جمال المجوهرات البدوية يفتح نافذة على التاريخ

جمال المجوهرات البدوية  يفتح نافذة على التاريخ

منذ العصور القديمة، كان الناس يزيّنون أجسادهم بطرق مختلفة، إن بالوشم أو بالرسم، وفي بعض أنحاء العالم، بواسطة إحداث ندوب بأجسادهم، كما تضمنت الحلي الخاصة برجل ما قبل التاريخ، مجوهرات مصنوعة من الخنافس الميتة وقشور البيض والبذور والعظام والأسنان والمخالب والأنياب والخشب وبعد ذلك الزجاج أيضًا.  كما كانت الأحجار في تلك العصور تستخدم في بعض أنواع الحلي، حيث كان يتم ثقبها بعد تنعيمها وقبل صقلها إما من جانب أو جانبين متقابلين ومن ثم يتم تنظيمها على خيوط تصنع إما من ألياف النباتات أو شعر بعض الحيوانات.  

 

وساهمت اكتشافات المعادن النادرة مثل الذهب والفضة والنحاس في ظهور المجوهرات والحلي كما نعرفها اليوم.  ومع تطور الثقافات ونشوء الإمبراطوريات واضمحلالها تغيرت أشكال المجوهرات وطرق استخدامها وتأثيراتها في الحياة الثقافية للمجتمعات المختلفة.  ومما لا شك فيه أن هناك منذ عصر الأساطير ارتباطًا وثيقًا بين الثقافة العربية والمجوهرات بمختلف أشكالها لاسيما المجوهرات البدوية التي تميزت بخصائصها الفريدة وجمالها، والتي يمكن من خلال بريقها الجميل فتح نافذة تاريخية تطل على حياة البدو في مختلف البلدان العربية وتاريخهم وثقافتهم المميزة.

مجوهرات البدو 
رغم أن المجوهرات البدوية العربية القديمة تعتبر من أجمل وأقدم أشكال الفن الزخرفي في التاريخ، إلا أنها تمثل تحديات كبيرة للبحث عن تاريخها.  ولطالما تم تهميش الزينة الشخصية، إجمالًا، في دراسة الثقافات القديمة لأنها  تمثل صعوبات جمة، مقارنة بالأبحاث المتعلقة بالعمارة الأثرية والأعمال الفنية.  فعادة ما كانت المجوهرات والحلي، لسهولة حملها، تنقل لمسافات بعيدة لا سيما في أوقات الأزمات، فتبتعد مع حامليها إلى أماكن بعيدة عن موقع سكنهم الأصلي، وغالبًا ما كانت تضيع مع فنائهم هم شخصيًا.  وهناك صعوبة أخرى حيث إن المجوهرات البدوية نادرًا ما تكون قديمة، على عكس المجوهرات الغربية التي تنتقل عبر الأجيال كذكرى عائلية ثمينة.  ففي الغالب تكون مجوهرات المرأة البدوية مهرها الخاص فكان من العادة أن يتم صهر تلك المجوهرات بعد وفاتها، إذ من غير المقبول أن يُقدم المهر نفسه لعروس جديدة مهما كانت صلة القرابة معها.  من جهة أخرى، نظرًا لأن المجوهرات كانت تمثل الثروة الشخصية للمرأة البدوية كانت لها حرية التصرف بها متى شاءت، لذلك كانت تعمد إلى بيعها في أوقات الحاجة ومن ثم كانت تلقى  المصير نفسه في التلف والصهر من أجل إعادة صياغتها بواسطة صائغ المجوهرات.

 مجوهرات تاريخية 
على الرغم من ذلك، معظم قطع المجوهرات الجديدة كانت تصاغ بالأسلوب التقليدي نفسه، لذلك استمرت الأنماط نفسها في الظهور، وفي بعض الحالات كان يعود بعضها إلى ستة آلاف سنة مضت.  وهكذا، حافظت المجوهرات البدوية على صفاتها الجمالية الفريدة، كما بقيت، من خلال دمجها أساليب وتقنيات حضارات اندثرت منذ زمن، لتفتح نافذة على التاريخ وتفاعل الحضارات وثقافات الشعوب المختلفة.
تقول الكاتبة الأميركية مارجوري رانسوم  في كتابها «كنوز الفضة من أرض سبأ: المجوهرات اليمنية»، إنه على عكس المجوهرات التي كانت تعود إلى سيدات البيئة الحضرية التي كانت في الغالب مصنوعة من الذهب والأحجار الكريمة، كانت المجوهرات البدوية عمومًا مصنوعة من الفضة والأحجار شبه الكريمة.  وهي في العادة تتخذ شكل الأساور والخلاخيل ذات الأصوات الرنانة وحلي الرقبة والصدر المؤلفة من حلقات مطابقة للرقبة أو ملتفة مع مشبك، وقد تتألف من خمس إلى سبع  سلاسل من القلائد المتدلية على شكل هلال في نهايتها نقود معدنية، والأقراط التي لها شكل دائري مع نماذج الدموع والكرات في قسمها السفلي والمنتهية بقطع نقدية متدلية، والشّكَل (وهي الحلي الصغيرة التي تعلقها النساء البدويات في شعورهن) والأوشحة المزينة بعملات قديمة مثبتة على الحواف والأحزمة التي تتطلب الكثير من الفضة لصنعها، وهي بالتالي لم تكن تصنع بكثرة،  فضلًا عن حقائب مزخرفة وقناني عطر مرصعة ومكاحل كان يوضع فيها الكحل العربي وغيرها.  والمجوهرات البدوية قديمة جدًا، حتى إن هناك اعتقادًا بأن بعضها قد يحتوي على كميات من الفضة والمعادن الأخرى من أحد مناجم الملك سليمان الأسطورية.  والدليل على ذلك أن علماء الجيولوجيا الأميركيين، أبرزهم رالف جيه روبرتس من مكتب المسح الجيولوجي الأمريكي الذي قام بعدد من الدراسات المتعلقة بالجيولوجيا ورواسب الخامات في منطقة «مهد الذهب» شمال غرب المملكة العربية السعودية، هؤلاء العلماء  يشيرون  إلى أن تلك المنطقة كانت موقعًا لمناجم الملك سليمان الأسطورية - ويرجع ذلك جزئيًا إلى اسم الموقع نفسه - «مهد الذهب» - وإلى تأكيد التأريخ الكربوني للمخلفات والفضلات الناتجة عن معالجة الخام، على أنها تعود إلى
ما لا يقل عن ثلاثة آلاف عام.   ونظرًا لأن معظم المعادن المستخدمة في المجوهرات قبل القرن الثامن عشر جاء من التعدين المحلي في شبه الجزيرة العربية - وبما أنه يتم استخدام المعدن نفسه مرارًا وتكرارًا في المجوهرات البدوية - فمن الممكن أن تحتوي الحلي الموجودة اليوم على نسبة معينة، ولو قليلة، من الفضة والمعادن الأساسية التي تم العثور عليها في تلك المناجم الأسطورية القديمة.

المجوهرات وتمازج الحضارات
إذا تابعنا مع قصة المجوهرات البدوية نرى أنها تروي لنا أيضًا قصصًا عن تمازج الحضارات بين شعوب تفصل بينها حواجز زمانية ومكانية هائلة.  فهناك اعتقاد بأن معظم التصميمات البدوية ربما يعود إلى مدينة أور القديمة جنوب العراق، المشهورة في العصور القديمة بالذهب والفضة المستخرجة من تلال كردستان والحرفيين الماهرين الذين كانوا يعملون فيها.  وهناك مصدر آخر وهو بلاد فارس التي كانت ترسل المجوهرات ذات التصاميم المميزة على طول طرق القوافل إلى الملكات نفرتيتي وكليوباترا وزنوبيا في ذلك الوقت، مما أثر - بلا شك - على البدو الذين كانوا يتعاملون مع تلك القوافل ويتبادلون التجارة معها.  ولم تكن روما، رغم بعد المسافات بينها وبين العالم العربي، بعيدة عن تأثيرها عن الثقافة البدوية العربية، بحيث تظهر تماثيل نصفية جنائزية وجدت في تدمر بسورية منذ القرن الأول الميلادي تشابهًا مع ما كان يرتديه الرومان أيام حكم يوليوس قيصر وما كان يرتديه البدو وقتها.
ومن التفاصيل التاريخية الأخرى أن بعض المجوهرات التي وجدت عند شعوب الهنود الأميركيين والمكسيكيين، لا سيما في طريقة استخدامها لحجر الفيروز، تشبه إلى حد كبير المجوهرات الخاصة ببدو شبه الجزيرة العربية.   تقول الدراسات التاريخية إن الإسلام أدخل المجوهرات البدوية إلى إسبانيا في وقت ما خلال الحكم الإسلامي الذي استمر ثمانمائة عام، وأن الغزاة الإسبان قاموا بعد ذلك بنقلها، ضمن أشياء أخرى، إلى المكسيك وأمريكا الوسطى والمناطق الجنوبية الغربية من الولايات المتحدة.  وقد وجدت بعض المجوهرات المصنوعة من الفضة المكسيكية والهندية المتطابقة تمامًا مع المجوهرات البدوية، وذلك على الرغم من أن الهنود لم يستخرجوا الفضة أبدًا ولم تكن هناك مجوهرات من الفيروز والفضة الأصلية إلا بعد قدوم الإسبان.  من ناحية أخرى هناك العديد من المجوهرات القديمة التي عثر عليها في بلدان شبه الجزيرة العربية تظهر فيها أن حبة الخرز، والتي تشبه الصولجان التي كانت توضع في آخر العقد لتثبيته، مطابقة للخرز الذي كان الإغريق يستخدمونه في القرن الرابع قبل الميلاد إن كان من حيث الشكل أو من حيث الموقع. وتظهر مثل هذه الخرزة، التي أعيد إنتاجها بأمانة في المجوهرات البدوية الفضية، أنه ربما تم نقل النمط بطريقة ما إلى الخليج العربي.  والدليل على ذلك أنه منذ ما يقرب من ألفي عام عندما كانت جنوب الجزيرة العربية تُعرف باسم شبه الجزيرة العربية «السعيدة» أو «المباركة»، وهو الاسم الذي استخدمه الجغرافيون اليونانيون والرومان من بعدهم في تسمية الجزء الأكبر من شبه الجزيرة العربية، كانت الثروات  التي تمر بطول الطريق التجاري تشمل بلا شك المجوهرات الأجنبية  التي تضم، على الأرجح، مثل تلك الحبة على شكل صولجان. فضلًا عن ذلك، تتميز القلائد البدوية العربية التقليدية بخرز متعدد الألوان وفضي مدبب بأحجام غير منتظمة - وهو صدى آخر لخصائص المجوهرات القديمة التي وجدت في حضارات أخرى.  ولما أصبحت شبه الجزيرة العربية في وقت لاحق من التاريخ معزولة نسبيًا عن العالم تكررت الأنماط القديمة في مثل هذه الحرف اليدوية، وتم الحفاظ عليها بأمانة لعدة قرون.

المجوهرات البدوية وأهميتها الثقافية  
مما لا شك فيه أن العديد من التصاميم البدوية وظيفية لكن معظمها له أيضًا معانٍ رمزية.  في الواقع، يقول بعض جامعي المجوهرات إن كل قطعة من المجوهرات لها دلالات روحانية وأنها تتعلق ببعض التعبيرات الدينية أو المعتقدات القديمة، مثل الاعتقاد الذي كان سائدًا ما قبل التاريخ بأن جميع الأشياء والنباتات والحجارة مسكونة بالأرواح. ففي العادات العربية البدوية يُعتقد أن لون بعض الأحجار يؤثر أيضًا على قوتها بحيث يُعتبر أن الأخضر والأزرق والأحمر تمتلك قدرات وقائية، ولهذا السبب يعتبر الفيروز والعقيق والمرجان والزجاج الملون من بين المواد الأكثر شيوعًا المستخدمة في المجوهرات البدوية. فتقليديًا، يُعتقد أن الفيروز، على وجه الخصوص، يمكنه درء «العين الشريرة» وهناك معتقدات شعبية تقول بأن حجر الفيروز يتوهج عندما يكون مرتديه سعيدًا ويصبح باهتًا عندما يكون مرتديه حزينًا.  وهناك أسطورة شائعة أخرى، وهي أن الأجراس الرنانة الصغيرة البارزة على العديد من قطع المجوهرات العربية يمكنها أن تحمي مرتديها عن طريق تخويف الأرواح الحاقدة بأصواتها، بالإضافة إلى التمائم مثل «يد فاطمة» التي تمثل البركات والقوة و«العين المضخمة» باللون الأزرق للوقاية من الحسد والحجابات المثلثة التي تحتوي على الأدعية لدرء سوء الحظ والمرض والموت.
وتكمن جاذبية المجوهرات البدوية بالنسبة للعديد من الأشخاص، في أنها صدى لأسلوب حياة يحتضر، أسلوب الحياة البدوية الذي بدأ بالاختفاء شيئًا فشيئًا في زحمة حياتنا المعاصرة مع كل رموزه الجميلة من الخيم المكسوة بالسدو المطرز الجميل إلى النيران التي كانت تضيء عتمة الليل والأشخاص الذين كانوا يجلسون متحلقين تحت النجوم على المجالس العربية التقليدية وأصوات رنين مجوهرات النساء البدويات التي كانت تقتحم سكون الصحراء.  لكن مع نفحة من الأمل لا بد أن يبقى جمال تلك المجوهرات يجد صداه في تصاميم المجوهرات الحديثة ربما لأنه كما قال أحدهم إنه:  «في الشرق تأبى العادات والتقاليد أن تموت» ■