبناء شخصية الطفل بناءً متوازنًا؛ لذلك فهي في عين الإعصار؛ ومراصد الغزو الفكري والتبديل الثقافي تعمل بدأب وإصرار على تحقيق هدف تفريطها وتخلّيها كليًا أو جزئيًا عن رسالتها، وما ذلك إلا لأنهم أدركوا حق الإدراك أن الأسرة المسلمة هي الحصن المنيع والمحضن الضامن لتنشئة جيل مسلم متكامل البناء عقديًا وعقليًا وفكريًا وسلوكيًا وبدنيًا. وقد يسّرت ثورة الاتصالات الرقمية وتكنولوجيات التواصل والاتصال مهمّة تلك المراصد، الأمر الذي يحتم على الأسرة المسلمة مضاعفة الجهود التربوية من أجل التخفيف من وطأة التأثيرات السلبية لتلك الوسائل التواصلية.
ومع أنّ الأوضاع والمتغيرات الجديدة تقضي وتتطلب من القائمين على المؤسسات التربوية والإعلامية في كل أصقاع بلدان العالم العربي والإسلامي وضع مخططات تتناسب وحجم التحديات، بعد دراسة علمية للأهداف التي تروم مراصد التبديل الفكري والثقافي بلوغها وتجسيدها خاصة فيما يتعلق بالجانب الأخلاقي والهُويّة الحضارية للأمة فإنني أرى أن تركّز الأسرة المسلمة ومحاضن التربية عامةً على تحصين الجيل المسلم بأبجديات الأخلاق الإسلامية وأن تكون البدايات الأولى بترسيخ القيم والأنماط التي تميّز الشخصية المسلمة، فهناك الكثير من السلوكيات التي يظنها كثير من المسلمين بسيطة أو ثانوية أو لا أهميّة لها، وهي على النقيض من ذلك تمامًا، ومثال ذلك هذه القيم التي خاطب بها الشيخ المربي أحمد صالح رحمه الله الطفل المسلم قائلًا: «تجنّب يا بُني قراءة الخطابات التي ليست باسمك، واستراق السمع خلف الباب والنظر من ثقب القفل، فإن جميع هذه الأفعال مخلّة بالشرف... وإذا أردت عمل زيارة لشخص ما فيجب عليك انتخاب الوقت المناسب، حتى لا تكون زيارتك سببًا في تعطيل غيرك عن أشغاله، ويجب عليك قبل الدخول قرع الباب بلطفٍ، فإذا لم يسمع لعدم قوة الصوت، فاقرع الباب ثانيًا أشدّ من الأول، فإذا لم يفتح الباب بعد القرع مرتين أو ثلاثًا، يكون ذلك دليلًا على عدم إمكان الزيارة» (أحمد أفندي صالح، علموا الأطفال ما يفعلونه وهم رجال، المطبعة الأميرية ببولاق، مصر، د.ت، ص 17 18).
فهذه الأخلاقيات ونحوها كثير، التي قد تبدو للبعض بسيطة، هي في الحقيقة أخلاقيات جوهرية وأساسية في منظومة البناء الأخلاقي والسلوكي للطفل المسلم، وهذه الجوانب الجوهرية ينبغي أن تترسّخ وفق منهج صحيح في شخصيته، وأن تكون مقترنةً ممهورةً على الدوام بألق عقيدته.

مكانة الطفل في الأدب الإسلامي 
 حرص الإسلام حرصًا شديدًا على تربية الطفل وإعداده إعدادًا سليمًا، والنصوص والآثار في ذلك كثيرة، لا يتسع المقام هنا لبسطها، إذْ إنّ الإسلام يساوي بين الطفل والمستقبل وسعادةِ الأمةِ وتمكّنها من مقاليد الحياة وواجباتها بصورة صحيحة. لقد كان «اهتمام الإسلام بالطفولة اهتمامًا واسعًا، بل لم يسعد الأطفال في العالم كما سعدوا في ظلّ الحضارة الإسلامية، لأنّ عناية الإسلام بالنشأة تفوق كلّ عناية، باعتبارها حجر الزاوية في بناء المجتمع الإسلامي» (محمد حسن بريغش، أدب الأطفال أهدافه وسماته، مؤسسة الرسالة، ط2، بيروت، 1996 م، ص 18).
والأدب الإسلامي صنو العقيدة الإسلامية والأخلاق الإسلامية، فهو رافد قوي وفعال في دعم جميع المقاصد التي يدعو لها الإسلام؛ لذلك فإن الأدب الإسلامي له اهتمام خاص بالطفل المسلم، ويمكن للقارئ العودة مثلًا إلى إصدارات رابطة الأدب الإسلامي العالمية في الرياض، للوقوف على جهود الأدب الإسلامي المعاصر، في مجال أدب الطفل المسلم فكرًا وإبداعًا.
فأدب الطفل المسلم أضحى مجالًا تخصُّصيًا قائمًا بذاته، وهو أُفق مهم وحساس من آفاق الأدب الإسلامي المعاصر؛ وتوجد أسماء بارزة في كلّ قطر من الأقطار العربية والإسلامية، أبدعت في هذا المجال وهذا الأفق، ومنهم على سبيل المثال فقط: نبيلة الخطيب، حصة العوضي، سليم عبد القادر، عبدالله الخالد، عبد الرزاق حسين، خير الدين وائلي، محمد الأخضر السائحي... إلخ. 
وإذا كانت لنا ملاحظة نسجلها في هذا السياق فهي حول مجلات الأطفال، فمجلات الأطفال المتخصّصة في شؤون الأطفال واهتماماتهم قليلة جدًا في بعض الأقطار العربية، وهي منعدمة تمامًا في أقطار أخرى، ولعلّ اللياقة والموضوعية تقضي في هذا المقام بواجب التنويه والإشادة بمجلة «براعم الإيمان» التي تُصدرها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت، ومجلة «العربي الصغير» التي تصدرها مجلة العربي الغراء والمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، ومجلة «ماجد» التي تصدرها مؤسسة أبو ظبي للإعلام في دولة الإمارات العربية المتحدة.
 وأملنا كبير في أن تعتني كلُّ وزارات الأوقاف والشؤون الإسلامية ووزارات الثقافة في الدول العربية والإسلامية وبقية المؤسسات المعنية بمجال التربية والثقافة بأدب الأطفال وشؤونهم واهتماماتهم، وأن تُصدر المجلات الورقية والإلكترونية المتخصّصة، التي تعتني بكلّ جوانب انشغالات الأطفال... أولًا كي يكونوا محصَّنين من انفعالات وتأثيرات وانعكاسات الأنماط الثقافية التي تتدفق بغزارة في شرايين الوسائط الاتصالية والرقمية، التي أتاحتها تكنولوجيات الاتصال الحديثة المتقدمة؛ وثانيًا لكي يكونوا رجالَ الغد الأقوياء بإيمانهم وقدراتهم العقلية والتربوية، المتمتّعين بحصانتهم الفكرية والحضارية، فيستطيعون نفع مجتمعهم ودينهم ووطنهم وأمتهم، من أي موقع وضعتهم فيه الأقدار ■