أنشودة فلسطين الخالدة إسماعيل وتمام شموط

أنشودة فلسطين الخالدة إسماعيل وتمام شموط

إسماعيل عبدالقادر شموط وتمام عارف الأكحل... تجربة تشكيلية وطنية كبيرة وحالة بصرية متفردة وعلامة فارقة على خارطة الحركة الفنية العربية، سطر الاثنان ملحمة فلسطينية معاصرة تعتمد على موهبة فنية فذة دامت لأكثر من نصف قرن ويزيد منذ طفولتهما المبكرة، ومثّلا تجربة فنية كبيرة سجلت بأسلوب واقعي أهم الأحداث والملاحم المستوحاة من مخيمات التشرد والضياع والحرمان وقسوة الحياة الاجتماعية البائسة التي يلاقيها شعب طرد من وطنه كما ذكر الفلسطيني عبدالرحمن المزين... إنتاجهما سطر تاريخ أشهر مأساة لشعب سلبت حقوقه وشرد في شتى أصقاع الأرض، واعتبر هذا الإنجاز الوسيلة الوحيدة عوضًا عن انخراطهما في طريق النضال المسلح... أنتجا مئات اللوحات تفيض وعيًا بمآسي شعبهما وآمالهما، وتعبيرًا معمقًا ومؤثرًا، كما كان لهما فضل كبير في إرساء دعائم الفن الفلسطيني المعاصر وإنارة الطريق للأجيال، حيث تركا إرثًا وطنيًا يعرف الأجيال بقضيتهم.

 

هناك شبه إجماع بين من كتبوا عن الفن التشكيلي الفلسطيني على أن هذا الشعب لم يعرف هذا الفن إلا بعد عام 1948 وتحديدًا في الخمسينيات من القرن الماضي، إلا أنه كان هناك تاريخيًا من قبل تجارب شبه فنية على استحياء الفنون الشعبية وفنون تطبيقية تقليدية وحرف فنية يدوية معروفة ومنتشرة، وشجع ذلك على توافد الحجاج والسياح لزيارة معالم فلسطين الدينية والمدنية والإقبال على اقتناء ما يعجبهم من تلك الفنون التقليدية التي عرفت بدقتها وتنوعها، ولم يعرف في تلك الفترة (الانتداب) فنانون تشكيليون اللهم إلا بعض الفنانين الذين شكّلوا البدايات المبكرة في مجال الفن التشكيلي الفلسطيني أمثال الأخوان جمال وعبدالرزاق وخيري بدران وداود زلاطيمو (مواليد القدس 1906) صاحب اللوحة الشهيرة لمسجد الصخرة المشرفة التي رسمها بعد انتقاله إلى (اللد) مدرسًا للرسم والأشغال اليدوية، وبقي فيها من عام (1930 حتى عام 1948) وتعلم منه إسماعيل استعمال القلم الرصاص والحبر الأسود الصيني والألوان المائية والطباشيرية، ومارس إسماعيل بجانب ذلك النحت على حجارة «الحور»، وحصل إسماعيل على تشجيع قش الرسم والأشغال اليدوية في فلسطين خلال فترة الانتداب البريطاني والسيد بومان المدير العام للمدارس وأصابته الدهشة والتعجب بأن هذا الإنتاج لإسماعيل ابن الأربعة عشر عامًا، وبعد يومه الدراسي كان يمارس الرسم ليدر له ربحًا ماديًا من تزيين فساتين العرس بالأزهار والطيور ذات الأسلوب الباروكي باستخدام ألوان زيتية خاصة، وما حققه من دخل غير من نظرة والده ورضاه عن عمل ابنه في الفن وأنه ليس مضيعة للوقت كما اعتقد سابقًا.

إسماعيل شموط (1930-2006)
وُلد إسماعيل عبدالقادر شموط الأكثر فرادة في تاريخ الفن التشكيلي الفلسطيني الحديث في مدينة اللد عام 1930 لأبوين فلسطينيين، أبوه عبدالقادر شموط ووالدته عائشة الحاج ياسين، ولإسماعيل سبعة أشقاء هم: ابراهيم - كوثر- جميل -ميسر - أنغام - جمال وتوفيق... ولإسماعيل ثلاثة أولاد: يزيد وبشار وبلال، ولعائلة متوسطة الحال. عمل والده وأعمامه في تجارة بيع الخضر والفاكهة وعاش طفولته وصباه في مرح وسعادة، واستمتع بجمال الطبيعة في بيئة عامرة بثرائها من بساتين وبيارات الفاكهة والخضراوات والزهور وأشجار الزيتون وحقول القمح والشعير، وتعرف على جماليات الألوان المتعددة وجاذبية دلاجاتها، وتضاريس التربة من حجارة وصخور ومياه وظل كل ذلك راسخًا في ذكرياته.
درس إسماعيل بالمدرسة الحكومية وتعرف على الانتفاضة الفلسطينية ضد السلطة الاستعمارية (1936-1939) وظل في دراسته حتى عام 1946، وفي هذه الفترة ظهرت عليه بوادر الاهتمام بالنشاط الفني رغم تحفظات عائلته المتدنية، وفي تلك الفترة تعلم مبادئ الرسم والتلوين والظل والنور ورسم المناظر الطبيعية ورسم الأشخاص والمواضيع الإنسانية والاجتماعية العامة والطبيعية الصامتة والزخرفة.
وبعد سقوط اللد بثلاثة أيام وفي 13 يوليو 1948 أجبرت القوات العسكرية الصهيونية سكان اللد والرملة على التهجير القسري لعشرات الآلاف من النساء والأطفال والمسنين على الأقدام في شهر رمضان (يوليو) ذي الطقس الحار ولهيب الصيف الحار ومعاناة العطش والجوع في البحث عن رشفة ماء وموت كثير من الأطفال والمسنين ممن أرهقهم مواصلة السير الشاق والعطش، وقد لفظ أخوه الأصغر توفيق أنفاسه الأخيرة بفعل العطش الشديد أثناء هذا النزح ورسم إسماعيل لوحة العطش والنزوح مشيًا باتجاه رام الله... وقد وثّق أسماء هذه المسيرة ومعاناة التعب والعطش والموت وواصلوا النزوح باتجاه غزة واستقر مقامهم هناك في مخيم خان يونس المسيّج بالأسلاك الشائكة، وعمل إسماعيل بائعًا متجولًا (للكعك والمهلبية). وبعد مدة عمل مدرسًا متطوعًا لتعليم الرسم في مدارس اللاجئين ورسم عشرات الرسوم بالقلم الرصاص والألوان المائية والزيتية استوحى موضوعاتها من حياة اللجوء الفلسطينية وصور الخيام والنساء والأطفال وطوابير الحصول على الماء والغذاء بالأسلوب الذي رسم به سابقًا في اللد وتوجيهات أستاذه داود زلاطيمو.
وفي إحدى غرف مدرسة خان يونس الحكومية 1950 استطاع بسعيه الدؤوب وبتشجيع من مدير المدرسة وآخرين أن يقيم معرضًا للوحاته لأول مرة تسجل معاناة مسيرة النزوح، وبيعت لوحته الأولى وساعده ثمنها المتواضع في الانتقال إلى القاهرة لإكمال دراسته والالتحاق بكلية الفنون الجميلة. التحق بالقسم الحر في كلية الفنون الجميلة ليدرس الرسم والتصوير وهناك التقى رواد الفن في القاهرة ودرس مع الفنانين أحمد صبري وبيكار وحسني البناني وغيرهم من كبار الفنانين في ذلك الوقت.
وبعد ثلاث سنوات بالقاهرة عام 1953 نظم معرضًا للوحاته في مدينة غزة شارك فيه شقيقه الأصغر جميل. ويعتبر هذا المعرض الفلسطيني الأول في تاريخ فلسطين الذي لاقى إقبالاً جماهيريًا كبيرًا وأكد الإيمان بأن للفن رسالة إنسانية عظيمة وأن لديه من قدرة هائلة في التأثير على الناس وجدانيًا وعقليًا مؤكدًا الإحساس بمسؤولية الفنان عن إعادة بناء الذات الاجتماعية لشعبه وهويته الوطنية. ومن أبرز لوحات المعرض (إلى أين - جرعة ماء - بداية المأساة).
كان لهذا المعرض أثره في ترسيخ الثقة بالنفس لدى إسماعيل ودعمه في حمل رسالته الفنية التي كرس لها حياته... وعاد إلى القاهرة لاستكمال دراسته والتحضير لمعرضه الكبير (اللاجئ الفلسطيني) في القاهرة 1954، وشاركته في ذلك الوقت زميلته تمام عارف الأكحل، وقد رعى المعرض وافتتحه الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، وسأل إسماعيل وهو يقف متأثرًا أمام لوحتيه (إلى أين، سنعود) اللتين تعكسان مسيرة العذاب والتيه، وبعد رد إسماعيل بالإيجاب (وكما ذكرت تمام الأكحل في مقابلة لها بجريدة الشرق الأوسط) أوعز الرئيس المصري بشراء اللوحتين وإرسالهما إلى مكتب الجامعة العربية في واشنطن، وللأسف لم تصل اللوحتان أبدًا إلى وجهتهما المقدرة، وحظي المعرض بحضور الحاج أمين الحسيني المفتي العام للقدس مؤسس منظمة التحرير الفلسطينية وأول رئيس لها وأحمد الشقيري وعبدالخالق حسونة أمين عام جامعة الدول العربية ورابطة الطلبة الفلسطينيين وفي مقدمتهم طالب الهندسة ياسر عرفات ولاقى المعرض أصداء ونجاحًا كبيرًا على كل الأصعدة.
أثناء دراسته في القاهرة في الفترة من  1950-1954 عاش على دخله من رسم ملصقات الأفلام السينمائية، وحصل على منحة دراسية من الحكومة الإيطالية والتحق بأكاديمية الفنون الجميلة في روما (1954-1956) ليدرس فن التصوير الجداري (الأفرسك)، عندما صارح إسماعيل تمام بمشاعره القلبية وشغفه العاطفي وللتقدم للاقتران منها، لم تتردد في القبول المبدئي، وتأجل البت النهائي في الزواج إلى ما بعد عودته من دراسته التكميلية في إيطاليا، إلا أن خلافات عائلية أدت إلى فسخ الخطوبة، إلا أنه بعد ثلاث سنوات من الفرقة والبعاد تمكن الحبيبان من تجاوز العراقيل والوشايات، لينتصر الحب ويتكلل بالزواج بفضل تدخل أهل الخير والوفاق وفي مقدمتهم شاعرة فلسطين الكبيرة فدوى طوقان التي ألهمت قصة حبهما الشائكة الشاعرة وأنشدت قصيدتها:
كان وهمًا نحن أعطيناه  شكلًا وحياه
ثم رويناه لونا وعبير 
ومنحناه ضياء وظلال
  بعد انتهاء دراسته بالقاهرة وروما، توجه الي بيروت 1956-1965 ليعيش ويعمل بها في مجالات فنية عديدة إلى جانب إنتاجه الفني المستمر، وفي تلك الأوقات من عام 1959 تمكن من أن يتزوج بزميلته الفنانة تمام الأكحل وتشاركوا في العديد من المعارض الخاصة في البلدان العربية والأجنبية في واشنطن و12 مدينة أمريكية ودول أوروبا والكثير من بلدان العالم وصولاً إلى الصين. 
توجهت لوحاتهما إلى اعتبار القضية الفلسطينية محور أفكارهما ومنطلقها التعبيري، واستنهاضًا للطاقة الإبداعية في التعبير عن المآسي والنكبات التي واجهها الشعب العربي الفلسطيني في بيروت أصبح رئيسًا لقسم الثقافة الفنية عام 1965 بدائرة الإعلام والتوجية القومي ثم مديرًا للفنون والتراث بمنظمة التحرير الفلسطينية، وبحكم عمله في المنظمة والمجلس الوطني الفلسطيني مسؤولاً عن الإعلام الموحد في لبنان، وفي الوقت نفسه هو الأمين العام لاتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين المكون حينها من أربعة أفرع هي فرع الكويت - لبنان - سورية - الأرض المحتلة وأصبح له مؤلفات (الفنان الصغير) صدر في بيروت عام 1957، (موجز تاريخ فلسطين المصور) وصدر عن منظمة التحرير الفلسطينية عام 1972 وبلغات كثيرة،(فلسطين...تاريخ وحضارة) عام 1978، (الفن الشعبي الفلسطيني) صدر في بيروت وفي بلدان أخرى، وردًا على كتاب لفنان إسرائيلي (الفن التشكيلي في إسرائيل).
انتخب عام 1971 أمينًا عامًا للاتحاد العام للفنانين التشكيليين العرب ولدورتين متتاليتين، مما أدى إلى توحيد وتنظيم جهد الفنانين وتوسيع دائرة نشاطاتهم.

الاتحاد العام للفنانين التشكيليين العرب 
أسس شموط قسمًا للفنون في منظمة التحرير الفلسطينية، وشغل لسنوات طويلة موقع الأمين العام لاتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين، كان من أهم قرارات (المؤتمر العربي للفنون الجميلة) في دمشق عام 1971 إنشاء اتحاد عام للفنانين التشكيليين العرب وانتخب إسماعيل شموط أول رئيس للاتحاد في بغداد، وكان ضمن قراراته معرض السنتين (كبينالي عربي) وتقديم الدعم والتشجيع للفنانين وتعريف الفنانين التشكيليين العرب بعضهم ببعض، وإزالة حواجز نقل الأعمال الفنية بين الدول وتقديم الفن العربي المعاصر ونشره على الصعيد العالمي وتقرير تشريعات لرعاية الفنان وحماية حقه في التعبير والحياة الكريمة ونشر الثقافة والنقد الفني وإصدار المجلات والدوريات المتخصصة.
اختار إسماعيل شموط الكويت مقرًا للتوجه إليه وأسرته بعد اجتياح الجيش الإسرائيلي بيروت عام 1982، وتفرغ للعمل الفني، وخلال إقامته بالكويت أقام معارض مهمة وبمشاركة قرينته الفنانة تمام الأكحل، آخرها بصالة الفنون في ضاحية عبدالله السالم 1989، وعرض فيه مجموعة من لوحاته المنتجة حديثًا: (الدار والحنون، حارسة النار، حنون على قبر الشهيد، انتظر الفجر، الحب والحصار) وعرضت تمام لوحات: بيتي في يافا، التلحمية، في ظل الانتفاضة.

إقامته بالكويت
استقر في الكويت حيث أقام فيها لسنوات عدة قبل أن يغادرها إثر الغزو العراقي الغاشم حتى العام 1991 وتحرير الكويت وعاشت أسرته فترة احتلال الكويت 1990، حيث استوجب ذلك القيام بالعديد من الفحوصات وعمليات قلب مفتوح واستبدل للشرايين الصمامات، ثم نزحت الأسرة مجددًا إلى ألمانيا سنة 1992، ثم عاود الرحيل منها حيث استقرت الأسرة في العاصمة الأردنية عمان 1994.

جداريات السيرة والمسرة 
عند قيام إسماعيل وتمام بزيارة الأراضي المحتلة وفلسطين عام 1997 زارا خلالها كل أنحاء البلاد وعلى الأخص مسقطي رأسيهما مدينتي اللد ويافا، مما كان له وقع كبير على نفسيتهما وعلى إبداعهما التشكيلي وأثرها على مشاعرهما وتجدد ذكرياتهما، فعقدا العزم للشروع في عمل مجموعة من اللوحات ذات المساحات الكبيرة (165  - 200سم) عرفت بلوحات (الجداريات)، وعرضت لأول مرة بعنوان (السيرة والمسيرة) في المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة، وتسجل اللوحات تاريخ مأساة شعب، وتعكس قضيته الوطنية بنكبتها وأبعادها، وتجدد الذكريات التي عاشها بحلوها ومرها. رسم إسماعيل 11 عملًا هي: الربيع الذي كان، الاقتلاع من اللد والرملة، العطش على طريق التيه، فلسطينيون... لاجئون، بين الكابوس والحلم، من أجل البقاء، إرادة الحياة أقوى، عرس المقاومة، تحية للشهداء، نار الانتفاضة، أحلام الغد. فيما أنجزت تمام 8 لوحات: يافا عروس البحر، ميناء الخير، الحلف الإجرامي، الاقتلاع... من يافا، كالصخر صامدون، الشرخ، لا تتركوا الحصان وحيدًا، التحدي، ولحسن الحظ وثّقت تلك الجداريات (السيرة والمسيرة) في كتاب فاخر 110 صفحات.
وعن جدارية (الربيع الذي كان) يكتب إسماعيل: «في ربيع بلادنا فلسطين كنا ونحن أطفالًا نمرح ونلعب ونطير كالفراشات على سجادة من الطبيعة التي حباها الله بجمال أخاذ، تنساب الجداول بين الحقول وفي السهول القزحية الزاخرة بالزهور متنوعة الأشكال والألوان وعلى فرشة من درجات الأخضر.
 أما عن جدارية العطش... على طريقة التيه والنزح من بلداتهم، فيذكر إسماعيل: في شهر رمضان وجدنا أنفسنا مرغمين على السير وسط جبال وعرة ومحاطين بالمسلحين الصهاينة... وراح الجميع يبحث عن الماء، ومات كثير من الأطفال والمسنين عطشًا وآخرين من الأطفال ضائعين في كل مكان يبحثون عن أقارب لهم.

تمام عارف الأكحل 1935 وأهم مدن فلسطين التاريخية
ولدت عام 1935 في مدينة يافا - فلسطين وهي من أقدم المدن الفلسطينية، وتمام هي الابنة الوسطى لأسرتها المكونة من الوالدين وعشرة أبناء وكان والدها عارف حرفيًا ماهرًا اشتهر بتصليح الأسلحة والآلات الميكانيكية، أحبت تمام الرسم وممارسته وهي لا تزال تلميذة صغيرة في المدرسة ونشأت في بيئة طبيعية غنية في يافا، أجمل موانئ سواحل فلسطين على البحر الأبيض المتوسط سعدت كثيرًا وكاتب المقال أسعده كثيرًا مخاطبة الفنانة تمام عبر الاتصالات الهاتفية حيث تعيش في الأردن والملقبة بزيتونة الفن التشكيلي الفلسطيني وعاشت تمام صور ومشاهد المواسم وفصول السنة وحضرت أعيادًا وأفراحًا... ولم يدر بخلدها أن يحمل شهر يوليو 1948 حصارًا لمدينتها ومن ثم أجبرت العصابات الصهيونية ومنظمات الهاجانا الإرهابية على ترحيلهم تحت وابل من الرصاص إلى بلدتهم يافا ضمن المدن والقرى التي ضيق الخناق عليها، وعلى مدار أسابيع وشهور، ونفد ما لديهم من مال. وحاولت الصبية تمام التي أحبت ممارسة الرسم، أن ترسم البطاقات الصغيرة لتبيعها بقروش قليلة لتساعد على العيش، وأصرّت أسرة تمام على المغادرة كغيرهم من الأهالي ليركبوا البحر في سفن وقوارب باتجاه سورية ولبنان ومصر.
وتشتت الشعب الواحد وانقسمت العائلات ووصلت أسرة تمام إلى لبنان، وقامت تمام بتشجيع من أخيها الأكبر محمود بممارسة الرسم وتعلمت الرسم بالألوان المائية التي صورت فيها مناظر الطبيعة اللبنانية، والتحقت بدورات تعليمية على أيدي فنانين بعضهم أجانب في أوقات الفراغ، وكانت لبنان في ذلك الوقت تعج بحركة فنية وثقافية نشطة، وانتسبت للدراسة في كلية المقاصد الخيرية الإسلامية ببيروت. وفي زيارة للفنان اللبناني الكبير مصطفى فروخ 1951-1957 لكلية المقاصد، وهو من الروّاد المؤسسين للانطباعة اللبنانية وعرف بجرأته وغزارة إنتاجيته وتطبيقاته للقواعد الفنية الأوربية، لفتت موهبة تمام نظره وأوصى بضرورة تقديم الكلية رعايتها لصقل موهبتها، وبالفعل قدمت كلية المقاصد لتمام على بعثة للقاهرة بعد موافقة والدها للدراسة بالمعهد العالي للمعلمات، وقضت في الدراسة الرسم والتصوير وطرق تعليم الفن 1953-1957 ونالت بعدها شهادة بكالوريوس التربية الفنية، وقيض الله لها أن تلتقي إسماعيل شموط ضمن أعضاء رابطة الطلبة الفلسطينية، والتي كان يرأسها طالب الهندسة ياسر عرفات، وفي تلك الأثناء وفي يوم 21/7/1954 تشارك إسماعيل شموط بالمعرض الفني الكبير الذي رعاه وافتتحه الرئيس جمال عبدالناصر، وبالفعل استطاعت لوحاتهما تحريك الوعي الجماهيري وإبراز قضيتهما، وفي العام 1954 تتشارك معه في كل المعارض التي أقيمت لأعمالها في مختلف أنحاء العالم، بدعوة من منظمة الطلبة العرب في أمريكا وكندا.
 وعلى الرغم من مسؤوليتها كزوجة ورئيسة لقسم التراث في منظمة التحرير الفلسطينية منذ عام 1965 نجدها تواصل نشاطها الفني وتنتقل من أسلوب إلى آخر وصورت المعاناة في المخيمات بأسلوب واقعي تعبيري، واستمرت على الأسلوب التعبيري نفسه اللوني في مجموعة لوحاتها عام 1970، أيام سعيدة في فلسطين، من واقع ذكرياتها في يافا التي لا تنسى زغاريد النسوة فرحًا برجوع الحاج أمين الحسيني للبلاد عبر ميناء يافا، وجماليات البيئة المحيطة من ساحل بحرها ومنازلها ومساجدها وكنائسها.

الملامح التراثية في أعمال تمام الأكحل
استطاعت تمام توثيق الموروث الشعبي وبشكل غير مباشر في لوحاتها بما تحتويه من أحاسيس ومشاعر صادقة، وبما يثبت الهوية الفلسطينية ويحافظ على كيان الشعب الفلسطيني وبقاء قضيته حية، على الرغم من الإمعان في سرقه منتجها الثقافي والفني وادّعاء العدو الإسرائيلي ملكيته.
وفي أعمالها التي عرضت بالكويت تجلي استلهامها التراث التطريزي الفلسطيني في عدد من اللوحات بأسلوب قريب من التجريد، ومما هو جدير بالذكر كانت هناك تجارب تظهر في الزخرفة والتطريز على الثياب التقليدية والمحافظة على تلك الوحدات الزخرفية التي ظهرت في المكتشفات الأثرية تعود إلى آلاف السنين، وهذه الزخارف تترابط مع العقائد الكنعانية إلى درجة جعلت هذا الفن (الأزياء الشعبية) عملًا مقدسًا يعكس خصوصية الهوية الفلسطينية. وخلال فترة تواجدها بالكويت قامت تمام بتنظيم عدة دورات تعليمية فنية لنساء وفتيات الكويت، كما عرفت تمام تصوير المعمار وبيوت المدن الفلسطينية بأسلوب مستلهم من روح ومخطوطات التصوير العربي الإسلامي.
كتب الفنان السوري الفلسطيني الأصل عروبي الهوية برهان كركوتلي (الذي درس وعاش في ألمانيا فترات طويلة في حياته)، عن أعمال تمام بمعرضها بالكويت «تميزها بإحياء طريقة الرسم العربي بموسيقاه اللونية الأندلسية، الممتزجة بتراث الواسطي، والتي تتجدد بأسلوب سياسي معاصر في أعمال تمام الأكحل عن الانتفاضة وحكاية مريم العذراء».

 جداريات الملحمة الفلسطينية
عند قيام إسماعيل وتمام بزيارتهما لفلسطين 1997 تجددت ذكرياتهما بحلوها ومرها وشرعا في رسم تلك الجداريات التي رعتها المؤسسة في إطار تطوير متحف الذاكرة الفلسطينية، واختتم هذا المشروع الفني الكبير بمعرض جوال يجسّد قصة وطن وقضية شعب حية أمام عيون الأجيال الجديدة القادمة. يعتبر كثير من النقاد والمحللين في الفن، أن جداريات فلسطين السيرة والمسيرة من أبرز الإنجازات الإبداعية لتمام الأكحل.
قدمت تمام 8 لوحات جدارية بالقياس المتفق عليه 165 200x سم، وعرضت لأول مرة في عمان وأنقرة وإسطنبول والدوحة والشارقة ودبي والقاهرة ودمشق وحلب وفي بيروت، حيث أنشئت فيها قاعة دار الكرامة لاحتضان المعارض الموسمية للفنانين الشباب من اللاجئين ومعارض التضامن العربية والعالمية.
وجاءت لوحات يافا عروس البحر وميناء الخير من أبرز الجداريات الثمانية التي أنجزتها تمام.
جدارية (يافا عروس البحر) أقدم مدن السواحل، سماها الكنعانيون (يافي) بمعنى (الجميلة) وتكتب تمام عنها «كانت شواطئها الرملية المداعبة لأمواج بحرها تمنحنا فرحًا ومتعة لا حدود لها، وفي موسم البرتقال كنت أذوب طربًا بلونه البرتقالي والأخضر وبطقوس قطفه وتعبئته بصناديق وشحنه عبر اللنشات والبواخر، وكان بيتنا أحد بيوت البلدة القديمة التي تمتاز بعراقة وأصالة معمارها».
وفي الجدارية الأخرى (ميناء الخير) حيث مراكب وقوارب الصيد التي لا تتوقف حركتها على أرصفة الميناء وتتداخل صواريها وحبالها، لتشكّل سيمفونية فنية وتجارية بما تحمله من خيرات البر والبحر. 
إن أهمية الفنان إسماعيل لا تكمن في كونه رائدًا للحركة الفنية التشكيلية الفلسطينية وأول من درس للفن في كلية الفنون الجميلة من أجل امتلاك القدرة التقنية التشكيلية، بل لأنه موهبة فلسطينية أصيلة ومن المؤسسين وواضعي اللبنات الأولى لحركة تشكيلية فلسطينية معاصرة بعد نكسة عام 1948 جعلت من الفن رسالة إنسانية عظيمة أثبتت أن لديه القدرة في التأثير على الناس، ومخاطبته للعقل والوجدان بلغة تشكيلية محببة للنفس كانت لها قوة مستنفذة وروح مقاوم يغضب ويثير العدو الغاصب، فعندما اقتحم جنود إسرائيليون مكتب الجامعة العربية في القدس خلال حرب 1967 وقع بصرهم على لوحتي النكبة وربيع فلسطين ففتحوا عليهما نيران مدافعهم الرشاشة! استطاع إسماعيل شموط تجسيد تجربته في أعمال متميزة لها خصائصها، وكان من أهم قناعته التوجه نحو العمل الكفاحي لإعادة بناء الذات بالثقافة والفن.  ويعد إسماعيل المؤسس الحقيقي والفعلي للحركة الفنية التشكيلية الفلسطينية، حيث كرّس حياته الفنية لخدمة القضية الفلسطينية، وارتبط عطاؤه الفني بحياة شعبه ومعاناته والمراحل التي مر بها هذا الوطن السليب، وهذا ما فرض عليه في معالجته الفنية أن يلجأ إلى المدرسة وينحاز للأسلوب الواقعي.
رسخ الزوجان، أو إسماعيل وتمام، دورًا مهمًا، بجعل لوحات الرسم والتصوير التي أنجزها عملًا نضاليًا وطنيًا قوميًا، ويصدق على ذلك الفنان اللبناني المعروف رشيد وهبي الذي قال: إن الفنانين اتخذا من القضية الفلسطينية والكفاح الملح موضوعًا لأعمالهما دون المساس بالإطار والعمق الفني.
عند بلوغه السادسة والسبعين من العمر لم يتحمل قلبه الإجهاد وأعباء التنقلات والتوترات فتوقف عن العمل في أحد مستشفيات كولن الألمانية في الثالث من يوليو عام 2006، وفي ختام تأبين الشاعر الكبير محمود درويش يذكر مقولته الشهيرة عن إسماعيل شموط (يده هي التي ترى وقلبه هو الذي يرسم). 
وفي الثالث من شهر يوليو 2006 حملت لنا الأخبار المحزنة خبر وفاة الفنان الملتزم والمثقف الواعي والإداري الناجح في ألمانيا، حيث كان يتلقى علاجه وخضع لعملية جراحية هناك ■