صور من الحياة: الكلب وأنا

بداية أود التنويه بأني لست على وفاق وحب مع فصيلة الكلاب! فأنا- بصراحة- لا أحبها بل أكرهها وأخشاها! علما الرغم من أن العبد لله ينتمي إلى جيل كان يعتبر تـربية الكلاب إحدى هوايـاته الأثيرة إلى نفسه.

ولدت وترعرعت في "حي المرقاب" حيث كـانت هذه الهواية شائعة بين الصبيان فيه! ويقطن هذا الحي أناس من ذوي الأصول النجدية المعروفين بشدة التدين وفق المذهب الحنبلي الموسوم بالتشدد و"الحنبلة" لكن الإنسان الصعلـوك الـذي سكنني طفـلا وصبيا وأحسبـه يقبع داخلي مثبتا عمره الزمني على فترة الطفولة دون أن يشيخ ويشيب! كان يحرضنى على عصيان أوامر ونواهي العائلة فقد كنت أشارك أقراني اللعب مع الكلاب وبهم بدون أن أحس بالمتعة التي كانت تغمر رفاق الطفولة والصبا.

يبدو لي أنني كنت أمارس هذه الهواية بحكم عقلية الجماعة أو القطيع التي تستحوذ على الأطفال والصبيان ذلك أن التفرد والتميز والشـذوذ عن الأقـران ليست صفات محمودة لـديهم، وقد تفضي بي إلى أن أكـون منبوذا غير محبوب. ومن هنا لم أقطع علاقتي بالكلاب الصعلوكية المشردة إلا حين تعلمت القراءة والكتابة وشرعت في حفظ الجزء الأول من القرآن الكريم وأنا على عتبة عهد الصبا، يومها أسمعني "الملا مرشد" رحمه الله وغفر له تقريعا شديد اللهجة وتأنيبا مبرحا بسبب غواية الكلاب.. أعقبه "الملا محمد" شقيق "الملا مرشد" وشريكه في الكتـاب بموعظـة تمحورت حول نجاسة الكلاب التي لا تليق بصبي في سبيله إلى أن يتعلم قراءة القرآن الكريم وحفظه عن ظهر قلب. ولأني- بداية- لم أكن شغوفا بالكلاب فقد كان من البديهي والطبيعي أن استجيب للتقريع والموعظة بالطاعة والانصياع لهما بسرعة شديدة، وهكذا وجدتني أودع الكلاب بدون تردد ولا أسف، واخترت بديلا عنها فصيلة الجمال والنياق، وهو اختيار معجون بالطرافـة والغرابة والشذوذ لمن كان في مثل سني.

لندن والكلاب

وحين زرت لنـدن لأول مـرة في مطلع الستينيـات واجهت مشـاكل شتى، ذلك أن القـوم هناك يحبـون الكـلاب حبا جما يضاهي حب الوالدين لعيالهم وربما يزيد، الأمر الذي قد يؤدي إلى فضح كراهيتي للكلاب، لأنها موجـودة في كل بيت وحديقة وشارع وكل مكان. وزائر لندن وغيرها من العواصم والمدن الأوربية مطالب بإظهار الود والتدليل لحضرة الكلب، هذا إذا كان المرء حريصا على أن يتواصل مع القوم ويقيم معهم علاقة إنسانية سوية.. "من وجهة نظرهم"! فالكلب- لا القلب - هو المفتاح السحري الذي يشرع بوابات التواصل مع البريطانيين والأوربيين وكل الغربيين!.

وكانت لندن في مطلع الستينيات مغايرة عن لندن "المستعربة" في التسعينيات، وقد بدت لي هادئة متشبثة بأوراق خريف العهد "الفيكتوري" بعناد هش، تشي كل الإشارات والعلامات والظواهر بأنه تشبث لا جدوى منه، لأنه انقرض فعلا ولم يبق منه سوى الشكليات والمظاهر وبعض المستعمرات الملعلعة "بالاستقلال التام أو الموت الزؤام". لكن الشغف بالكـلاب من "الثوابت" البريطانية والغربية التي لا تتأثر- سلبا- بالتغيرات التي تحدث للشعوب والمجتمعات. ولعل حالة الرفاهية والعز التي كان يرغد فيهما الإنجليز و"الحلفاء" بعد انتصارهم في الحرب العالمية الثانية، قد أججت نيران حب الكلاب المشبوبة في قلوبهم! وساعدت على انتشار هواية تربية واقتناء الكلاب. ومن هنا، شعرت بعد صعلكتي الأولى في لندن أن الكلاب أكثر عددا وأشد حضورا من البشر أنفسهم! وحين توغلت في الصعلكة أيقنت بأن الكلب ليس مجرد صديق وفي فحسب، بل إنه "بديل" عن البنين والذرية!. "فالليدي" السيدة البريطانية المتزوجة منذ مدة طويلة قد لا تهتم بالإنجاب ولا تتوجس من العقم مادامت الكلاب حاضرة في المنزل.

وسط هذا المناخ المترع بالحب والدلال بحضرة الكلب وجـدتني في حـالة حيص بيص لا أغبط عليها. إذ لا يمكن لكاره للكلاب مثلي أن يكون مستعـدا لنفاقها تقية أو لإرضاء القوم، بخاصة أن عقد الستينيات كان عصر المد القومي المكرس لمحاربة الاستعمار البريطاني في العالم الثالث والديار العربية على وجه الخصوص، وأذكر بهذا الصدد أنه حين تعرضت مصر المحروسة "للعـدوان الثلاثي " البريطاني الصهيوني الفرنسي عام 1956 جرت مقاطعة للبريطانيين ومنتوجاتهم، ووصلت حدة المقاطعة إلى درجـة أن المتاجر والمرافـق في بعض الديار العربيـة كتبت على بواباتها ومداخلهـا عبـارة "ممنوع دخـول البريطانيين والكـلاب!" ولا تسألني هنا: ما هو مبرر إقحام الكـلاب في السياسة والمقاطعة؟! فقد كـانت عواطفنا القومية المتأججة تحرضنا على فعل أي شيء نظن أنه سيؤذي البريطانيين ويثير حفيظتهم! ناسين وجاهلين أن الكلب لدى المستعمرين ليس سبة وشتيمة، كـما كنا نظن! وقـد شعـرت بخجل وإحباط شـديـدين، حين "اكتشفت" أن قلب "المستعمرين" يحتله كلب! ولذا لن أعجب لـو سمعت بعلا بريطانيا يدغدغ عواطف "الليدي" بعلته قائلا: يا بعد كلبي! بدلا من عبارتنا الشعبية "يا بعـد قلبي"! والمؤسف أني لم أكتشف جهلي بقيمة الكلب، والمحبة المفـرطة التي يحظى بها في هذا المجتمع إلا بعـد أن تـورطت في مشـاكل لها العجب! وكدت أروح فيها وأغرم كمية من الجنيهات الإسترلينية تردفها حبسة أو "تأبيدة" مصحوبة- بعد انتهاء مدة العقوبة- بالطرد وا لإبعاد.

كلب أم أسد؟

كنت أزور صـديقا يقيم في مـدينة "بـرايثون" وفوجئت به يقيم في غرفة "فيكتورية" وسيعة بمعية زوجين "أيرلنديين" وثالثهما كلب بطول الحمار وحجم البغل وقوة الأسد.

حين دلفت المنزل لم يلتفت إلي الكلب لانشغاله بازدراء عشائه، كل ما أذكره عنه أنه نظر إلي شزرا جهما وكأنه يقول: سأفرغ حين أنتهي من تناول عشائي. لكني لم أنتظره، إذ طلبت من صديقي أن أدخل غرفت، بدعوى حاجتي إلى الراحـة! العـذر ملفق مفضـوح فالمسافة بين مدينة "برايتون" ومدينة "لندن" قصيرة ولا تحتاج إلى راحة. ولكى أطرد شكـوك صاحبي قلت له: إني لم أنم الليلـة البارحـة بسبب الهدوء الشـديد الذي يلف المنطقة التي أسكنها!

ويبدو أن صـديقي هذا لم يشأ أن يرتاب في روايتي، إلا أن نظراتـه كـانت تشي بـالشك والـريبة، وحين احتوتنا الغرفة بجـدرانها العاليـة وأرضيتها الخشبيـة العتيقـة همست لصاحبي بسري وحكـايتي مع فصيلـة الكـلاب. وراعنى تغير لون سحنتـه وهو ينصت إلى مسألة علاقتى "الكلبية" المحـيرة.

ولم أخف أنا الآخر توجسي من رد فعله المفعم بالقلق والخشية. ومن هنا وجـدتني أهمس في أذنيه بعلاقتي السيئة مع الكـلاب، فضلا عن مبرراتها وأسبـابها، راجيا إيـاه ان "يستر علي" ولا يفضحني أمـام الخواجـات الأجـانب! وقـد حـاول صـاحبي إقنـاعي بأن الإنسان السوى لا يهاب الكـلاب سيما أنه فى مقدوره احتواؤها والسيطرة عليها بحفنة من العظام ونتف اللحم وكمية من أشكال الوداد، كأن تملس شعر الكلب بأنـاملـك و"تطبطب" عليـه بيدك في حنـان زائد ومن ثم تقبلـه في فمـه "مسكـا" لختام مهرجان الوداد الصادق أو المفتعل تقية ونفاقا!

والمؤسف أن صاحبنا لم يتمكن من إقناع العبـد لله بمناقب الكـلاب ومزاياها.. وأهمية التواصل معها، إلى آخر تفاصيل موعظته الحسنة، ذلك أنني أنظر إلى هـذه العلاقـة السلبيـة من جـانبي على أنها محصلة أسباب شتى منها: تربية الوالدين ورأيهما السلبي في الكـلاب، إضـافـة إلى رأي الدين ونظـرة المجتمع "المحافظ" المتأثرة- بالضرورة- برأي الدين ورؤيته. ولذا أخطرت صديقي بكل مـا ذكرته آنفا عله يبلع مـبرراتي ويسـاعـدني على تجاوز "أزمة" وجـود الكلب في حضرتي! أو لنقل- إن شئت الصراحة- أزمة وجودي في حضرة الكلب!.

كان واضحا لي منذ بداية لقائي بـالكلب في ذلك المنزل البريطـاني في "برايتون" أن لا مجال للمقـارنـة مطلقا بين حضرته وجنابي! لأن كفته- على الدوام- هي الراجحة والرابحة. فلو أني في لحظة جنون وخبال "ثرت لكـرامتي" قـائلا بحسم "إما أنا في المنزل أو الكلب" فإن الجميع- بمن فيهم صـديقي- سيختارون الكلب ويفضلـونـه على العبد للـه! ومن هنا لم أضع نفسي في هذا الامتحان العسير. وشرعت أفكر في كيفية اجتياز الامتحـان الأهم، بحيث أقضي أيـامي القليلة بمعية الكلب بدون أن يضرني أو أضره!.

ستقول متسائلا: كيف أضره وهو الكلب الشرس؟ وأقـول: حسبك أن تعلـم بأني إنسـان، أي أكثـر الحيوانات قدرة على الإيذاء والضرر!.

حان وقت العشاء: سيدة البيـت تدعـونا إلى المائدة حيث يجلـس رب البيت على رأسهـا بينما يتربع حضرة الكلب بجواره هو والسيدة بعلته.. التي قامت بنفسها بالاحتفاء به وإطعامـه بيديها كأنه ضيف الشرف لا العبدلله. كـانت تخاطبـه كإنسان آدمي يدب على اثنتين وعقله في رأسه (خـذلك هبرة اللحم الطازجة وازدردها بالهناء والاشتهاء والهضم المريـح. وعليك بهذا العظـم الطري "لتمصمصـه" وتأكلـه هنيئـا مريئا. وأستحلفك بالله أن تذوق وتطعم خلطة "الدوجز فود" الجديدة).

وجميع المتحلقين حول المائدة يحيطون حضرة الكلب بكل أنواع وألوان الكرم والحفاوة والحب والإقراء، إلا العبـد الله كـما هو معروف ومتوقع سلفا.

قرص المنوم.. لمن؟

حين فرغنا من العشاء قلت لمضيفي بأني أحتاج إلى منوم بـدعوى الأرق المزعوم، ذهبنـا إلى طبيب مختص وكـانت ورطة إضافية خشيت معهـا أن يكتشف الطبيب أني مريض بالوهم أو مريض بالزعم. لكن المسألة مرت بسلام وحظيت- بعدها- بعلبـة كاملة من "الفاليوم" أشهر صديق للإنسان المعاصر. قبل منتصف الليل بقليل كنا نعود إلى المنزل، فـدخلناه بهدوء لأن القوم نائمـون، وكلبهم ثالثهم. الحق أن الكلب كان يقبع بجوار المدفأة باسترخاء وهدوء بال يغبط عليهما! بحلقت فيه من بعيـد بينما كنت أتحسس علبة "الفاليوم" القابعة في جيبي. منذرا الكلب- في سري- بعواقب وخيمة بعد قليل، بالتحـديد، بعد أن يهجع الجميع وينـاموا في داخل الغرف، فـوجئت بصديقي يحضر لي زجـاجة مياه معدنية تساعدني على بلع الحبوب المهدئة ومن ثم على النوم السريع والرقاد الطويل. ومن شدة حرصه على أن أحظى بنومة هنية خـاليـة من الأرق راح ينصحني بضرورة تناول حبة "الفاليوم" المقررة الآن، قبل النوم، وصب لي كأس الماء، ولم يبق سوى أن أبلع الحبة وأنام. والحق أني كنت أفكـر في الكلب الراقد في غرفـة الاستقبال، وكيف يمكننى أن أدس له "الفاليوم" وسط طعامه وشرابه!.

ولا يمكن لى دخول المطبخ إلا بعد أن ينام الكل، إذ لا مبرر لدي أفسر به ذهابي إلى المطبخ، سيما بعد أن حاصرني صديقي بقنينة الماء منتظرا مني تناول الدواء والتمدد فى السرير مثل أي إنسـان يرغب في النوم ويشكو الأرق. وزاد الطين بلـة أن صاحبي صرح بأنه سيظل يقظا إلى حين رقادي. وإزاء ذلك رحت أفكر في وسيلـة أتخلص بها من إلحاحه علي لتناول حبة المنوم، ومن إصراره على أن يظل يقظـا إلى حـين رقادي، لكن محاولاتي تقوضت وانهارت أمام إصراره وعناده. وهكـذا رأيتني أنام بـدون إرادتي وعلمي! وحين صحـوت وجـدت علبة " الفـاليوم" بجـوار رأسي، بحلقت فيها جيدا فوجـدت أنها تنقص حبـة واحدة! وقتها- فقط- عرفت كيف نمت، وكيف انقلب سحر "الفاليوم" الذي كان مبيتا لمعدة الكلب الشرس، على الساحـر نفسه. الأمـر الذي اضطـره إلى مغـادرة "برايتون" حالا، لأنه لا يريد أن يسمع من الكلب "هوهوة" كلها شماتة قد يردفها بعضة.. أو نهشة!!.

يا بعد كلبي يا "ووجي"

من كان يصدق بأن محنة احتلال البلاد ستحـدث تغييرا إيجابيا في علاقة العبدلله بالكلاب؟!.

كيف حدث ذلك؟.

المسألة تستحق أن تروى!.

الزمان: الأيام الأولى لعرس تحرير الكويت.

بالتحديد: في مطلع الأسبوع الأول من مارس 1991.

المكان: مركز 26 فبراير الثقـافي الإعلامي في منطقـة الجابريـة حيث يحتشـد داخـل جنباته عـدد كبير من الصحفيين والإعلاميين الذين توافدوا على البلاد إثر تحريرها.

وقد لفت نظري أن كبريـات الصحف ومحطـات الإذاعة والتلفزة الأوربية والأمريكية كـرست قسطا مهما من وقتها واهتمامهـا للحيوانـات في الكـويت المحتلة! ومن هنا حظيـت حديقـة الحيوانات بتغطية إعلاميـة كانت محل دهشتنـا. وحظي بالتالي الشقيقان سليمان وعلي الحوطي باحتفـاء شـديد من الإعلام الغربي لأنهما تطوعا- منـذ اليوم الأول للاحتلال- لإنقـاذ سكـان الحديقـة مـن الـدواجن والطيـور والحيوانات بمساعدة الأخ "عبـد اللـه عبدالقـادر تيفوني" المعروف حركيا في منطقـة كيفان الصـامدة بلقب وكنيـة المختـار! والـذي كـان بيتـه- أيـام محنـة الاحتلال- يضاهي سفينة سيدنـا نوح عليـه السلام، وبمثابة حديقـة حيوان مصغرة، لأنها تضم كل الطيور والدواجن والماشية والحيوانات الأليفة والوحشية التي تمكن من إنقاذها من الهلاك في بيوت أقاربه وأصدقائه.

أما الدور الذي قام به الشقيقان علي وسليمان الحوطي لإنقـاذ سكـان الحديقـة، فإنه مثير للفخـر والإعجاب ويستأهل الإشادة والتنويه والتكريم، على الـرغم من أن الشقيقين يبغيـان الأجر والثـواب لا الأجرة، ولم يرد على خـاطريهما أي مكسب دنيوي حـين تطوعـا بتغذية الحيوان كل يوم لمدة تزيد على التسعة شهور أي أنهما استمرا في مهمتهما الخيرية، بعد تحرير البلاد بشهرين على أقل تقـدير. والحق أنه يستحيل على الكاتب صياغة هذه الخواطر بدون أن يتداعى إلى ذهنه الأخ "صباح ناصر سعود الصباح" أحد أبرز القيادات في "الكويت"، والـذي كان يكلف مسـاعديه بتمويل وتموين حـديقة الحيوانات، مثل الأخ "توفيق الأمير" الفنان السينمائي المعروف وغيره كثر ولله الحمد.

وثمة حيوانات تمكن أصحابها من تهريبها عبر الحدود الكـويتيـة السعوديـة، ولعل الكلبـة "ووجي" من أشهر الحيوانات التى عبرت الحدود لكونها عايشت الأسبوعين المأساويين الأولين للغزو والاحتلال، ولأنها تقطن بمعية مصورة صحفية أمريكية وصديقتها الـبريطانية الكنـدية المترعة بحب الطيور "الكلمنجية" والكلاب ذات الحجـم "الترانزستور" نزد على ذلك كلـه مسألة أن ووجي من حيوانات الله سبحانـه وتعالى التي شمت وحـدست الغزو قبل وقوعه بدقائق! هذا ما يزعمه أصحابها، والواقعة التي يذكرونها فجـر يوم الغزو وهي ليست جديـدة، بل إنها تشكل ظاهرة حاضرة لدى العديد من الحيوانات، وكأن القدرة الربانيـة زودتها بـ "رادار" وجهاز إنذار مبكـر واستشعار عن بعد ينذر بالخطر و"يهوهو" علامة على وقوع المصيبة وينبح بطريقة غريبة تلفت النظر وتدفع البصيرة صوب التأمل.

قبل فجر ذلك اليوم المأساوي بساعـة أفـاقت "ووجي" البريطانية الجنسية من نومها مبكرة على غير عادتها، كـانت متوجسة ومتوترة وربما تحتاج إلى طبيب نفسي ينقذها مما هي فيه. ولتخفف من شدة توترها أخذت تذرع المنزل جيئة وذهابا وحاولت إيقاظ أهل البيت إلا أن أحدا لم يهتم أو يستجب لها، بـدعوى أن الرعود والسحب في الصيف لا تمطر إلا نادرا، ومطرة الصيف- إن حـدثت- لا تخلف الخراب والدمار. إن كل التبعات المأساوية لمحنة الاحتلال وعلى الرغم من مضي ثلاث سنوات على المحنة إلا أن آثارها المأساوية لا تزال تسكن في عيني الكلبة "ووجي" المغرورقتين بالرعب الشديد البلاغة، ذلك أن المرء حالما يشاهد الكلبة ويبحلق في عينيها تتـداعى إلى ذهنـه توا وقـائع الغزو والاحتلال! وكأن هناك ارتباطا شرطيا بين صورتها المأساوية وبن فصول ومشاهد المحنة.

ووجي تهرب

ولأني افترض وأتـوقع أن الكثيرين لم يطلعـوا على الجزء الثاني من كتـابي الموسوم "شاهـد على زمـان الاحتلال" فسـوف أروي بـاختصار واقعـة تسلل وتهريب "ووجي" بمعية صديقتيها وقيادة مـواطن عربي سعودي ريان بالنخوة والشهامة والفروسية.

فاتني أن أذكر بأني وعيالي الصغار نعـرف الآنسة "ووجى" كـما أن الصغار على علاقة حميمة بها قبل محنة احتلال الكويت، ولأنها صغيرة السن ضئيلـة الحجم جاحظة العينين مبللة- على الـدوام- بالدموع! وكأنها فرغت لتوها من أداء وصلة بكـاء "تراجيدية"، فضلا عن ظرفها وشـدة حضـورها، فقد كنت على وفـاق معهـا والفضل لها لا لي فلم يصدر عنها ما يضير أو يسىء كـانت بحق "بنت ناس" وأصيلة وبريئة كـما الأطفال تماما.

حين وقعت محنـة الاحتـلال انشغلت عنها إلا أن العيال الصغار كانوا يتقصون أخبارها خشية عليها من الخطف لاستخـدامها كـرهينـة حيوانية بحكم أنها بريطانية الأصل كندية الجنسية تتمتع "بالكـارت الأخضر" الأمريكاني الذي يتيح لها الإقـامة الدائمة في الولايات المتحدة الأمريكية، فضلا عن ممارسة العمل في أي مهنة تروق لها وتناسب قدراتها، وهذه المميزات - كـما ترى- كفيلة بإدخالها إلى حظيرة الرهائن الأجانب الذين هدد النظام العراقي- إبان احتلالـه للكويت- باستخدامهم كدروع بشرية، ظن أنها يمكن أن تقيه من الحرب الانتحارية التي سعى إليها بنفسه. ما علينا. المهم أن صاحبتنا بعد أن عايشت الرعب مدة أسبوعين تمكنت من مغادرة الكـويت المحتلة، عبر رحلة ملبدة بغبار الإثارة والتحفز، حيث وصلت بمعية الهاربين إلى الحدود السعودية. وكـانت من أوائل المقيمين العائدين إلى البلاد بعـد التحـرير وحيـن قابلتهـا أول مرة- بالصورة المرسومة آنفا- نسيت عقدتي "الكلبيـة" القديمة ففرحت جـدا بعودتها وأسرني وفاؤها وأثار شجـوني الـرعب الذي يطل مـن عينيهـا الجاحظتين الباكيتين! فأقبلت عليها بالوداد الذي تستأهله ويليق بها، سيما وأنها خـدمت الكـويـت المحتلـة وقضيتهـا العادلة بطريقتها الخاصة التي تنفذ وتتسسلل إلى وجدان الغربيين وضمائرهم دون عناء يذكر، ولـولا خشية الاستطراد الممل لذكرت نتفا من نشاطها الإعلامي في المملكة العربيـة السعودية وإنجلترا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية، حسبنا هنا الاطلاع على صور هذا النشاط، حسب ورودها فى السياق المناسب.

 

بقي علي الآن القول بأن هذه الكلبة المدهشة قد خلصتني من عقدتي الأزلية تجاه الكلاب ومن علاقتي السلبيـة بها. ألا يقولون "داوها بالتي كانت هي الداء" فبدأت أتخلص من كراهية الكلاب بسبب حب الكلبة "ووجي" حفظها الله من كلاب السوء، والسوق، وأمثالهم!