التنوخيون وأول إمارة في جبل لبنان

التنوخيون  وأول إمارة في جبل لبنان

«تنوخ» هو عبارة عن حلف عقد قبل الإسلام في تهامة بين عدد من القبائل العربية، ومن هذه القبائل الأزد وقضاعة وكهلان، انضمت إليها فيما بعد بطون من قبيلة نمارة بن لخم، لتنتقل بعدها نحو البحرين.
من البحرين هاجرت تنوخ نحو المنطقة الواقعة بين الحيرة والأنبار، معلنة ولاءها لملوك الدولة الفارسية. أسسوا مملكة ارتبطت في الحيرة تلقائيًا بالفرس، ومن أبرز الملوك التنوخيين في الحيرة: امرؤ القيس والمنذر بن النعمان بن المنذر، وقد عرفوا بالمناذرة اللخميين الذين والوا مملكة فارس مقابل الغساسنة الموالين للبيزنطيين. 

 

يقول سعيد الأفغاني في كتابه «أسواق العرب في الجاهلية والإسلام»: «فأهل الحيرة ثلاثة أصناف: فثلث تنوخ، وهم كانوا أصحاب المظال وبيوت الشعر، ينزلون غربي الفرات بين الحيرة والأنبار فما فوقها. والثلث الثاني: العِباد، وهم الذين سكنوا الحيرة وابتنوا فيها، وهم قبائل شتى تعبّدوا لملوكها وأقاموا هناك. وثلث: الأحلاف، وهم الذين لحقوا بأهل الحيرة ونزلوا فيها». وأشار إلى بعض هؤلاء الشاعر:

وغزا تبع في حمير حتى 
 نزل الحيرة من أهل عدن

المناذرة «عرب الفرس»
واشتهر في ظاهر الحيرة بناءان عظيمان هما: قصر الخورنق وقصر السدير. وبقيت مسكن ملوك العرب من بني نضر ولخم، حتى كان آخرهم المناذرة الذين انقضى ملكهم بالإسلام. 
وقد أطلق على المناذرة لقب «عرب الفرس»، وامتد سلطانهم إلى حوران وشمال الصحراء السورية، حيث أقاموا إمارة كانت على علاقة بالرومان قبل ظهور مملكة الغساسنة. وقد آمن التنوخيون بالديانة المسيحية من خلال علاقتهم ببعض الرهبان الذين انتشروا في الشام والعراق قبل الفتح الإسلامي. 
وكان لموقع المناذرة الجغرافي أن ساهم في الازدهار الاقتصادي لمملكتهم، وهو ما انعكس على المجال العلمي والثقافي أيضًا، عن سعيد الأفغاني يقول: «ارتباط هذه البلدة بفارس وخضوع أمرائها لهم وكثرة العلائق بين البلدين، وسّع أفقها التجاري، وأكثر فيها الغنى والترف، وأحدث فيها نوعًا من الثقافة ليس في غيرها. فقد مر بك أن قريشًا تعلمت الكتابة من أهل الحيرة، وأن الذي قرأ صحيفة المتلمس غلام حيري، وأن النضر بن الحارث شيطان قريش تعلم من الحيرة أخبار ملوك فارس وأحاديث دياناتهم وأساطيرهم، فكان إذا جلس رسول الله يدعو قريشًا إلى الإسلام ويحذرهم خلفه في مجلسه فقص عليهم من أحاديثه التي نقلها من الحيرة، وعلمت أن لقريش رحلات وقوافل تجارية إلى الحيرة، وأن للنعمان ملك الحيرة لطائم يجهزها إلى عكاظ كل سنة. وهذا الاختلاط الشديد بين أهلها والفرس والأنباط جعل أنساب الحيريين في منزلة دون منزلة بقية أنساب العرب، حتى إن من العرب من يعيّر بالنسب إلى الحيرة». 
كما كان «للحيرة شأن تجاري ممتاز، وأن عادة العرب جرت منذ القديم بالمتاجرة إلى الحيرة، وأنها كانت تؤمها القوافل الكبرى التي تقصد البر حاملة متاجر الهند من عمان إلى الشام، فكانت الحيرة محطة كبرى لتلك القوافل المحمّلة، وكان أكثر الطُّرَّاء عليها تجارًا يختلفون إليها». 
مع الفتوحات الإسلامية، دخل بعض تنوخ في الإسلام، وكانت ضمن مدنهم الحيرة وبصرى والرقة وقنسرين ومعرة النعمان قرب حلب وغيرها، ومن معرة النعمان امتدوا نحو لبنان. 
حيث يُعتقد أن أبو جعفر المنصور، الخليفة العباسي الثاني، أرسل عشائر من تنوخ إلى ساحل بيروت من معرة النعمان، بقيادة الأمير منذر بن بركات بن المنذر بن النعمان أبي قابوس اللخمي التنوخي، حيث يعتقد أنه هو من أسس إمارة الغرب التي حكمت عدة قرون. 
لقد كان للثورات الدائمة التي قامت في الساحل اللبناني ضد العباسيين، ولغزوات البيزنطيين على الساحل الشامي، أن دفع بالعباسيين إلى تحصين الثغور الساحلية وتشجيع هجرة التنوخيين نحوها، حيث كوّن هؤلاء إمارة عربية إسلامية ولوا عليها الأميرين «المنذر» و«أرسلان»، فظهرت بذلك في لبنان أول إمارة تتمتع بالحكم الذاتي، هي الإمارة التنوخية، «كان مركزها جبال الشوف المطلة على صيدا وبيروت وإقليم الغرب إلى الشرق من بيروت، ويتاخمها من الشمال جبال كسروان»، وقد عُرفت هذه المنطقة باسم إمارة الغرب.

التنوخيون والحكم العباسي
استمر ولاء التنوخيين للحكم العباسي طوال فترة حكم هارون الرشيد والمأمون، كما شهد عصر المأمون اتساعًا لحدود الإمارة التنوخية نحو ولاية صفد في عهد الأمير مسعود بن أرسلان الذي أصبح أميرًا على صفد وإمارة الغرب وبيروت. 
أما ولده الأمير هاني بن مسعود بن أرسلان، فقد انتقل إلى عرمون سنة 830م، لينتقل بالتالي مركز الإمارة إلى عرمون، على مدخل بيروت الجنوبي، وتسلم بعده إبراهيم بن إسحاق بن أرسلان، من قبل الخليفة المتوكل العباسي الذي ولاه إمارة الغرب. 

أماكن نزول العشائر التنوخية
بناءً على ما ورد، فإن قدوم التنوخيين إلى لبنان كان للقيام بدور المرابطة على الثغور مقابل غزوات البيزنطيين وأتباعهم، وبالتالي فإن هذه القبائل اتخذت من المناطق المشرفة على الساحل ومن الحصون مركزًا لها، وهو ما أكّده سامي مكارم بتحديد أماكن انتشار التنوخيين على سفوح جبال لبنان الشرقية والبقاع وسفوح جبال لبنان الغربية وسواحلها، بل ذهب الى أبعد من ذلك عندما اعتبر أن انتشار التنوخيين امتد على طول الساحل من اللاذقية في سورية شمالًا حتى مدينة عكا في فلسطين جنوبًا. وهذا ما أظنه مستبعدًا كون سكان الساحل السوري حيث اللاذقية وسكان الساحل من صيدا حتى عكا لم يشهدوا وجودًا لقبائل لخم بين ظهرانيهم، وإلا لكانت المصادر التاريخية أتت على ذكرهم، وهو ما لم يحصل، بل إن الانتشار التنوخي كان في جبال بيروت وبلاد المتن والشوف وامتدوا نحو بعض مناطق كسروان، وإذا كنا منصفين فإن هذا الاستيطان قد شمل ساحل بيروت والجبل المطل عليها وامتد نحو شمال وشرق صيدا.
عن سامي مكارم: «بعد وصول الأمير أرسلان وأخيه الأمير منذر إلى لبنان عمّروا الجبال المطلّة على بيروت، وصارت المساحة الجغرافية التي استوطنوها تمتّد ما بين نهر بيروت شمالًا ومصب نهر الصفا في الدامور جنوبًا صعودًا نحو المديرج، أما الدفعة الثانية فقد نزلت في كسروان وهي عشائر الأمير نبا...». 
يقول المؤرخ اللبناني محمد علي مكي حول أسباب قدوم التنوخيين إلى لبنان: «وقد أثبت الأمراء التنوخيون عن مقدرة وكفاءة، فقد حموا السواحل والجبال المشرفة على بيروت من غارات الموارنة في الجبل، ووقعت بين الفريقين اصطدامات قوية بالقرب من نهر الموت (يقع في قضاء المتن)، وفي أنطلياس، قتل في الأخيرة أكثر من ثلاثمائة قتيل من الفريقين، وكانت النصرة فيهما لهذين الأميرين (أرسلان ومنذر) وأنكفت المردة من ساحل بيروت».
يضيف مكي: «هذه التجربة الأولى في صد التنوخيين للمردة، أو للموارنة، جعلت الدولة العباسية تقرّهم في إمارتهم...».
ثم يختم قائلًا: «وهكذا بدأت في لبنان أول إمارة عربية إسلامية هي الإمارة التنوخية، التي ظلّت مستمرة حتى العهد العثماني، أي حوالي ثمانية قرون متواصلة، وإلى جانب هذه الإمارة قامت مقدمية الموارنة في الجبال الشمالية وكسروان، وابتدأت بذلك تظهر معالم الكيان الذاتي في لبنان». 
ثم توالى الأمراء التنوخيون على إمارة الغرب وبيروت وأبرزهم: 
الأمير النعمان بن عامر الذي عاصر الدولة الطولونية، التي أقرته على بيروت وإمارة الغرب، لتجد الإمارة التنوخية نفسها أمام الصراعات التي ظهرت مع قيام الدويلات من أخشيدية وحمدانية، وثورات القرامطة، حتى العصر الفاطمي، حيث شمل نفوذ الإمارة التنوخية الساحل اللبناني من طرابلس إلى صور نظرًا للولاء السياسي والعقائدي الذي ربط التنوخيين بالفاطميين. 

الصراع السلجوقي - الفاطمي والتنوخيون
 تعتبر فترة خلافة الحاكم بأمر الله الفاطمي (386 هـ/ 996م ) مرحلة بارزة من حياة الإمارة التنوخية التي ارتبطت بالخليفة الفاطمي هذه المرة مُعتقدًا، حيث ظهرت دعوة التوحيد الدرزية سنة 408 هـ/ 1017 م، وكان ذلك في عهد الأمير مطوع بن تميم.  
مع الصراع السلجوقي – الفاطمي، أخذ الأمراء التنوخيون يحصلون على شرعيتهم من السلاجقة، كون هؤلاء بسطوا سلطتهم على أجزاء واسعة من بلاد الشام والعراق، حيث اعتمد التنوخيون على توزيع ولاء أمرائهم على القوى المسيطرة حفاظًا على ديمومة الإمارة، ومع الاحتلال الصليبي الذي امتد على الساحل من طرابلس حتى صور، بقيت جبال الغرب وقسم من الشوف بيد الأمراء التنوخيين خاضعة لدمشق، وقد عرف الأمراء التنوخيون في هذه المرحلة بالبحتريين - نسبة إلى جدهم (بحتر بن علي) الذي كان له الفضل الكبير في الحفاظ على الإمارة، وتسلم بنوه من بعده الإمرة، لذا أخذ يُطلق على الإمارة التنوخية اسم: الإمارة البحترية.
استمرت الإمارة البحترية رغم الصراعات التي برزت خلال القرن الثالث عشر للميلاد، بين المغول والمماليك، وظهر أمراء بارزون أمثال: جمال الدين حجي الكبير، وسعد الدين خضر، وزين الدين صالح، حتى إن جمال الدين حجي الثالث الكبير قدّم الطاعة إلى القائد المغولي كتبغا عام 1259م، ليحصل منه على منشور باسم «مالك الأرض والبسيطة هولاكو خان». 
لا بد من التذكير هنا بأن كل سلطة كانت تدخل بلاد الشام وتسيطر على الساحل الشامي كانت تقر الأمراء التنوخيين على ما في أيديهم، وتكتفي بإعلان الولاء من قبلهم، وكان لهؤلاء الأمراء التنوخيين علاقات مع كل القوى في المنطقة، فالأمير جمال الدين حجي الكبير كان على علاقة ودية حتى مع الصليبيين المجاورين لإمارته، بينما كان الأمير سعد الدين خضر يتلقى منشورًا من الملك المعز أيبك، أول السلاطين المماليك، يقطعه فيها مناطق الشوف وإقليم الخروب ووادي التيم. 

اتهام بالعلاقة مع الصليبيين
عانى البحتريون في البداية من غضب بعض سلاطين المماليك، بعدما خضعت إمارتهم للسلطة المملوكية، أمثال الظاهر بيبرس، بسبب اتهامهم بالعلاقة مع الصليبيين، وكونهم متذبذبين في الولاء حسب مصالحهم، فهاجمت الجيوش المملوكية إمارة الغرب، وسجن الأمراء البحتريون، إلا أن الناصر محمد بن قلاوون أعاد أملاك التنوخيين، وعيّن الأمير زين الدين صالح التنوخي على إمارة الغرب، لتنتقل الإمارة من بعده إلى ورثته من أبنائه. 
«كان لخضوع الأمراء التنوخيين لنظام المماليك العسكري، أن أعادهم إلى دورهم – التقليدي، من خلال التزام الموانئ والتطور والمناظر في الأماكن التي تواجدوا فيها» (زينات بيطار). 
 برز من الأمراء البحتريين في العصر المملوكي، ناصر الدين الحسين، على رأس إمارة الغرب وكان واليًا في الوقت نفسه على بيروت، وكان قد تسلم الإمارة بعد وفاة الأمير شمس الدين كرامة بن بحتر، من قبل السلطان محمد بن قلاوون سنة 707 هـ / 1307م. تقول زينات بيطار حول ذلك: «وحصل الأمير ناصر الدين الحسين بفضل حنكته السياسية من السلطان محمد بن قلاوون على أمر بإقرار التنوخيين على إقطاعاتهم يتوارثونها أبًا عن جد، واعترفت الدولة المملوكية بأنه من طبقة الأمراء التي يتكون منها ولاة المناطق في دولة المماليك، فأصبح يمثل الصفة العسكرية والإدارية في إمارته، التي هي إمارة الغرب بما فيها بيروت، وكان لازدهار ميناء بيروت في تلك الفترة بالتجارة مع الغرب والشرق، أن تمتع الأمير بموقع اقتصادي بارز، وظهر في مجالسه العديد من الشعراء والأدباء وأحاطت به بطانة من المثقفين» . 
وبرز من بعده الأمير شرف الدين موسى بن عيسى (توفي عام 892 هـ/ 1487م) وكان يعتبر من كبار الأمراء التنوخيين، وتلاه ولده الأمير جمال الدين حجي الأخير، وفي عهد هذا الأخير دخل العثمانيون بلاد الشام، وكان لتأخر الأمير جمال الدين في مبايعة السلطان سليم الأول العثماني أن استمر على إمارته حتى عام 925هـ/ 1519م، ثم ألقي القبض عليه من قبل والي دمشق وصادر أملاكه، إلا أن الأمير شرف الدين يحيى من البحتريين استمر على إقطاعه، حيث إن الأمير شرف الدين كان قد قدم الولاء للسلطان سليم الأول في دمشق، إلا أن هذا الإقطاع أيضًا شاركهم فيه أسرة آل معن وآل علم الدين وآل أرسلان، وذلك نظرًا لخشية العثمانيين من انقلاب البحتريين عليهم، تبعًا لمصالحهم. 
وقد جمعت علاقات المصاهرة بين الأسرتين التنوخية والمعنية، واستمرت هذه العلاقة حتى عهد الأمير فخر الدين الثاني الذي سلم ولاية بيروت للأمير منذر بن سليمان التنوخي عام 1696م. لينتهي العصر التنوخي وليبدأ آل معن الذين تسلموا معظم أملاكهم من قبل العثمانيين. 
والجدير ذكره أن آل معن كانوا مجرد جباة ضرائب (مقدمين) في عهد العثمانيين، ولم يبرز منهم إلا فخر الدين بن قرقماز بن فخر الدين، والمعروف بفخر الدين الثاني الكبير، الذي حاول أن يقيم إمارة بدعم من أوروبا بشكل مستقل عن العثمانيين، إلا أن هؤلاء قضوا عليه.
في الختام، لقد تواجد التنوخيون في منطقة كانت تطمع كل القوى الإقليمية في السيطرة عليها، وشهدوا عددًا من الصراعات البارزة، وكانوا طرفًا في بعضها: الصراع الأيوبي مع المملوكي، المغول مع المماليك، السلاجقة مع الفاطميين، المماليك مع العثمانيين، وكان على التنوخيين عبر أمرائهم أن يلعبوا سياسة تبادل الأدوار مع حياد مقنّع وتنسيق بين الأمراء التنوخيين بغية الحفاظ على وجودهم أمام هذه القوى الكبرى، التي كانت تتصارع على أملاكهم أو بالقرب منها.
إلا أن هذه الصراعات دفعت أمراء تنوخ إلى اتخاذ مواقف محرجة لا تنفع معها سياسة الحياد أو ازدواجية المواقف، لذلك نجد أن الدولة العثمانية بعد معركة مرج دابق عام 1516م تقتص من الأمير جمال الدين حجي الأخير الذي اتهمته بالميل إلى المماليك، بينما نجح الأمير التنوخي الآخر شرف الدين يحيى في الحفاظ على منصبه عندما سارع إلى إعلان الولاء للسلطان العثماني سليم الأول، إلا أن ذلك لم يمنع العثمانيين من الشك في ولائه، ليبدأ نجم التنوخيين بالأفول أمام تقدم الأسرة المعنية التي ورثت الحكم في أجزاء واسعة من جبل لبنان طوال قرنين في العهد العثماني ■