بول غوغان... «السوق»

بول غوغان... «السوق»

في معرض حديثه إلى الفنانين، قال بول غوغان ذات مرة: «تطلعوا دائمًا إلى الفن الآسيوي والفارسي والمصري القديم». صحيح أن هذا القول ظهر في معرض حديث الفنان عن النحت، لكنه ينطبق بشكل صارخ على هذه اللوحة، التي رسمها عام 1892م، أي بعد بداية حياته المهنية بنحو 18 سنة، وقبل وفاته بعشر سنوات.
فقد بدأ غوغان الرسم عام 1874م عندما شاهد معرض الانطباعيين الأول، وسرعان ما انضم إليهم متبنيًا نظرتهم إلى الفن ووظيفته، وشاركهم في خمسة معارض جماعية ما بين عامي 1876 و1886، وارتبط بصداقات وثيقة مع بيسارو وفان جوخ،  لكنه راح يبتعد عنهم بتقنيته الخاصة إلى أن تم تصنيفه في خانة «ما بعد الانطباعية». وبات يُعتبر عن وجه حق فاتح الطريق أمام الفن المعاصر نظرًا للتأثير الكبير الذي كان لأعماله على فنانين كبار من رواد الحداثة في القرن العشرين، بسبب التحرر من واقعية الألوان، والرسم ببعدين وليس ثلاثة أبعاد، والتشديد على أهمية الخط كإطار للمساحات الملوّنة.
واجه غوغان صعوبة كبيرة في انتزاع الاعتراف بأهمية أعماله خلال حياته، ولم يحصل ذلك إلا في السنوات الأخيرة من عمره، عندما تبناه التاجر أمبرواز فولار الذي أقام له عدة معارض، ومعرضين كبيرين بعد وفاته عام 1903م.
في عام 1891م، وبفعل تراكم الديون عليه، سافر غوغان إلى جزر بولينيزيا الفرنسية، حيث بقي متنقلًا بين تاهيتي وجزر الماركيز حتى وفاته، باستثناء عودة واحدة قصيرة إلى باريس.
رسم الفنان هذه اللوحة في السنة التالية لوصوله إلى تاهيتي، حيث انغمس أكثر فأكثر في رسم مشاهد من الحياة اليومية وصور السكان الأصليين، حتى طقوسهم ومعتقداتهم مبتعدًا عن الانطباعيين واهتماماتهم. حمّل غوغان لوحته هذه اسمًا  بولينيزيًا «تا ماتيتي»، الذي ترجمه البعض بـ «لن نذهب إلى السوق اليوم»، في حين اكتفى البعض الآخر بتسميتها «السوق».
من المؤكد أن الفنان لم يرَ أبدًا هذا المشهد المرتب جيدًا:  خمس نساء جالسات في وضع ستاتيكي ساكن، ولا واحدة تكسف الأخرى، وواحدة واقفة تحفظ توازن المشهد... بل رتبه في خياله من مجموعة مشاهدات، تسمح له بخلق مشهد بسيط وغامض، لأن البساطة والغموض هما جوهر الفن البدائي والقديم، الذي كان الفنان من رواد الالتفات إليه. فمنذ اللحظة الأولى لوقوع العين على هذه اللوحة لا بد للمشاهد من أن يربط بينها وبين أسلوب الرسم الفرعوني الذي تكشفت عنه جداريات المقابر القديمة:  رسم الوجه جانبيًا، والكتفين والصدر مواجهةً، ومنح القامات أوضاعًا مستقيمة كأنها تماثيل، سواء كانت واقفة أو جالسة.
وبالتمعن أكثر، فإن أسلوب الفنان في الرسم انطلاقًا من وضع الخط كإطار وتلوين المساحات داخل الأطر بشكل مسطح متخليًا عن الالتزام بالتعبير عن عمق الأحجام، يكشف عن تأثر واضح بأسلوب الرسم في المنمنمات الإسلامية. وإلى ذلك، يضيف البعض وجود صلة بين الطابع العمودي للأشجار في الخلفية وتباعدها عن بعضها البعض، وفن الزخرف في الفن الإندونيسي.
أما هذه الألوان الجريئة، والتي صُنّفت في وقتها على أنها «تجريبية»، فقد مهدّت الطريق لظهور الوحشيين في الفن الحديث وشجعتهم على استخدام أكثر الألوان فجاجة. من جهة أخرى، كان لمنهج غوغان في التعبير عن الأحجام والقولبة أبلغ الأثر على بيكاسو وماتيس والفنان النرويجي إدفارد مونخ، ومدرسة التعبيريين لاحقًا ■