جماليات العمارة الدينية في القاهرة

جماليات العمارة الدينية في القاهرة

بلغت العمائر الإسلامية في القاهرة مبلغًا عظيمًا في بديع عمارتها، وزُخرفها، وإتقان صنيعها، وأبدع المعمار في تخطيطها، وفي زخرفتها، وجاءت عمائر سلاطين المماليك، والذين يُعد عصرهم أوج ازدهار العمارة الإسلامية، وهام الشعراء في أواوينها، وبين رخامها، وتحت قبابها، مُتيمين بجمالياتها المعمارية والفنية، وأطلقوا ألسنتهم، وإن كان لدى البعض منهم مبالغة؛ فليس من المقبول أن يكون سقوط منارة السلطان حسن إلا لخللٍ في البناء، في حين يعزو الشاعر ذلك إلى شدة الوجلِ من سماعِ القرآن الكريم من الأطفال الأيتام أسفل المنارة.

 

حظيت عمائر السلاطين بالنصيب الأكبر من المدح من قبل الشُعراء، وحظي العديد منهم بالخِلعِ من هؤلاء السلاطين، وجاءت عمائرهم بشارع القصبة العُظمى بالقاهرة كمعرض استغل فيه المِعمار الواجهة الرئيسية، ووضع عليها العناصر الرئيسية، فأطلق الشعراء قريحتهم أمام هذا النظام المعماري البديع.

1 - مسجد الذخيرة: 
 ذكرَ المقريزي هذا المسجد بقوله «هذا المسجد تحت قلعة الجبل، بأول الرميلة تجاه شبابيك مدرسة السلطان حسن، التي تلي بابها الكبير الذي سدَّه الظاهر برقوق، أنشاه ذخيرة المُلك جعفر مُتولي الشرطة. الجدير بالذكر أنَّ هذا المسجد سُمي مسجد «لا بالله»، ذلك لأن مُتولي الشُرطة كان يقبض على الناس، ويعسِفهم، فيُحلِّفونه ويقولون له «لا بالله»، فيُقيدهم، ويستعملهم فيه بغير أُجرة، ولم يعمل فيه منذ أنشأه إلا صانع مُكره، أو فاعل مُقيد.

2 - المدارس الصالحية:
 هذه المدرسة بخط بين القصرين بالقاهرة، وكان موضِعها من جُملة القصر الكبير الشرقي، فبنى فيه الملك الصالح نجم الدين أيوب هاتين المدرستين، فابتدأ بهدم موضع هذه المدارس سنة 636هـ، وتمَّ الفراغ منها في عام 641هـ، ورتبَّ فيها دروسًا للمذاهب الأربعة، وهو أول من عَمِلَ بديار مصر دُروسًا أربعة في مكان واحد. وأنشد فيها الأديب أبو الحسين الجزار: «ألا هكذا يبني المدارس من بنى ومن يتعالى في الثوابِ وفي البِنَا»
وقال السراج الورَّاق:
مليك له في العلم حب وأهله 
       فلله حب ليس فيه ملامُ
فشيدها للعلمِ مدرسةً غدا 
       عراق أهلها إذ ينسبون وشام
ولا تذكرن يومًا نظاميةً لها 
       فليس يُضاهي ذا النظام نظامُ
ومن أجمل ما قيل في هذه المدرسة ما قاله الأديب محمد ابن عمر ابن بخمش الواسطي المعروف بابن السُنيبنيرة الشاعر، لما مرَّ هو والأمير نور الدين ابن صاحب تكريت بالقاهرة بين القصرين، ونظر إلى تُربة الملك الصالح، وكان قد دُفِن بقاعة شيخ المالكية، فأنشد:
بنيتَ لأربابِ العُلُومِ مدارسًا 
       لتنجو بها من هولِ يوم المهالكِ
وضاقت عليك الأرض لم تلق منزلًا
       تحِلُ به إلا إلى جنبِ مالِكِ
وذلك أنَّ هذه القُبة التي فيها قبر الصالح مُجاورة لإيوان الفقهاء المالكية.

3 - المدرسة الظاهرية بالنحاسين:
 هذه المدرسة بالقاهرة من جُملة خُطِّ ما بين القصرين، كان موضِعها من القصرِ الكبيرِ يُعرف بقاعة الخِيم. وابتدأ السلطان الظاهر بيبرس البندقداري عمارتها سنة 660هـ، وتمت عمارتها سنة 662هـ؛ ولمَّا كان يوم الأحد خامس صفر سنة 662هـ اجتمع أهل العلمِ بها، وقد فُرِغ منها، وحضر القراء وجلس أهل الدروس كل طائفة بإيوان: الشافعية بالإيوان القبلي، والحنفية بالإيوان البحري، وأهل الحديث بالإيوان الشرقي، والقُراء بالقراءات السبع في الإيوان الغربي، ثمَّ مُدت الأسمطة لهم فأكلوا، وقام الأديب أبو الحسين الجزار فأنشد:
ألا هكذا يبني المدارس من بنى 
       ومن يتعالى في الثواب وفي الثنا
لقد ظهرت للظاهر الملك همة
       بها اليوم في الدارين قد بلغ المُنا
تجمَّع فيها كل حُسنِ مُفرق 
       فراقت قلوبًا للأنام وأعينًا
ومُذ جاوزت قبر الشهيدِ فنفسه النـَّ 
       فيسة منها في سُرورٍ وفي هنا
وما هي إلا جنة الخُلدِ أُزلِفت 
       له في غدٍ فاختار تعجيلها هنا
وقال السراج الوراق أيضًا قصيدة منها:
مليك له في العِلمِ حُبَّ وأهله 
       فلله حب ليس فسه مَلامُ
فشيدها للعلم مدرسةً غدا 
       عِراق إليها شيقٌ وشآم
ولا تذكرن يومًا نظامية لها 
       فليس يُضاهي ذا النظام نِظامُ
ولا تذكرن ملكًا فبيبرس مالكٌ 
       وكُلٌ مليكٍ في يديه غُلامُ
ولما بناها زعزعت كلَّ بِيعةٍ 
       متى لاح صُبح فاستقر ظلامُ
وقد برزت كالروض في الحُسن أنبأت 
       بأن يديه في النوالِ غَمامُ
ألم تر محرابًا كأن أزاهرًا 
       تفتح عنهن الغداة كمامُ
وجعل السلطان الظاهر بيبرس بها خزانة كتب تشتمل على أمهات الكتب في سائر العلوم، وبنى بجانبها كُتابًا لتعليم أيتام المسلمين كتاب الله العزيز، وأجرى لهم الجِرايات والكسوة، وأوقف عليها ربع السلطان خارج باب زويلة، فيما بين باب زويلة وباب الفرج، ويُعرف ذلك الخُطِّ اليوم بخُطِّ «تحت الرَّبْع». وهذه المدرسة من أجلِّ مدارس القاهرة، إلا أنها قد تقادم عهدها فرثت. 

4 - مُجمّع المنصور قلاوون:
منشئ الأثر:
هو السلطان الملك المنصور سيف الدين أبو المعالي قلاوون بن عبدالله الألفي التركي الصالحي النجمي (678-689هـ /1280-1290م)، لُقّبَ بالألفي لأنه تمَّ بيعه بألف دينار، وحكم إحدى عشرة سنة وشهرين ونصفًا. ويُعتبر قلاوون من أعظم سلاطين هذه الدولة لما قام به من فتوح وأعمال جليلة لأنه رأس أسرة قلاوون التي تتابع على عرش مصر، منها أربعة عشر ملكًا وحكموها وحدهم قرابة مائة عام، وكان قلاوون مغرمًا بشراء المماليك الجدد، وقيل بلغت عدة ما اشتراه اثني عشر ألف مملوك، وتُوفي بالقرب من المطرية عند خروجه لمحاربة التتار، بعد أن أذلَّ التتار والفرنجة وأخضع بلاد الشام، وكانت وفاته عام 689هـ/1290م.
وللسلطان قلاوون شخصية محببة أفرد لها المؤرخون صفحات، فذكر عنه أنه كان أحسن الناس صورة في صباه، أبهاهم وأهيبهم في رجولته التامة، وكان مُستدير الوجه واللحية قد خطَّه الشيب، وكان كريمًا شجاعًا مِقدامًا عادلًا عفيفًا عن سفك الدماء.

موقع المجمع:
تقع هذه المجموعة البنائية بشارع المعز لدين الله بين القصرين أمام المدرسة الصالحية، وكان في موضعها أرض القصر الفاطمي الغربي. وقد ذكر المقريزي موقع هذا المُجمع بقوله «هذه المدرسة داخل باب المارستان الكبير المنصوري بخط بين القصرين بالقاهرة، أنشأها والقبة الضريحية الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي التركي، وكان قد أخذ الدار القطبية وجعلها المارستان الموجودة الآن، ورتبَّ بالمدرسةِ دروسًا لطوائف الفقهاء الأربعة، ودروسًا لتفسير القرآن، ودروسًا للطب»، وقد قيل عنها:
تصدر للتدريس كل مُهوَّسٍ 
       بليدٍ يسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا 
       ببيت قديم شاع فى كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها 
       كلاها وحتى سامها كل مفلس

عمارة المجموعة المعمارية:
قام على عمارتها الأمير علم الدين سنجر الشجاعي، فلما تمَّت دخل عليه الشرف البوصيري فمدحه، وقال: 
أنشأت مدرسة ومارستان
       لتصحح الأديانَ والأبدانَا 
وتتكون هذه المجموعة المعمارية من عدة منشآت عبارة عن مدرسة وضريح للمنشئ وبيمارستان للعلاج بالإضافة إلى سبيل لسقي الناس الماء العذب من عصر الناصر محمد بن قلاوون، على هيئة زاوية قائمة يبلغ كل ذراع منها مائة متر، ويُطل أحد الذراعين وهو واجهة المدرسة والضريح على الشارع المعز بينما تُطل بقية المدرسة على الداخل.

5 - جامع ومدرسة السلطان حسن بالقاهرة:
هو السلطان الملك الناصر حسن ابن السلطان الملك الناصر محمد ابن السلطان الملك المنصور قلاوون، ولد سنة 735هـ وأُمه أُم ولد ماتت عنه وهو صغير، وكان أولًا يُدعى قماري، ولي المُلك في 14 رمضان سنة 748هـ، وعمره ثلاث عشرة سنة، ولما جلس على تخت الملك لقبوه بالملك الناصر سيف الدين قماري غير أنه لم يرض بهذا اللقب، وقال إنما سُمّي «حسن»، فاستلطفه الناس لصغر سنه وذكائه، فصاحت الحجاب في الحال باسمه وشهرته وتمَّ أمره وحلف له الأمراء وهو السلطان التاسع عشر من ملوك الترك بالديار المصرية والسابع من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون، ثم ثار عليه مجموعة من الأمراء وقبضوا عليه وسجنوه في القلعة بعد أن لبث في الحكم للمرة الأولى نحو ثلاث سنين وتسعة أشهر واختاروا بعده أخوه صالحًا. 
وعاد إلى العرش سنة 755هـ/1354م، وقد شاركه هنا الأمير صرغتمش فى إدارة شؤون البلاد ومن أهم أعماله في هذه الفترة مدرسته الضخمة بحي القلعة وبعدها فطن السلطان لضخامة نفوذ الأمير صرغتمش، لذا سجنه وأعدمه في السجن، ثم ثار عليه الأمير يلبغا الناصري وقبض عليه وسجنه، وقيل إنه خنقه، لكن جثته لم يعثر عليها، وذلك عام 762هــ / 1361م .

أقوال المؤرخين والرحالة عن المدرسة:
قال عنها المقريزي «فلا يُعرف في بلاد الإسلام معبد من معابد المسلمين يُحاكي هذا الجامع وقبته التي لم يبن بديار مصر والشام والعراق والمغرب واليمن مثلها»، وقيل إن إيوانه الكبير أكبر من إيوان كسرى الذي بالمدائن من العراق بخمسة أذرع. 
ويصفها عبد الغني النابلسي صاحب الحقيقة والمجاز، وكان قد زاره سنة 1105هـ / 1693م، بقوله «إن هذا الجامع من أعظم الجوامع على شكل القاعة العظيمة، وإذا نظرنا إلى إيوانه القبلي الذي فيه المنبر والمحراب فإذا هو إيوان كبير عظيم».
وقال عنها ابن شاهين الظاهري المتوفى سنة 873هـ/ 1468م «ليس لها نظير في الدنيا، فقد حُكي أن المالك الناصر حسن لما أمر بعمارتها طلب مهندسين من أقطار الأرض وأمرهم بعمارة مدرسته، ولم يعمر أعلى منها، فعمرت وعمر بها أربع منارات، وقيل ثلاث في ارتفاع المدرسة أيضًا، ثم هُدمت بعض المنارات واستمرت الآن على اثنتين، وهي عجيبة من عجائب الدنيا».
 
الشعر العربي في جامع ومدرسة السلطان حسن:
نقل الصلاح الصفدي في تاريخه أن السلطان حسن لمّا أكمل عمارة هذه المدرسة نزل من القلعة وصلى بها الجمعة، واجتمع بها قضاة القضاة الأربعة، وسائر الأمراء المقدمين، وهم بالشاش والقماش، وملئت الفسقية التي بصحن المدرسة سكرًا بماء ليمون، ووقف عليها جماعة من السقاة يفرقون السكر على الناس بالطاسات.
ومن أراد أن يعلم عُلو قدر السلطان حسن فلينظر عُلو همته في بناء هذه المدرسة التي لم يُبن على وجه الأرض مثلها أبدًا، وقد فاق أباه وجده في الحُرمة والكلمة والنظام العظيم، وفي ذلك يقول ابن أبي حجلة: 
لسنا وإن كرمت أوائلنا
       يومًا على الأنساب نتَّكِل
نبني كما كانت أوائلنا 
       تبني ونفعل فوق ما فعلوا

وقوله أيضًا في أبيات أخرى:
قد أُنبِت الترخيم في محرابها 
       زهرًا كَدُرِّ قلائِد العقيان
فكأنه كسري أنوشروان قد
       وضعوا عليه التاج في الإيوان
لو لم تبت وأبو حنيفة شيخها 
       ما شُبّهت بشقائق النعمان
وقال فيه ابن نباتة:
إمام الورى هُنِّيت بالجامع الذي
       وجدت إلى مبناه سعدًا موافقًا
دعا حسنه أهل الصلاة لقصده
       فلا غرو أن جاء المصلّي سابقا

سقوط إحدى منارات السلطان حسن، والأشعار التي تمَّ تداولها:
وفي سادس ربيع الأول سنة 762هـ سقطت إحدى منارات مدرسة السلطان حسن، وهي المنارة الثالثة التي كانت على الباب الذي فوق سوق القبو فهلك تحتها نحو ثلاثمائة إنسان، والأطفال الأيتام الذين كانوا بمكتب السبيل، ومن جملة ذلك جماعة كثيرة من الناس، الذين كانوا بسوق القبو والذين كانوا يمرون بالطريق، فتشاءم الناس بذلك، وتطيروا به لزوال السلطان عن قريب، فكان الأمر كذلك، فلم يقم السلطان بعد ذلك سوى ثلاثة وثلاثين يومًا وقتل، فلما سقطت المنارة أخذ الشيخ بهاء الدين السبكي يعتذر عن ذلك بقوله:
أبشر فسعدك ياسلطان مصر أتى
            بشيره بمقالٍ صار كالمثل
إن المنارة لم تسقط لمنقصةٍ
            لكن لسرٍ خَفِىّ قد تبينّ لي
من تحتها قُرِئ القرآن فاستمعت
           فالوجد في الحال أداها إلى الميل
لو أنزل الله قرآنًا على جبلٍ
            تصدعت رأسه من شدة الوَجَل
تلك الحجارة لم تنقض بل هبطت
           من خشية الله لا للضعف والخلل
وغاب سلطانها فاستوحشت فرمت
           بنفسها لجوى في القلب مشتعل
فالحمد لله حظ العين زال بما
          قد كان قدره الرحمن في الأزل
لا يعتري البؤس بعد اليوم مدرسة
          قد شُيدت لأهل العلم والعمل
ودمت حتى ترى الدنيا بها امتلأت
         علمًا فليس بمصر غير مشتغل

6 - المدرسة الظاهرية المُستجدة (مدرسة الظاهر برقوق):
 هذه المدرسة تقع بشارع القصبة العُظمى، وكان موضعها من جُملة حقوق القصر الغربي، ولما آلت مملكة الديار المصرية إلى الملك الظاهر سيف الدين أبو سعيد برقوق، وأحبَّ إنشاء مكان لذِكر الله، وإقامة الصلاة، ونشر العلم؛ وقع الاختيار على هذا المكان، وجعل أمر العمارةِ إلى الأمير جَهَارْكس الخليلي أمير آخور، فشرعَ في هدم الخان والربع المذكور في يوم الرابع والعشرين من شهر رجب سنة 786هـ، وساقَ لذلك عِدَّةً من الأبقار والجواميس لنقلِ الحجارةِ من الجبل على العَجَلِ، واستعمل الصُناع من الحَجَّارين والبُناة والفَعَلة وغيرهم بالأجْر، ولم يُسخر أحدًا من الناس في العمل؛ إلا أنه كان دهقانًا مُماحِكًا عازفًا يُحب القلب في المُعاملة، فثقُل على العُمالِ ذلك منه. 
وسيَّرَ إلى سواحلِ البلاد الشامية، فاحتمل القطع الصغيرة من الرخام المُلون، وجدَّ في العملِ حتى تجملَّت في أعظم قالب، وأتمِّ هندام، وأضخم بُنيان، وأجلَّ مِقدار، كأنها تُضاهي أعمال إرم، وتفخر على مصانع عاد، مفروشة بالرخام البديع، وبدائرها كلها الرخام، وبحذائِها قُبة جليلة لدفنِ الأموات، ومن ورائِها المساكن الكبيرة لطلبةِ العلمِ، والمطبخ لأجلِ الطعام، والميضأة والساقية. وقال الشعراء في المدرسةِ شعرًا كثيرًا، من ذلك قول شهاب الدين أحمد بن العطار:
قد أنشأ الظاهر السُلطان مدرسةً 
       فاقت على إرمٍ مع سُرعةِ العملِ
يكفي الخليلي أن جاءت لدعوته 
       شُمُّ الجبال لها تسعى على عجلِ

ومن رأى الأعمدة التي بها عرف الإشارة:
قُل للمليك الظاهرِ المُرتَضى 
       هنِئتَ بالمدرسةِ الفائقة
خنقت حُسادك قهرًا بها 
       فيا لها مدرسة خانقة 

7 - جامع ومدرسة المؤيد شيخ المحمودي في الشعر العربي:
السلطان المؤيد شيخ المحمودي، ولد سنة 770هـ، ولُقِبَ باليزيدي، وقيل البرزي، وقيل البزدري، نسبة إلي التاجر الذي بائعه، وهو محمود اليزيدي، الذي أحضره إلى مصر مع آخرين فنسب إليه، وكان عمره آنذاك ثلاث عشرة سنة، اشتراه الأمير برقوق قبل أن يتسلطن، ولما تولى برقوق السلطنة أعتق المؤيد شيخ، وولاه خاصكيًا ثم ساقيًا.
وفي 8 شعبان سنة 815هـ خلع الأمير شيخ المحمودي الخليفة العباسي، ووثب على السلطنة، وقد أدَّى ذلك إلى ثورة أمراء الشام ضده، ومنهم الأمير نوروز إلا أنه قبض عليهم، وسجنهم بالإسكندرية، وتلقَّب بالسلطان المؤيد شيخ، وقال عنه ابن إياس وكان يُعرف بالخاصكي المجنون.
وابتدأ مرض موته في الحادي عشر من ذي الحجة سنة 823هـ بإسهال وزحير (قيء مستمر)، وألم في الحصاة، وحُمى وصداع وألم في المفاصل، وحبس للإراقة (البول)، وتُوفي ظهر يوم الإثنين التاسع من المحرم سنة 824هـ، وكان له من العمر لمّا مات نحو خمس وستين سنة.
يُذكر أنهم لما أرادوا غُسل الملك المؤيد لم يجدوا له إناء صغيرًا يصبّوا عليه به الماء، ولا وجدوا له مِنشفة ينشفوا بها لحيته، حتى أخذوا منديل بعض من حضر غسله، ولا وجدوا له مِئزرًا يستروا به عورته، حتى أخذوا مئزر بعض الجوار النائحات وهو مئزر صعيدي أسود خشن، فسبحان من يُعز ويُذل. وأنشد الشاعر قوله:
ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابضٍ 
       على الماءِ خانته فروج الأصابعِ 
ويقول ابن إياس «وكثر الحزن والأسف على الملك المؤيد من الناس»، وكان أحقّ بقول القائل:
ألا في سبيل الله ملك مؤيد 
    كنصل غدا في باطن الأرض يغمدا
على الرغم منا إن خبا منه لامع
    وجاوبنا مِن جوف تربته الصدا 

موضِع جامع المؤيد وسبب الاختيار: 
هذا الجامع بجوار باب زويلة من داخله، كان موضِعه خزانة شمائل، حيث يُسجن أرباب الجرائم، وهذه الخزانة عُرفت بالأمير علم الدين شمائل والي القاهرة أيام الملك الكامل الأيوبي، وكانت من أشنع السجون وأقبحها منظرًا، يُحبس فيها من وجب عليه القتل أو القطع من السراق وقطاع الطريق ومن يُريد السلطان إهلاكه من المماليك، وأصحاب الجرائم العظيمة. وقد حُبِسَ المؤيد شيخ وهو أمير في هذه الخزانة فقاسى في ليله من البق والبراغيث، فنذر إن نجاه الله وملك مصر أن يجعل هذه البقعة مسجدًا لله تعالى، وكان من مواضع هذا الجامع بالإضافة لخزانة شمائل، قيسارية سُنقر الأصفر، ودرب الصُفيرة، وقيسارية بهاء الدين أرسلان، وهُدِمت خزانة شمائل، فوجِد بها من رِمَمِ القتلى ورؤوسهم شيءٌ كثير، وأفرِد لنقلِ ما خرج من التُراب عِدَّةٌ من الجِمالِ والحَمير بلغت علائِقهم في كل يومٍ خمسمائة عليقة. وعقَّبَ المقريزي على اختيار موقع سجن شمائل فقال «إنَّ من عرف أوله من تبديل الأحوال من حالٍ إلى حال، فبينما هو سجن تُزهق فيه النفوس صار مدارس آيات وموضع عبارات، ومحل سجود لله» . 
وصف المقريزي جامع ومدرسة المؤيد شيخ بقوله «فهو الجامع لمحاسن البنيان، الشاهد بفخامة أركانه وضخامة بنيانه أن مُنشئه سيد ملوك الزمان، يحتقر الناظر له عند مشاهدته عرش بلقيس وإيوان كسرى، ويستصغر من تأمل بديع أسطوانه الخورنق وقصر غمدان». وقال عنه السخاوي «إنه لم يعمر في الإسلام أكثر منه زخرفة ولا أحسن ترخيمًا إلا المسجد الأموي». 
هِمَمُ المُلُوك إذا أرادوا ذِكرها 
       من بعدِهم فبألسُنِ البُنيانِ
أو ما ترى الهَرَمين قد بقيا وكمْ
       ملِك محاهُ حوادثً الأزمانِ
إنَّ البناء إذا تعاظم قَدْرُه  
       أضحى يَدلُ على عظيمِ الشانِ
ولهذا الجامع أربع واجهات جُدد ثلاث منها، أما الواجهة الرئيسة الجنوبية الشرقية فهي المحتفظة بتفاصيلها، وبها المدخل الرئيسي بالزاوية الشرقية من الواجهة، وهو مدخل تذكاري بحجر غائر.

قصة الباب والتنور النحاسي بجامع المؤيد:
يتوسط صدر حجر المدخل فتحة باب مستطيلة يغلق عليها مصراعان من الخشب مصفحان بالبرونز يبلغ ارتفاعهما نحو 6 أمتار، وهذان المصراعان مأخوذان من جامع ومدرسة السلطان حسن في شهر شعبان سنة 819هـ، حيث تم نقل الباب والتنور النحاسي، ودفع ثمنهما خمسمائة دينار، وقد علَّق بن تغري بردي على هذه الحادثة بقوله «وفي نقل الباب نقص مروءة وقلة أدب»؛ وعلَّلَ بعض المؤرخين سبب نقل باب السلطان حسن إلى مدرسته لأن السلطان برقوق كان قد سدَّ باب مدرسة السلطان حسن بالحجارة، فكان هذا الباب غير منتفع به، وقيل إن المؤيد شيخ نقله بناءً على اقتراح بعض المهندسين وأنه في نظير ذلك أوقف على مدرسة السلطان حسن قرية قها بالقليوبية. ويذكر بن تغري بردي أن بعض أعيان المماليك المؤيدية وعدوا إذا طالت مدة حكم المؤيد بأن يصنع بابًا وتنورًا لجامعه ويرد باب السلطان حسن إلى مكانه، فقبضه الله قبل ذلك. 

تَهدم المآذن الأولى، والأشعار التي ذُكِرت في تهدمها:
يذكر ابن تغري بردي أن السبب في تهدم المآذن الأولى هو أنها بُنيت من أسفلها بحجر صغير، وأعلاها بحجر كبير، فأوجب ذلك ميلها وهدمها. وقد سجلّ المقريزي هذه الحادثة بقوله «وفي أثناء شهر ربيع الآخر سنة 821هـ ظهر على المئذنة اعوجاج إلى جهة دار التفاح، فكُتب محضر أنها مستحقة الهدم، وعُرض على السلطان فرسم بهدمها، فوقع الهدم يوم الثلاثاء 24 ربيع الآخر سنة 821هـ».  وقال أُدباء العصر في سقوط المئذنة المذكورة  عرًا كثيرًا، منه ما قاله شِهاب الدين أحمد بن عليّ بن حجر الشافعيّ:
لجامع مولانا المؤيد رونق  
    منارته تزهو من الحسن والزينِ
تقول وقد مالت عليهم تمهلوا 
    فليس على جسمي أضر من العينِ

فتحدث الناس أنه في قوله بالعين قَصد التورية لتخدم في العين التي تُصيب الأشياء فتُتلفها، والمقصود بالتورية «الشيخ بدر الدين محمود العِنتابي» فإنه يُقال له العيني أيضًا. فقال العينيّ يُعارضه:
منارة كعروس الحسن إذ جُليت
         وهدمها بقضاءِ الله والقدرِ
قالوا أُصيبت بعينٍ، قُلت ذا غلط 
       ما أوجب الهدم إلا خِسة الحجرِ
والشاعر هنا يُعرِض بالشهاب ابن حجر، وكل منهما لم يُصب الغرض، فإن العينيّ بدر الدين محمود ناظر الأحباس، والشيخ شهاب الدين بن حجر، كل منهما ليس له تعلق بالمئذنة حتى تخدم التورية. أما التورية بالفعل فهي التي قُصد بها بهاء الدين محمد بن البُرجيّ الذي يعزى إليه تدبير أمر جامع المؤيد شيخ، وولي نظر عمارته، بناء المنارات الأولى التي تداعت أيام المؤيد شيخ، وقال أحدهم:
على البرج من باب زويلة أُسست 
    منارة بيت الله والمعهد المُنْجي
فأخلي بها البرج اللعين أمالها 
    ألا فاصرخوا يا قوم باللعن للبُرجِ
وذلك أنَّ الذي ولِيَ تدبير أمر جامع المؤيد شيخ المحمودي، وولِيَ نظر عمارته بهاء الدين مُحمد بن البُرجي، فخدمت التورية في البُرجي كما ترى، وتداول الناس هذا، وقال آخر:
عتبنا على ميل المنارِ زويلة
    وقلنا تركت الناس بالميل في هرجِ
فقال قريني بُرج نحسٍ أمالني
    فلا بارك الرحمن في ذلك البُرجِ
وقال الأديب شمس الدين محمد بن أحمد بن كمال الجَوجَري أحد الشهود:
منارةُ لثواب الله قد بُنيت 
    فكيف هُدَّت فقالوا نُوضِح الخبرا
أصابت العين أحجارًا بها انفلقت
    ونظرة العين قالوا تفلق الحجرا
وقال آخر:
منارةُ قد هُدِمت بالقضا 
    والناس في هرجٍ وفي رَهَجِ
أمالها البرج فمالت به  
    فلعنة الله على البُرجِ ■