الأمير المثقف عبدالله السالم الصباح

الأمير المثقف  عبدالله السالم الصباح

من النادر في عصر الدول العربية الحديثة أن نعرف أن أحد الحكام العرب كانت الثقافة جزءًا من حياته، والقراءة همه اليومي، من هؤلاء القلائل الشيخ عبدالله السالم الصُّباح، المولود في الكويت سنة 1895م، وقد نشأ وترعرع في كنف والده الشيخ سالم المبارك الصباح، ودرس الشيخ عبدالله عند أحد الكتَّاب وحفظ القرآن الكريم، وتعلم القراءة والكتابة والحساب، لكنه كان نهمًا في القراءة.

 

يستقي المثقف مصادر ثقافته من موردين اثنين: أولًا: القراءة وسعة الاطلاع على مصادر المعرفة. ثانيًا: مجالسة العلماء ومحاورتهم والاستزادة من علمهم.  وهذا ما فعله الشيخ عبدالله السالم، فأصبح من المتنورين والمثقفين، وبعد أن تمكن الشيخ عبدالله من إتقان القراءة اتجه إلى كتب التاريخ، يقرأ ما توفر له من كتب التاريخ القديم، وعرف كل مداخل ومخارج التاريخ، خيره وشره، وعرف الأمم والممالك الإسلامية، وما تحتويه من إيجابيات، أو سلبيات تلك الدول، وحصل على معلومات كثيرة، وقيَّم بعض المواقف الإسلامية، وحلل بعض المعلومات، حتى أصبح من المحاورين في التاريخ الإسلامي في مجالسته لعلماء عصره، وكانت له مواقف مميزة مع الشيخ يوسف بن عيسى القناعي. ولم يكتف الأمير بكتب العرب، بل عمد إلى كتب الأجانب المترجمة إلى اللغة العربية ينهل من معينها ليعرف آفاق الفكر الإنساني.
عرف عن الشيخ عبدالله ولعه بقراءة الشعر، فكانت له جلسات مع الشعراء، يستمتع بسماع قصائدهم، ويستفسر عن أحوالهم، وانعكاس ذلك بأشعارهم، وكان يطابق ما ينظمونه بما في الشعر العربي من قصائد وأبيات، حيث إنه قد حفظ الآلاف من الأبيات الشعرية، وكان ينظم الشعر باسم «الشاعر المحتجب»، وكان شعره شعبيًا مرة، وفصيحًا مرة أخرى، وقد جلس مع مؤرخ الكويت الشيخ عبدالعزيز الرشيد، صاحب كتاب «تاريخ الكويت» فكيف كان رأي الرشيد في ثقافة الشيخ عبدالله السالم؟:
«زرتُ سموه يومًا بعد طول غيبة، فأخذ يطارحني المسائل العلمية والأدبية بمهارة غريبة كان في أثنائها يرميني بسؤالات، وإشكالات حيَّرني بها، ووقفتُ أمامها موقف المعجب بذكائه الفطري، واستعداده الغريزي، وقد دفعني ذلك إلى أن أقدم لسموه قصيدة أبثّه فيها إعجابي به، وبأبحاثه الشيقة اللذيذة» فإذا كان هذا رأي المعاصر للشيخ عبدالله، فكيف كانت ثقافته؟!!  لا شك أن الشيخ عبدالله قد أحاط نفسه بكثير من الكتب، قرأها وانتقدها، وعرف مواطنها.
هذا رأي مؤرخ الكويت الأول الشيخ عبدالعزيز الرشيد، إعجاب بثقافة سمو الشيخ واطلاعه الواسع، مما حداه إلى نظم قصيدة شعرية يقول فيها:
يا أيها العلم الراقي بفطنته
أوج الصـواب وصدق الرأي والخبرِ
إنِّي غدوتُ وأيم الحقِّ منتعشًا 
من بعد ما كنتُ من يأسي على خطرِ
إنّي طربتُ لأبحاثٍ أتيتَ بها   
وقد حـكت بسـناها طلعةَ القـمرِ
 لم لا فديتكَ لا أنفكُّ منتعشــــًا
وأنتَ تتحفُ من يأتــــيكَ بالدررِ
إلى مسائل في الآدابِ تذكرها
عصر الرشيدِ وعصر السادة الغررِ
لذا وحقِّكَ لم أبصر لطلعتكم
إلّا وأبتُّ بأنسٍ قد جلا كـدري

 تتكون هذه قصيدة من تسعة عشر بيتًا من الشعر العربي، وهل هذا الإعجاب يصدر من مؤرخ واحد فقط؟!  أم أن هناك من عبر عن رأيه في مطارحات الشيخ عبدالله لمسائل التاريخ والآداب العربية، ولم يعرف عنه أنه دفع مالًا إلى أحد الشعراء لقصيدة مدح، بل كانت العلاقة حميمية، وصداقة لا يتم تقييمها بالمال؟!!
كان الأمير محبًا للاطلاع على أحوال العرب والمسلمين، لذا اشترك في بعض المجلات التي تصل إلى الكويت، من مصر وسورية ولبنان والعراق، وكان يتفاعل مع القضايا العربية، وله آراء فيما يحدث في الوطن العربي، وكانت المجلات العربية تصل إلى الكويت عن طريق البر، أو البحر، وكان له دور في دعم «مجلة الكويت» التي أصدرها الشيخ عبدالعزيز الرشيد سنة 1928م، كما ساند مجلة «كاظمة» التي أصدرها عبدالحميد الصانع وأحمد السقاف سنة 1948م، وهي أول مجلة تطبع في الكويت، وكانت ثقافته تشع على جميع سكان الكويت.
القراءة والاطلاع أكسبا الشيخ عبدالله التواضع والبعد الإنساني، فكان رئيسًا لدائرة الأيتام، بما يتمتع به من رحمة ورأفة، وخصص ميزانية للقائمين على خدمة الأيتام، امتلأ قلبه الحب واتسع لمشكلات شعبه، والذي يزور الكويت ويلتقي به يجد شيئًا لا يجده عند حكام العرب، فهذا الدكتور المفكر أحمد زكي يقول:  «لقيته أول مرة زائرًا عام 1955م، وعرف أني إلى العلم أنتسب، فقال لي:  أنا رجل إن فاتني أن أكسب الكثير فقد كسبتُ شيئًا هو أكثر الأشياء عندي، ذلك حب الخير لبلدي وللعرب». ويستمر الدكتور في سرد رأيه في الشيخ العود، وهناك كثير من الآراء التي قيلت في حق الأمير، ولو سردناها لطال المقال عن المألوف.

مع الشعر والشعراء
كان الشاعر صقر بن سالم الشبيب يجالس الشيخ سالم، والد الشيخ عبدالله، فلما انتقل إلى رحمة الله كانت جلساته مع الشيخ عبدالله. كان الشاعر صقر كفيفًا، ويعول أسرته، وأراد الشيخ عبدالله أن يساعده، ويصون ماء وجهه، فتم تعيينه أستاذًا للشعر في إحدى المدارس، وكان للشاعر الشبيب جلسات مع الشيخ، الذي انبهر بثقافة الشيخ عبدالله، وتمكنه من عروض الشعر، وعلله وزحافاته، ومدحه كثير من الشعراء في الكويت وخارجها، وكان ينظم المقطوعات والأبيات القليلة، وما كان من الشاعر صقر إلا أن نظم قصيدة في الشيخ عبدالله السالم يقول فيها: 
ومن يغتدي والشهرُ ذو الجود سالمٌ
أبوه وذو العليا المبارك جده
فأجدر به ألا يخيب أملًا
وهيهات يأبى أن يخيبَ بجده
فيا من غدا في الناس مجمل مدحه
يدورُ وحسن الفعل والقول نده
ويا من به روض المديح تبسمت    
أزهاره من بعد ما جفَّ ورده
ويا من به نشر المدائح قد حلا    
ولولاه لم ينشر لمدحي برده

 وكان للأمير عبدالله مجلس مع بعض البارزين من أبناء الشعب الكويتي، منهم الشعراء والأدباء، وشيوخ الدين، وكان يطرح أسئلته واستفساراته على كل فريق بحسب ثقافته، فهو فقيه مع الفقهاء، وشاعر مع الشعراء، وأديب مع الأدباء، ومؤرخ مع المؤرخين، وكان ينصت إلى الشعراء، ومن هؤلاء الشاعر عبداللطيف بن نصف، الذي نظم قصيدة في مدح الأمير يقول فيها: 
أعبد الله عفوًا عن فتى لم
يودُّ من الأمور سوى رضاكا
أتيتُ يقودني أمل صريح
وحلم قد تجسم في علاكا
أعوذُ بمجدك العالي ذراه
ويا لله من مجدٍ هناكا
وحزمٌ لا تغيره الليالي
وعزمٌ قد بلغتَ به السماكا
 حفظ الشيخ عبدالله كثيرًا من دواوين الشعر العربي، وخاصة شعراء الحكمة والغزل وغيرها، مثل ديوان المتنبي وديوان أبي ذؤيب الهذلي، وغيرهما من دواوين شعراء العرب، وكان يتمثل في جلساته بأبيات من الشعر العربي، وكان ينظم الشعر العربي بطريقتين، الفصحى والمحلية، فمن أشعاره المحلية قصيدة «بو يوسف» الذي يقول فيها: 
يا بو يوسف لا تعاتب من جفاك
من رخص في عشرتك خله يروح
والطمع باللي على غاية هواك
ما يواريك الجفا قلبه نصوح
ما يخونك دايم يتبع رضاك
حافظ عرضك وبسرك ما يبوح
لا تبع هذا ولا وقف لذاك
وما حكوا به يروح أو ما يروح
وإن تكدر خاطرك يحزن معاك
يتبعه همك ومن نوحك ينوح
حافظ حبك ولا يحكي وراك
والسماحة عند من وجهه سموح
ذاك مطلوبك وهو غاية مناك
خشف ريم جيته تبري الجروح
كان للشعر دور في حياة الشيخ عبدالله السالم، فكان يتمثل به في جميع المناسبات، فعندما ادعى حاكم العراق تبعية الكويت بعد استقلال الكويت سنة1961م، وثارت جماهير الكويت تندد بذلك الادعاء، وخرجت بمظاهرات عارمة متجهة إلى قصر السيف خرج سموه من شرفة القصر وألقى كلمة، ومن ضمنها بيت الشاعر الأفوه الأودي:
تُهدى الأمورُ بأهلِ الرأي ما صلحت
وإن تولت فبالأشرارِ تنقادُ

وهذا البيت نفسه ردده عند افتتاح أول مجلس للأمة سنة 1963م، كنوع من النصيحة للأعضاء، لتغليب الحكمة في مناقشاتهم وحواراتهم، وفي هذا المجلس أيضًا سقط مغشيًا عليه سنة 1965م، فنقل إلى منزله، ولما أفاق من غيبوبته تبادر إلى ذهنه بيت أبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمة لا تنفع

وكان بعد إعلان استقلال الكويت في التاسع عشر من يونيو سنة 1961م قد أرسل صديقه الشيخ يوسف بن عيسى القناعي أبياتًا يهنئ الأمير بنيل الكويت حريتها واستقلالها، تلك التهنئة جاءت عبر أربعة أبيات نظمها القناعي. يقول فيها:
أهنيكَ في عهدِ التـحررِ كلما
بدا طالعٌ للشمس في كلِّ مشرقِ
وأرجو لك التوفيق مادمتَ سالمًا
تقومُ بعدلٍ في البلادِ وتتقي
وإنّي أهني الشـعبَ فيكَ لأنه
يرى أنكَ الماء الذي يستقي
فدُم يا ابنَ سالم حافظًا لكويتنا
وحامي حماها من حدودٍ ومرفقِ

يعلم الشيخ القناعي أن الشعر يحرك موهبة الشاعر، لذا كان رد الشيخ عبدالله عليه بالقافية والبحر نفسيهما، حيث قال:
لك الشكرُ يا رمز الوفاء على المدى
ويا طوده العالي على المتسلقِ
لقد ملأ الإخلاص نفسـًا أبيةً
بجنبيك لم تعرف ســـــبل التملقِ
وكنتَ أبا عيسى على الخيرِ هاديًا
تذودُ عن الأخلاقِ في كلِّ مرفقِ
فلا زلتَ مختالًا بأكمل صحةٍ
تحلق في جوِّ الهناءِ وترتقي

كان الأمير محبًا للثقافة، وحافظًا لها، وبخاصة الشعر القديم وتراث الإسلام، وتلك التي صاغت عقليته الفذة، وأبرزت صفاته المميزة، فكان رجلًا متواضعًا، محبًا للخير، ويتمتع بأدب جم، وفلسفة واقعية، وقد أمر بأن تقوم دائرة المطبوعات والنشر (الإعلام) بنشر بعض كتب التراث العربي؛ مثل: كتاب «الأضداد» لأبي القاسم الأنباري، وكتاب «الذخائر والتحف» للرشيد بن الزبير، وكتاب «مجالس العلماء» للزجاج، وغيرها من الكتب التراثية، ولا يخفى أنه قد اطلع على تلك الكتب وعرف فوائدها، لذا أراد تعميم الفائدة على الناس.

أثر ثقافته على المجتمع
لم يكن الأمير الشيخ عبدالله السالم رجلًا عاديًا، وحاكمًا يريد أن يحكم فقط، ويتمتع بثروة البلاد، بل وظف كل ما تحصل عليه الكويت من أموال النفط والجمارك في خدمة الوطن، فرضي لنفسه براتب متواضع كأي موظف بسيط، أما الثروة فكانت للمشاريع التنموية، فأخذ على عاتقة تحويل الكويت إلى دولة عصرية، فشملت النهضة كل مناحي الحياة.
وعندما تسلم الأمير الحكم في 25 فبراير1950م، استقطب اهتمام المثقفين والعلماء، وجمع مجموعة منهم لإعادة تخطيط الكويت، فتم إنشاء مجلس الإنشاء، واهتم بالتعليم، بل أصبح التعليم أولوية عنده، ففي سنة  1951 - 1952  كان عدد المدارس لا يتجاوز العشر، بين بنين وبنات، أما عددها في سنة وفاته فقد بلغ نحو مئة وأربعين مدرسة، فلا توجد قرية أو جزيرة إلا دخلها التعليم، وتصرف للطالب كل حاجاته من كتب وكراريس وأقلام، حتى الملابس، لكل طالب وطالبة.
ثم أمر الشيخ عبدالله أن يتجه إلى نشر التعليم في ربوع الخليج العربي، فمنذ سنة 1952م بدأت الكويت في إنشاء المدارس في الإمارات، وتعيِّن لهم الأساتذة، ويأخذون رواتبهم من الكويت، ويتسلم الطلاب والطالبات ما يتقاضاه طلبة الكويت من كتب وكراريس وملابس، ولم يغفل الأمير عن المكتبات، فكل مدرسة تبنى تؤسس فيها مكتبة عامة للطلاب والأساتذة.
وقبل إنشاء جامعة الكويت تم إرسال الطلبة إلى البلاد الأخرى لتلقي التعليم الجامعي في تخصصات مختلفة تخدم تطور الكويت ونهضتها، وبدأ في عهده تطوير المناهج الدراسية، بمراحلها الثلاث؛ الابتدائية والمتوسطة والثانوية. كان الأمير الشيخ عبدالله السالم الصباح رجل دولة فذًا من الطبقة الأولى، كرس حياته لخدمة مواطنيه، وتطوير بلده، لذا لا عجب أن يكون محبوبًا من جميع مكونات المجتمع الكويتي، ويكسب احترامهم وتقديرهم. وانتقل الأمير المثقف إلى رحمة الله في 24 نوفمبر سنة 1965م، فجزاه الله خيرًا على ما أسداه للشعب الكويتي والأمة العربية ■