سلفادور دالي أنا والسوريالية.. (الاعترافات السريّة لسلفادور دالي)

سلفادور دالي أنا والسوريالية.. (الاعترافات السريّة لسلفادور دالي)
        

          الكتاب الصادر عن مجلة دبي الثقافية (الإصدار 38 يوليو 2010) بعنوان «أنا والسوريالية»، وبعنوان داخلي «الاعترافات السرية لسلفادور دالي» قام بتقديمه أندريه بارنيود، وقام بترجمته إلى العربية الشاعر والباحث أشرف أبواليزيد، وهو صاحب إصدارات شعرية كثيرة، وروائي، وناقد تشكيلي، فضلاً عن اهتمامه بأدب السيرة وأدب الرحلة من خلال ما ينشره في مجلة «العربي» التي يعمل فيها، وله سابقة في الترجمة من خلال ترجمته للقصائد الكاملة للشاعرة اليونانية سافو، ونشرها في مجلة «الشعراء» في رام الله (فلسطين).

          الترجمة التي بين يدينا لذكريات ووقائع وبعض نصوص السوريالي الأعظم في الرسم الحديث «سلفادور دالي»، هي ترجمة رائعة وموصلة للفكرة، وتضع قارئ العربية في مجرى حياة خصبة عاصفة ومثيرة لحدود الفضيحة، وغرائبيّة مؤسسة على الصدمة من خلال تفجير وعرض القوّة الهذيانية (البارانويا) لهذا الرسّام النادر، الذي اقترنت سلوكياته وعاداته، كما اقترنت رسومه وأخباره، بجاذب دعائي وشهرة جعلت منه في يوم من الأيام أحد ملوك الإثارة والهذيان وكسب المال، في العالم.

          على الرغم من مرور أحد عشر عامًا على وفاة دالي، بالسكتة القلبية في العام 1989م، فإن اسمه، على الأرجح، مازال قادرًا على إحداث رجّة كهربائية في بحيرة الفن الحديث، ذلك لاتصال هذا الفن بينابيع الهذيان والغرابة كمصدرين للسلوك والفن معًا، إذ أنه  عاش على امتداد عمره الذي بلغ خمسة وثمانين عامًا (هو المولود في العام 1904م في منطقة قطالونيا في أسبانيا، والمتنقّل بين أسبانيا وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية). في هذيان منساب في أعلى نوباته، لذلك فإنه في مشكلاته وحواراته مع جماعة السورياليين في باريس، ومع عرّابهم الماركسي أندريه بريثون، كان يسحب البساط بقوة من تحت أقدامهم، ويدّعي أنه ليس من جماعة السورياليين أو تنظيمهم وأيديولوجيتهم العفنة (بتعبيره) بل هو السوريالية عينها، لا باعتبارها مؤدلجة (شيوعية) أو تتبع تقنيات من الكتابة الآلية واللاوعي (الفرويدي) بل باعتبارها البارانويا النقدية والهذيان القطالوني العظيم الذي انصبّ في جسد دالي وشاربيه المعقوفين كقرني الكركدن، وفي أصابعه العجيبة راسمة الهذيان وصانعة الذهب.

مَن هو مؤلف الكتاب؟

          يلوح أن الكتاب هو، على ما جاء في الصفحة الأولى منه، اعترافات سرية أملاها دالي «على مدى عشرين عامًا، على صديقه الصحفي أندريه بارنيود. ليصبح بعد صدوره، السيرة الذاتية للفنان». والأرجح أن المسألة تجميع أخبار وأحاديث وبعض نصوص لدالي، إذ لا يُعقل أن يولي هذا الفنان المشغول بغرائبه وعجائبه، على امتداد عشرين عامًا، اهتمامًا لسرد سيره الذاتية على هذا الصحفي. فالكتاب صدر بعد موت دالي بمدة ليست بالقصيرة، وهو عرضة لكل الأشراك.

          ومع ذلك، ومع كل التحفظات اللازمة في هذه المناسبة، نرى دالي يتذكّر ويقول: «عشت موتي قبل حياتي»، ثم ما يلبث سارد أو راوي سيرة دالي الذاتية، بارنيود، أن يوسّع من نطاق مرويّاته وملاحظاته، فيذكر في المقدمة التي كتبها للكتاب، أنه حاول تتبع العلامات الرئيسية وآثار فكر دالي من خلال «كتاباته ومذكراته وشهادات المقرّبين إليه، وأصدقائه، والمقابلات والمحادثات المسجّلة على الأشرطة، والأبحاث، وتم الاستعانة بكل تقنيات التحليل لعرض آراء دالي في سياقها الصحيح وفي إطارها المرجعي». فالمسألة إذن، ليست سردًا لاعترافات أدلى بها دالي للصحفي بارنيود على مدى هذه المدة الطويلة، بل هي أوسع وأبعد شأوًا، إنها محاولة شاملة ومتنوّعة لتسجيل سيرة دالي وصيرورته وتنقلاته ومعاركه وآرائه وآراء الآخرين فيه، من يوم ميلاده وطفولته ليوم مماته. إنه كتاب من كتب السيرة الشاملة للفنان الأكثر تنوّعًا وغرابة في تاريخ الرسم الحديث.. بل لعلّه رصد مرحلي متنوّع لخط البيان الهذياني للفنان، حيث نجد أنفسنا أمام أكثر من دالي واحد، فهو على رأي بارنيود «كلّا من نعم. إنه التناقض مجسّدًا والتحدي مشخصًا، فعندما يستعمل (أنا) فهي لا تعني فقط دالي الذي يتكلّم، ولكن أحد (الدالات) المحتملة من بين آلاف الآخرين المتجسدين فيه».

          هو صاحب مائة وجه بل أكثر، وليست الصورة التقليدية له، بشاربين يشبهان شوكة الطعام، وغالبًا ما يرمز بهما إلى قرني الكركدنّ الذي كان يمثل له طاقة ذكوريّة هائلة، يرفعهما لأعلى، حينًا، وحينًا يجعلهما مشجبًا لوردتين صناعيتين، وبعينيه الشبيهتين بالعيون الزجاجية، لأنهما تظهران دائمًا بحدقتين متسعتين تبهران كوميض بلّورة سحريّة، وبجسد نحيل يطارد الأوهام كأنه دون كيشوت الذي طالما أعجب به دالي ورسم له اسكتشات متنوّعة، مستبدلاً بالريشة السيف الخشبي في رائعة ثربانتس.

          ليست هذه الصورة البهلوانية هي وحدها التي تختصر دالي، ولكنه أيضًا صاحب الهذيان الساطع (ما كان يسميه البارانويا النقديّة)، وعاشق «جالا» ومخلّدها في رسومه وسلوكه، صديق غارسيا لوركا، وشريك بونويل في فيلم «الكلب الأندلسي»، الفيلم الذي لا يحتمل من شدّة تزاوج السادية والمازوشيّة، حيث لم يستطع الممثل الرئيسي فيه الاحتمال «فانتحر»، دالي رسّام الزرافات المحترقة، والساعات الممطوطة، والصحراء التي تسبح في رمالها كائنات كان قد وهبها الحياة بشطحات ريشته، وكل هذا وسواه هو جزء من «دالي» الذي يجتهد الكاتب في تقديم ملامح منه، وذلك من حيث إن الشخص يفيض عن الإطار، وأن دالي أكثر غنىً وتشعبًا من نماذج سيرته المعروضة في الكتاب.

ما هو كتاب «سلفادور دالي»؟

          الكتاب شاسع مكتظ بالمعلومات والأوصاف والتفاصيل، بل هو كناية عن سير متتابعة يسردها سارد واحد من مصادر كثيرة، وهو بهذا المعنى، ليس كتابًا مدرسيًا منظّم التبويب، بل يظهر فيه خلط سيَري يرجّح أن المؤلف استفاده من دالي نفسه. ودالي يعي بعمق موهبته المَرَضية الاستثنائية، وقوّة شخصيّته الخارقة. وكما هي لوحاته المنطلقة من ناحية الصدمة والهذيان (وهي السوريالية على ما يراها دالي)، كذلك مراحل حياته، من ولادته حتى موته بالسكتة القلبية وهو مشغول بمسألة الخلود من خلال أخلاط دينية وكيميائية، فكّر بها الرجل، مستعينًا بما ينقل عن عدم فساد أجساد بعض القدّيسين، وبالزيت الذي يرشّح منها. وتراه من صغره يمارس الحياة من خلال الموت. فهو يروي عن الصبي (سلفادور فيليب خاسنتو دالي)، المختصر بدالي، في بلدته القطالونية شمالي أسبانيا، أنه كان يمر كل صباح في الطريق إلى المدرسة، بمدافن فيجويراس، مسقط رأسه، حيث يرى اسمه منقوشًا فوق شاهد أحد القبور. فأخوه الذي وُلد قبله ورحل صغيرًا قبل ثلاث سنوات من مولد دالي، في العام 1904م، قد دُفن هناك، وأصرّ والده الذي تعلّق بالصبي الراحل، على أن يسمّي الوليد الجديد بالاسم نفسه.. هكذا، كما يروي دالي، كان يمرّ في كل صباح، وهو في الطريق إلى المدرسة، على قبره. من هذه المفارقة، تبدأ ذكريات الفنان وتبدأ أحواله الفنية بالتشكّل. لا يفوته أن ثمة فنانًا عبقريًا آخر، سبقه لمثل هذه المفارقة هو الرسّام الهولندي فنسنت فان جوخ، فقد مات أخوه صغيرًا، وكان اسمه «فنسنت»، فشاء والده أن يطلق الاسم نفسه على الوليد الجديد.

          يدّعي دالي أنه يتذكّر حياته داخل الرحم.. ثم يستعيد ذكريات الخامسة من عمره، فلا يمكن له أن يكون طفلاً كأي طفل آخر. إنه عدواني، بارانويي بالتكوين. بل لعله يشدّ بالبارانويا التي تختصره إلى قطالونيا التي وُلد فيها، إنه وبيكاسو على مايرى، وليدا البرانويا القطالونيّة.

          في الخامسة من عمره، خدَش عامدًا خدّ عنزته الأملس، بدبّوس، بسبب أنّ خدها أحمر ناعم، وكتب اسمه بالدم على وجه الحيوان البائس. وفي صغره مارس العنف الخالص والمجّاني (الأذى) ضد أخته وصديقه.. العنف نفسه سيمارسه حين يكبر، وهو في الخمسين من عمره، ضدّ كسيح أعمى صادفه في الشارع، فقام بدفعه بكامل قوته في الجهة المقابلة من الشارع، ووقف يتأمّل بلذة، ما سببه له من ألم وأذى. يقول: «أهوى أن أحطّم جماجم الطيور الصغيرة بين أسناني، أن أهرس عظامها كي أمصّ النخاع..»، وقد كتب قصيدة للموت يقول فيها: «أيها الموت/ألوهيّتي الجميلة/أنت التقيت الكاهن الأكبر/أنت التقيت الصنو وخدمتني/لذلك أعبدك/ نحن نعمل معًا كي نشكّل معادلاً للأشياء المطلقة/وفي كل يومٍ أغدو الملاك الأوّل لدار الفناء».

          بارانويا الموت، الذي كان أول ما أحسّ به دالي وحرّك غرائزه وسلوكه، يعود إلى حبّ أبيه العجيب لصبي مات، ولفترة طويلة كان هذا الحب ينتقل إليه كما ينتقل الألم بالمطرقة إلى مسمار، بكلمة كان لطرفها حدّة الخنجر الذي يشرّح القلب. هل دالي العبقري وليد طفولاته؟ يقول إنه أخضع جبروت أبيه بالخيال، كان يصنع ما يريد ويرى ما يريد وهو مفتوح العينين، وحتى البصمة المالية للأب الذي كان كاتب عدل (فيجويراس)، ظهرت آثارها في ما يشبه غريزة حب دالي للذهب. كان يعبد الذهب بعد «جالا». وفي أعماله المتنوعة المتسمة بالهياج، بالخفّة والعنف، كان طائشًا بالذهب الذي أغدقته عليه أمريكا، كان يرى فيه الجمال ذا الهلوسات، روح الكون، وعاش بارانويا مالية مثلما عاش بارانويا سلوكية وبارانويا فنية. وفي البارانويا الفنية، لم يكن دالي واحدًا، لقد كان رسامًا ونحّاتًا ومصوّرًا ومصممًا ومخرجًا سينمائيًا.. وكان سلوكه الشخصي والاجتماعي والفني واحدًا. إنه الهذيان الموصول: من العكاز الذي لازمه واعتبره رمز السلطة، إلى الشاربين المعقوفين إلى أعلى رمز الرجولة، إلى اختطافه «جالا» من ذراعي بول إيلوار، ودمجها بشخصه حتى أنه كان أحيانًا يوقّع لوحاته باسمها «جالا دالي»، إلى معارضه ذات الصور المبتكرة الغريبة، ذات السطوة والوقاحة، إلى علاقاته المتنوعة بأبرز أسماء عصره والأعلام من شعراء ونقّاد ورسامين ونحاتين وسينمائيين ومفكرين وممثلين وسيدات مجتمع ومصممي أزياء وأصحاب دور عرض وتجار لوحات.. إلخ. لقد خاض في أوربا الكهلة من أسبانيا إلى فرنسا وإيطاليا، ثم انتقل إلى العالم الجديد (أمريكا)، وتنقّل بين هنا وهناك، وكانت دائمًا تسبقه شهرته وغرائبيته التي جذبت إليه الإعلام، فاستسلم دالي له استسلامًا خاصًا. كان يحبّ غارسيالوركا الذي قتلته الحرب الأهلية في أسبانيا، ولم يُعرف مكان لقبره، وأثّر موته في دالي كما أثّر موت عشرات الأصدقاء في تلك الحرب، ما دفعه للهروب من أسبانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وكان أوّل من تعرّف به من رسامي عصره، مواطنه القطالوني بيكاسو الذي كان أكبر منه سنًا وأسبق تجربة. قصده في باريس قائلاً له: أردت أن أزورك قبل أن أزور متحف اللوفر. وقد أخذ على بيكاسو وعلى جماعة السورياليين بزعامة بابا السوريالية أندريه بريتون عدم اهتمامهم بالفن الكلاسيكي، لقد انحاز دالي للفن الكلاسيكي مثلما انحاز بيكاسو للفن الإفريقي. وكانت له مجادلات عنيفة مع جماعة السورياليين من شعراء وكتاب ورسامين في باريس، مثل بريتون وأراجون وإيليوار، وكان يأخذ عليهم اعتناقهم للشيوعية، في حين أنه كان منحازًا إلى نيتشه، وإلى هتلر والنازيّة. والسورياليون أسسوا إبداعهم على نظرية «فرويد» في اللاوعي، والأحلام، فقصد دالي مباشرة إلى الاتصال بفرويد في لندن، قدمّه له صديقه الروائي ستيفان زفايغ، وحاوره في نظريته، وعرض عليه بعض رسومه التي أعجب بها فرويد. وكان حيث يحلّ دالي تحلّ معه الإثارة، لكن أغرب ما في هذا الفنان، هو علاقته بحبيبته وزوجته «جالا» التي اقترن اسمها باسمه على امتداد مراحل حياته، حتى الموت، وما بعد الموت أيضًا.

دالي وجالا

          تندرج علاقة سلفادور دالي بجالا في إطار هذياني لا مثيل له حتى في علاقات الحب المجنون، وتملأ صفحات حياته ورسومه، إنها أصل الكينونة والبارانويا الإبداعية المكوّنة لأسطورة هذا الفنان. كانت جالا« معجزة حياته»، كما يقول، ومن الغرابة أنه ذات يوم، فكّر في قتلها والتهامها. هي كانت دعته إلى ذلك. إنها فنتازيا مخيّلة مختلّة. لم تكن «جالا» إشباعًا شهوانيًا له فحسب، من حيث إنه «يفكّر بأحشائه» كما يقول، ولكنها كانت هي هو بترتيبات عجيبة.

          كما يحب ويكره ويشطح. رسمها بقرون الكركدن، وصوّر نفسه في مركز الزلازل لحبّه جالا، واعتبرها حقيقته وبديله وصورته، وهي تهدئه حين يصاب بالهلع، وأفضل ما قيل فيها هو ما كتبه دالي نفسه، يقول:

          «انحنيتُ على جالا، جسدها مجرّة ممتدة بموجات البرق، تجرفها ثورة لرغبة وتشملني بالتوتّر والانتصاب والارتعاش، يتمّ نقلي إلى النجوم في حالة حضور. لكن هذا شيء أكثر من مجرّد أثر مادي، نسيج حياة.. الخطوط، الأشكال، التألّق، الابتسام، هو حضور الموجود في قوته وفي تفرّده ووحدته وبهائه. هنا أمامي، فهي تجبرني أنها موجودة وأنها تنتظرني، تناديني، تستقبلني. هذا ليس مجرّد تبادل للطاقات، أو لتحسّس البشرة التي تنتج تصريفًا من الكهرباء والبيولوجيا، وليس مجرد ذكاءين يحاول كل منهما فهم الآخر، لكنها كرة ناريّة تنفجر في سماء مجهولة، قوتان تتوحدان لتخلقا جزءًا من اللانهائي، شرارة تمتدّ في الكون بكل أبعاده، شيء فريد يسمو على حياتنا ويبرر كل شيء، هي أنا، كلية العالم. «جالا» هي نفسها وكل النساء والكون أيضًا ورغباتها في أن تعضّ جسدي. استنشاقي، جَذْبي والرقيّ بي. وفجأة تتغذّى على معظم مادتي الحميميّة، وأشد حقائقي العميقة. نحن متلاحمان في الزمان والمكان، لنصبح الحقيقة المنفردة، نحن أعظم أمل للعالم. كل الرجال يعيشون داخلي، وكل النساء معي في جالا، العالم مكتمل وجديد ومطلق».

          كتاب «أنا والسوريالية» لسلفادور دالي وعنه، كتاب يصيب قارئه بالعدوى. عدوى البارانويا الإبداعية والهذيان المفتون بذاته.
----------------------------------
* شاعر من لبنان

 

 

 

ترجمة: أشرف أبواليزيد