فيلم « ستموت في العشرين» نبوءة الدجالين وتحدي العاقلين

فيلم « ستموت في العشرين» نبوءة الدجالين وتحدي العاقلين

فيلم «ستموت في العشرين» للمخرج السوداني الشاب أمجد أبو العلا هو الفيلم الروائي الطويل الأول منذ 20 عامًا في البلاد، وقد حقق نجاحًا بارزًا في الساحة السينمائية العربية والعالمية، وتمكن من الفوز بالعديد من الجوائز الدولية والإقليمية أبرزها من مهرجان البندقية السينمائي ومهرجان الجونة المصري.

 

قصة الفيلم مقتبسة من المجموعة القصصية للكاتب حمور زيادة «النوم عند قدَمَيْ الجبل»، وجرى تصويره شمال الخرطوم. الرسالة المباشرة للفيلم هي كيف أن الخرافة قد تسيطر على عقول الناس، فتلغي بذلك عقولهم، وتعطل تفكيرهم، وتجعلهم لقمة سائغة للدجالين والمشعوذين، يصدقون كل ما يصدر عنهم تصديقًا أعمى يغيب فيه الحس النقدي، وتكبح فيه قوى الذهن البشري.

نبوءة العراف والطفل
 تدور أحداث الفيلم حول الطفل مزمل، الذي تأخذه الأم إلى أحد الأولياء الصالحين من أجل مباركته، وهذه عادة منتشرة كثيرًا في المناطق التي تهيمن عليها النزعة الصوفية، ليتنبأ أحد العرافين من تلامذة الشيخ بموت الطفل في العشرين من عمره.  نذير الشؤم هذا أصبح ملازمًا للطفل «مزمل» في كل مكان وزمان، نظرًا للإيمان العميق الذي ترسخ في ذهن أهل البلدة برجال التصوف، حيث أصبح الجميع متيقنًا من صدق النبوءة: رفاقه من الأطفال يلقبونه «ولد الموت»، نساء البلدة عندما يزرن أمّه يلمسن رأسه في حنو: «يا مسكين، تموت صبيًا... الدنيا خربانة»، حتى السيارات التي تمر من البلدة يشير راكبوها إلى أطلال المنازل والبنايات ويردّدون: «هذه قرية مزمل الذي سيموت يوم يكمل عامه العشرين».
آمنت سكينة، أم البطل، بهذا الفأل - الذي نُسب كذبًا إلى الله - كل الإيمان، وأصبحت تحسب الأيام التي تمر من عمر ابنها، وتزور تجمعات الدراويش راغبة منهم في الصفح والغفران والإشفاق على حال ابنها المقدر له أن يغادر الحياة مبكرًا في عز شبابه. كما أنها كانت على أهبة الاستعداد لمواجهة هذا المصير الحزين، حيث كانت ترتدي لباسًا أسود في كل مشاهد الفيلم، تدليلًا على حالة الحداد والاستسلام، حتى لامتها جارتها قائلة «لابسة أسود وابنك لسه في الدنيا؟!»، ثم تجهز الكفن لولدها حينما يقترب من سن الحدث المشؤوم، وهذا مشهد مؤلم ومؤثر جدًا. أي أياد تلك التي تجعل الأم تخيط الكفن لابنها؟! أكثر من ذلك تزور الأم وزوجها المقبرة لتعيين موضع المرقد الأخير لابنهما، حيث يختلفان فيما بينهما في اختيار المكان الأنسب لهذه العاقبة التعيسة!
 يحب البطل مزمل إحدى فتيات البلدة، ويقابلها باستمرار على ضفاف نهر النيل، تنتظر منه القدوم لخطبتها والزواج منها، وترفض النبوءة التي راجت عن وفاته مبكرًا، لكنه يتنصل من هذه المسؤولية ويتهرب من فتاة أحلامه، التي أحبها حبًا شديدًا، نظرًا لترسخ فكرة الموت في وعيه، وتجذرها في شعوره وإحساسه. لقد رفض الزواج من محبوبته لأنه كان متيقنًا من موته حينما يبلغ العشرين، وهذا ما جعله يصدم الفتاة بهذا الخبر، ليعجل بفراقهما وزواجها من شخص آخر.
 بعد ذلك سيتعرف البطل مزمل على المصور سليمان، ذلك الرجل المتحرر، الذي استمتع بحياته وشبابه بالسفر والحب والتصوير والفن واغتنام ملذات الحياة ومباهجها. وهذا ما نستشفه من خلال حواره مع الفتى مزمل: «لو حد قال لي حتموت بعد عشرين سنة أقولهم سيبوني أعيش ملك... وعند عشرين سنة أطلع لهم لساني». 
وقد أراد المخرج في هذا الفيلم أن يجذب المشاهد لهذه المقابلة الثنائية بين نموذجين مختلفين في الحياة: مزمل المؤمن والمتدين والمنصاع لتوجيهات القبيلة، والمتبع لتقاليد البلدة وأعرافها، وسليمان المتمرد، الثائر على كل المعتقدات والأفكار، المبتهج بمباهج الدنيا، المتلذذ بالموسيقى والسينما والثقافة. مزمل كان نموذجًا للشخص التقليدي الذي يحفظ القرآن في الكتاب، ويخضع لتقاليد الأولياء والصالحين، ويصدق بنبوءات الدراويش والشيوخ، بينما سليمان هو نموذج للمثقف الحداثي الذي ينتفض ضد كل الأفكار المنتشرة في بلدته، ويقارع كل الأيديولوجيات السائدة في زمانه، وذلك عن طريق الإيمان بدور العقل والثقافة والفن في الاتقاء من شر الخرافات التي ينشرها الدجالون في القرية.
كان لابد أن يتعارض مبدأ سليمان مع تفكير مزمل، فالأول ثائر والثاني خاضع، الأول يفكر والثاني يقلد. فِي النهاية ينتصر العقل على الخرافة، ويتغير مزمل فيتعلم الحساب، لا بل يذهب إلى أبعد من ذلك، فقد أتم عشرين عامًا ولم يمت، ليختتم الفيلم ومزمّل يجري محاولا اللحاق بموجهه ومنبهه سليمان، بعيدًا عن القرية بترهاتها وحفلات أوليائها المغيبين، وأساطير دراويشها المهرطقين، فيتحرر منها ومنهم أجمعين.

بداية الفيلم
يبدأ الفيلم بلقطة عامة لعقاب يتغذى على جثة جمل في صحراء قاحلة، مع مرور موكب من الناس يلبسون البياض، وهي صورة أولية عن موضوع الموت والفناء، مادامت جميع عناصر اللقطة توحي بالمنية: ثوب الحداد الأبيض - جثة الجمل - العقاب - الصحراء القاحلة - صوت الغربان... إلخ. والصحراء القاحلة، إضافة إلى صوت الرياح وكثبان الرمال، لها ارتباط بمعنى الفناء والموت الذي يهدد حياة البطل حسب رؤيا أحد الصوفيين. فهل يا ترى يستسلم البطل ووالدته لثقل التقاليد وضغط الأعراف؟ أم إنه سيتحدى هذا الأمر ويجابه عقلية مجتمع توجهه مجموعة من الفرق والطرق الصوفية بخرافاتها وبدعها وادعاءاتها؟
 في مقابل ذلك، وإذا كانت الصحراء تمثل الموت والفناء والقهر، فالماء يمثل الحب والحلم والأمل والتفاؤل للبطل، حيث يلتقط المخرج جلوس مزمل بجانب نهر النيل قرب الفتاة التي تقرب منها وأعجب بها وأحبها حبًا عميقًا، لكن هذا الحب انتهى بالفشل بسبب السد المنيع الذي مثلته البدعة التي أطلقها عليه الدراويش، وتصديقه الأعمى لمضمونها. كما أن الرموز الدينية النبيلة تأثرت كذلك برياح البدع والخرافات الصوفية، وهذا ما يظهر في اللقطة التي تصور إمام المسجد وهو يطلب من سكينة أم مزمل إرسال ابنها ليتعلم القرآن والصلاة حتى يكون جاهزا للحظة الفناء. فالإمام - وهو المتعلم القدوة - يسلم ويصدق هنا بتلك النبوءة التي صدرت من رجال الطرق الصوفية في البلدة. أما الأم فلم تر نفعًا في تعلم ابنها ودراسته مادام لن يعمر طويلاً، وهذا دليل على إيمانها الكلي بكل ما ورد على لسان هذه الفرقة الصوفية المتطرفة في أحكامها وتوقعاتها.
 ألعاب الأطفال أيضًا لها ارتباط بالموت والفناء في الفيلم، حيث استغل المتعلمون الذين يدرسون في كتاب القرية غياب شيخهم، ليسخروا من مزمل ويلعبوا بجسده لعبة تشبه عملية التكفين والدفن، حيث قاموا بتقييده وحصره وسط كفن أبيض، ثم وضعوه في صندوق مظلم، وأغلقوا الصندوق عليه بالمفتاح. فبطلنا الصغير لا يستطيع أن يعيش حياته الطبيعية المستقرة، بسبب النظرة الدونية للأصدقاء: الاحتقار - السخرية - التبخيس... إلخ، ولكونه طفلاً ولد بنذير شؤم لوالديه، ولأنه لن يعيش أكثر من عشرين سنة. هذا الاحتقار نجده بوضوح في لقطة اقتراب البطل من النهر، وعدم قدرته على السباحة والاستحمام، بسبب سخرية الأولاد منه لقدره المشؤوم، الذي حكم عليه بالفناء مبكرًا، والرحيل سريعًا عن دنيا الوجود.
 اضطر والد مزمل أمام هذا الوضع الحزين إلى مغادرة القرية للعمل بعيدًا، فور علمه بنبأ المتصوفين، مفضلاً الغياب عن الأنظار بدل حضور هذا الواقع المأساوي لموت ابنه في تلك السن المبكرة. ورغم رحيله إلا أنه كان حريصًا على إرسال المال وإعالة أسرته، وكان يراسل زوجته باستمرار يسألها عن ابنه. أما سكينة المسكينة، أم البطل، وأمام هذا المصير المؤلم فإنها تضطر إلى ارتداء الثياب السوداء حدادًا على ابنها في حياته، وتعيش طويلًا في الفيلم متشحة بثياب الحداد، وهي تعد الأيام في انتظار اليوم المنتظر. وذلك لأنها كانت مستسلمة لتكهنات العرافين وتخمين رجال التصوف، وهذا ما برر عودتها إليهم من جديد، طالبة الرجاء والبركة ليتدخلوا للوساطة من أجل إطالة عمر ابنها، المقدر له أن يموت في العشرين. لكن مزمل كان يقابل هذه الزيارة بالتردد والتعجب والنفور، خاصة حينما أحس بشذوذهم ورغبتهم في استغلاله جسديًا بعد أن أعجب شيخهم بجسده الجميل وقوامه المثير.

مشهد رمزي
 في هذا الصدد نلتقي مشهدًا رمزيًا بليغًا اختاره المخرج بدقة وبراعة، حيث ركزت الكاميرا على جسد البطل مزمل وهو نائم قرب أمه، لابسًا عباءة بيضاء، بينما تواصل الأم ارتداء ثوبها الأسود. إنه مشهد جنائزي يحيل إلى الموت والفناء والتأبين، الأم بسواد الحداد والحزن، وابنها ببياض التكفين والرحيل. وهذا إنما يدل على تأثير الأعراف والتقاليد على وعيهما وفكرهما، كونهما استسلما بسهولة لحتمية المصير المشؤوم الذي ينتظرهما مستقبلًا (الولد = الموت / الأم = الحزن والتعاسة). 
يعكس الفيلم كذلك هيمنة الطابع الخرافي في الدين، والتصديق الأعمى للناس بكل ما يتلى عليهم من رجال الطرق الصوفية، من دون أي نقد أو تمحيص أو شك، وهذا راجع إلى تأثير الدراويش الذين سيطروا على مخيلة جميع أفراد البلدة. فالفيلم هو صراع وتقابل بين واقع الخرافة وثقل التقاليد والعادات البالية، وحلم الحياة والحرية والرغبة في تحدي هذه القوالب الجامدة التي تعيق التطور والتقدم، وتجعل الفكر حبيس التسليم والإقرار والإيمان الشامل بكل الادعاءات الدينية، دون وعي أو تحليل أو تمييز.

فوبيا السباحة
 ومن مظاهر هذا الضعف القيمي والفكري - الذي جعل البطل حبيس الارتياع والتوجس والذعر أمام هول الوهم والخرافة - أنه كان يخشى السباحة في النهر، رغم كبره في السن. وهذا ما يظهر لنا في المشهد الذي يجلس فيه البطل رفقة حبيبته قرب النيل، حيث دعته للسباحة فرفض رفضًا قاطعًا احتراسًا من الغرق والموت. وهذا تلميح نبيه من المخرج إلى ذلك القيد اللاشعوري الذي يكبل روح البطل، إنه الإحساس بالفناء وقرب الآجال، وهذا نتاج ما صنعته الثقافة في وعيه وفكره، ثقافة الأولياء والصالحين وما تعج به من خرافات وبدع متوارثة وأعراف وتقاليد بالية.
وإذا كانت الصحراء ومشاهدها في الفيلم تدل على الفناء والموت والنهاية، فإن الماء له دلالة على الحب والخصب والعشق والحياة، وهذا ما يظهر جليًا في لقاءات البطل مزمل المنتظمة مع حبيبته على ضفة نهر النيل، بنبعه الصاخب وجريانه الدائم، إيحاء بهذا التقارب العاطفي والانجذاب الروحي الذي جمع بين قلبين عاشقين، تحول العادات البالية دون اندماجهما، وتعيق التقاليد السلبية عملية انصهارهما. غير أن الأم رفضت هذه العلاقة، ظنًا منها أن مصير ابنها محتوم، مقدر بالرحيل والموت. ويظهر هذا جليًا في حوارها مع الفتاة، ودعوتها إلى الزواج بشخص آخر غير ابنها: «الله يرزقك ابن الحلال». 
ويصور المخرج، في لقطة فنية بارعة، لقاء البطل بحبيبته في غرفة مظلمة وقاتمة، لا يطل فيها النور إلا من فتحة ضيقة. وهذه إحالة فنية عميقة، تكشف عن طبيعة العلاقة العاطفية المتوترة في هذه اللحظة، بعد أن أخبرت الفتاة حبيبها بأن أحد الشبان تقدم إلى خطبتها، وأنها تنتظر تصرفه، وفتحه الموضوع مع الأسرة. فكان رد مزمل ردًا سلبيًا محبطًا، مستسلمًا لطبيعة القدر المحتوم: «أنا ما عندي بكرة!! حبسا روحك معي ليه؟». مؤكدًا بهذه العبارة خضوعه لمنطق التصوف والعرفان، وتصديقه خبر الخرافة والبهتان. غير أن الشعاع المنبعث في الغرفة يرمز إلى مستقبل الأمل والحلم، الحياة والحب الذي يتحدى هذا الحاضر المأزوم بثقل البدع والأساطير.
هذه الطقوس الصوفية بابتهالاتها وقرابينها وبدعها وتجمعاتها كانت دافعا مساهما في جذب الأم إلى هذا المحفل الروحاني، رغبة في التطهير والتعويض والغفران. فأمل الأسرة في مد عمر ابنها، متروك لهؤلاء الأولياء وأضرحتهم التي تعج بهذه الشعائر المليئة بالخرافات والأعراف الرجعية. المخرج هنا ينتقد بوضوح ظاهرة استحواذ الخرافة على وعي الأسرة، وسيطرتها على ثقافة البلدة وتقاليد سكانها.
 أما لقاء مزمل مع والده، بعد عودة هذا الأخير إلى بلدته، فقد كان لقاء باردًا وشاحبًا وساكنًا مثل حال الفضاء الصحراوي الصامت... لا كلمات ننصت إليها، ولا حوار ثنائيًا بين الطرفين نستمع إليه، فقط العيون والملامح تؤدي دورها للتعبير عن حالة الجفاف العاطفي للابن، بسبب غياب أبيه هذه المدة الطويلة، بينما لا يزال الأب حزينًا متأثرًا بوقع السهم الذي نخر روحه، نبوءة وفاة ابنه في العشرين، واقتراب أجله بعد أن صار مراهقًا مقبلًا على هذا الحدث.
 من مظاهر التخلف والانسياق وراء الخرافة والبدعة كذلك أن والدي مزمل كانا يجهزان مراسم الدفن والتأبين قبل وفاة الابن، تسليمًا منهما بالصدق، الذي لا يقبل المناقشة والشك بنبوءة الشيخ الصوفي الذي أخبرهما بموت ابنهما في سن العشرين. فاشتريا، بسبب ذلك، بعض الأعشاب والمساحيق التي توضع على الميت، واتجها معًا إلى المقبرة لاختيار موضع القبر والدفن. 
وينتقد المخرج هذا الواقع السلبي على لسان سليمان الذي جاء لزيارة صديقه مزمل - المستعد ليوم رحيله والواثق من حقيقة فنائه بعد متم العشرين - فأخبره بضرورة توظيف العقل والفكر، بدل تصديق كل ما يقال ويشاع عن هؤلاء المضللين، منتقدًا كل هذه الخرافات الباطلة، ومستغربًا من السبب الذي يجعل البطل مستسلمًا لهذا البلاغ المشؤوم، العاري عن المنطق والصحة والحقيقة.

بين الثقافة العتيقة والحداثية
 يمثل مزمل في الفيلم الثقافة المحافظة والتقليدية العتيقة: حفظ القرآن - عائلة محافظة - الإيمان بالتقاليد والأعراف - الخضوع لنصائح وتوجيهات الأولياء والمتصوفين ورجال الدين... إلخ، بينما يمثل سليمان الثقافة العصرية الحداثية التي تؤمن بالقيم الليبرالية :الحرية - الموسيقى - السينما - السفر - ملذات الحياة (الخمر والنساء)...إلخ. اهتم المخرج بالتركيز على هذه العلاقة التعارضية، فخلق بينهما جسرًا للتواصل والحوار والاهتمام المتبادل: الحضور الدائم لمزمل في جلسات السينما والموسيقى عند سليمان/ حضور سليمان في مناسبة ختم مزمل للقرآن الكريم في أحد الكتاتيب العتيقة، ولو من بعيد عن طريق المراقبة والمشاهدة والاستماع.
 هكذا، يتعرف مزمل على عالم جديد من خلال الأفلام التي كان يعرضها عليه صديقه سليمان، حيث يطلع بطلنا - عن طريق فن السينما - على دنيا جديدة، وأماكن أخرى، وأناس مختلفين، لم يكن يدري بهم. إنه مفترق بارز سينقل بطلنا من عالم الوهم والبدع، الضلال والظلام، التصديق والتسليم إلى واقع مليء بالحب والحلم، الخيال والسعادة، التفاؤل والتساؤل، فقد تعرف مزمل - عن طريق أشرطة الفيديو - على مجموعة من الحواضر والأماكن التي زارها سليمان في شبابه سواء في السودان أو خارجه. لتمثل الصورة بذلك جسرًا لمعرفة العالم وإظهار معالمه ورموزه للجمهور، وكشف خباياه وأسراره للعلن.
تزوجت الفتاة نعيمة بعد تقاعس حبيبها مزمل، وتركت الهم والحزن والأسى تسيطر على بطلنا. وحينما اتجه يشتكي إلى صديقه سليمان من أجل أن يشاركه فجيعته ويخفف من معاناته، أنّبه ووبّخه وطرده من منزله قائلاً: «أنت كلك ميت». والموت هنا له دلالة على عاطفته التي انطفأت، وحلمه الذي توقف، وحبه الذي تقاعس عنه، ورغباته التي انبلجت، بسبب تصديقه الخرافات وتسليمه بالخزعبلات وإيمانه بالمغالطات.
 طرد سليمان لمزمل كان له وقع سلبي على هذا الأخير الذي فر في اتجاه النهر من أجل أن يلقي نفسه، ويحول هذا الموت الروحي إلى موت وجودي، كانتقام من نفسه المتقاعسة، وثأر من ضميره الخاضع. وأثناء تواجده قرب النهر ليشكو مصيبته ويفرج كربه صادف البطل الدراويش وشيخهم يمرون بضفاف الوادي، فعاد إلى منزله ليخبر أمه بأنه رأى هؤلاء الزهاد، وأنه بلغ سن العشرين ولم تتحقق نبوءتهم، فردت عليه الأم المستسلمة برداء الحداد الأسود «يمكن حسبتهم غلط... يمكن جاتنا البشارة والعفو»، فما كان من مزمل إلا أن غادر البيت وأغلق الباب، وهذا إيحاء فني بليغ من المخرج، يخبرنا فيه بانتهاء زمن الخرافة، وخروج البطل من غمامة الباطل، ودهمة الوهم، ودجنة الضلال، متحديًا بذلك الأسطورة التي حولت حياته إلى جحيم طوال هذه السنين.
 في النهاية، وبعد أن يستيقظ البطل من حلم مرعب رأى فيه طقوس الدفن ومراسم التأبين ونُواح النساء، يكتشف أن سليمان صديقه غادر البلدة، وترك له الآلة السينمائية التي كانت تمتعه بأفلام عديدة. إنها إشارة فنية عميقة توحي بانتقال البطل من حالة اليأس والاستسلام والقنوط والهمّ، جراء شيوع الإشاعة، إلى حالة التفاؤل والحلم والاستبشار والسعادة، بعد التخلص من ثقل الخرافة ليعانق الحياة من جديد، ويحضن العالم الذي فتح المجال أمامه لتغيير الرؤى وتصحيح الأفكار. وهذا ما جعله يخرج مسرعًا ليلحق بالشاحنة التي كان يركب فيها صديقه سليمان أثناء رحيله عن البلدة، وكأن المخرج يريد أن يقول لنا، في هذا المشهد الختامي، بأن مزمل يحاول تقديم كلمات الشكر والامتنان لصديقه سليمان، عرفانًا بالنصائح والتوجيهات والحكم التي كان يتلقاها منه، والتي فتحت عينه أخيرًا، وأضاءت سبيله لهجر عالم الخرافة، واتقاء حياة البدعة والهرطقة.

المستوى الفني للفيلم
إذا انتقلنا إلى المستوى الفني في الفيلم، نجد أن المخرج وظّف موسيقى تصويرية حزينة وصامتة، جاءت مواكبة للحظة البؤس والحزن عقب سماع نبأ الوفاة. وقد استعان الموسيقيّ الفرنسي - التونسي أمين بوحامة - المكلف بإنجاز الموسيقى التصويرية للفيلم - بآلة تشرانغاو اللاتينية للتعبير عن مشاهد الصمت والسكون والتأمل والحزن التي توحي بها الصحراء السودانية القاحلة، وبخاصة أنها تشبه الصحاري اللاتينية في أمريكا الجنوبية. كما نجد حضور بعض الأغاني الشعبية السودانية والألحان العربية الطربية التي تدعو إلى الحلم والحياة والحرية، خاصة في منزل سليمان الذي يتحدى تقاليد قبيلته، ويرفض كل العادات البالية هناك.
 أما فيما يخص الإنارة، فإنها جاءت مزدوجة في الفيلم: خافتة وضعيفة في منزل الأسرة، حيث يعم الحزن، والصمت، والانتظار الشاق، والترقب الطويل، والتوقع المستمر للمستقبل المشؤوم القادم لا محالة إلى الابن الوحيد مزمل، الهالك بحكم سيد العارفين، والفاني بتقدير شيخ المتصوفين. بينما تسود الإنارة القوية والساطعة منزل سليمان صديق البطل المقبل على الحياة ومباهجها، السعيد بجوها وجاذبية فضائها وسحر مواطنها (حب السفر)، المستمتع بلحظاتها وملذاتها (الخمر، النساء)، المستنير برقي ثقافتها وجمال إبداعها (السينما - القراءة - الموسيقى... إلخ). 
أما بالنسبة للأزياء السينمائية، فقد كان لباس البطل - منذ البداية - عبارة عن عباءة بيضاء ناصعة، وكأنه مكسو بكفن الموت، إيحاء بموضوع الفيلم، ونبوءة الدراويش التي حكمت عليه بالمنون منذ ميلاده. إضافة إلى ذلك، ارتدت الأم ثوبًا أسود في جميع مشاهد الفيلم (من بدايته إلى نهايته) ترميزًا لحالة الغمّ والحداد التي سادت منزل البطل منذ ميلاده. كيف لا وهو نذير الشؤم الذي ولد بمستقبل محدود وعمر محدد؟ كيف لا، وأجله أعلن وأعلم به منذ يومه الأول في الدنيا؟ كيف لا وهو الطفل الذي سيلقى مصرعه في سن مبكرة، قبل بلوغ مرحلة الشباب؟
ختامًا، يمكننا التأكيد على أن فيلم: «ستموت في العشرين»، هو أحد أبرز الأعمال السينمائية السودانية والعربية التي عالجت قضية الصراع بين العلم والخرافة، العقل والبدعة، الحق والباطل.
ولا عجب أن يتمكن المخرج السوداني أمجد أبو العلا من ترسيخ مكانته الإبداعية، كأحد المخرجين الصاعدين بقوة في سماء السينما العربية، والدليل على ذلك ترشح فيلمه المميز هذا (إنتاج 2019) لجائزة الأوسكار، وحصوله على العديد من الجوائز المرموقة: جائزة أسد المستقبل في مهرجان البندقية السينمائي الدولي، جائزة نجمة الجونة الذهبية لمسابقة الأفلام الروائية الطويلة، جائزة التانيت الذهبي في مهرجان أيام قرطاج السينمائية... إلخ ■