عروس فرغانة!

عروس فرغانة!

أول إطلالتي على عالم الكتاب، إذ قرأته في مَيعةِ الصّبا، ولم أغادر الخمسة عشر عامًا بعد!  وقد أغراني فيه ورقهُ الصقيل وإخراجه الجميل، رغم صدوره قبل ما يزيد على نصف قرن!
حكاية هذا الكتاب طريفة وتروى بحق، إذ وجدته قد شكّل ملهاة لقِطٍّ في حيّنا الشعبي، جعل يقلب أوراقه أمامي كأنه يدعوني لقراءته، فجذبني مطرقًا لهاجسه وألوانه، منتحيًا جانبًا أقلبه وكأنه وجبة حلوى ساقها قدري.
كنت آنذاك في الحلقة المتوسطة من الدراسة، أُجدِّف للوصول إلى فهم ما أقرأ...  وكنت كذلك أول متعلم في أسرتي، وبذا ساقَ لي قَدري رواية (عروس فرغانة).
لوّنت هذه الرواية ذاكرتي برحيق الرومانسية وعبقها، إذ دارت أحداثها على أطلال الأندلس الوارفة ما بين بطليها: عبدالرحمن وسلمى، مما وهَّجَ الذاكرة رغمَ طَراوتها!  وجعل عنصر الشباب يشرئب برأسه متطلعًا لحياةٍ ناعِمَةٍ رغيدة تقوم على الحب والرومانسية.
إن الذي وقف وراء هذا الجهد الروائي الناشط لهو مهندس ذو معمار سرديّ متميز، إذ استند بروايته التاريخية إلى مرجعيتين أساسيتين لا بد من توفرهما لهذا اللون من الإبداع وهما: المرجعية الواقعية والمرجعية التخيلية، مما جعل بناءه الروائي سلسًا شامخًا جاذبًا يجعل القارئ يسَّوَّح في أروقته وعرصاته دونما عناء!
استطاع كاتبنا النجم جورجي زيدان توظيف الخيال الأدبي في روايته هاته، كسائر رواياته التاريخية الأخرى، بتقنية عالية دارت فيها الأحداث موظفةً بفنية تركت بصمتها على تلافيف الذاكرة حتى استقرت في القلب!  لقد علّمنا هذا العمل كيف نحبُّ وكيف نطرب للحب من فوق الأطلال الدارسة والأمجاد الناعسة، فاستطاع المؤلف بذلك توريثنا تراثًا فنيًا جميلًا يسرد وقائع تاريخية تترى، تجلبُ بانوراميتها بأحداث واقعية ارتدت أسمال الخيال التي لعبت هي الأخرى دورًا موازيًا جعل منها حقائق يضجُّ بها الخيال وتتغنى بها الذاكرة.
لقد استطاع زيدان استضافة التاريخ كضيف على السردِ، جاعلًا منه مزيجًا رائعًا استولى على الذاكرة المحبة لهذا اللون، مخترقًا بذلك حجبَ الخيال، واصلًا إلى ذروة ما تبحث عنه الذاكرة المتطلعة لواقع أجمل يحتل ذهنية مترعة بالنزوع لعهد التجليات في الزمن الجميل!
لقد تمتع زيدان بحسّ خاصّ جعلهُ يقتربُ من الأذهان التي تبحث عن المتعة وتلبية أسئلة الفرح الزاهي؛ فرحٌ يخطُّ لنا إبداعًا متميزًا يقرّبنا من الهوس المجاني، ناحيًا نحو العالمية عبر تجليات الزمكنة عند هذه القامة المبدعة في نحو عشرين رواية لبّت طموح ووجدان الشخصية العربية ويقينها الذهبي ... فمن: (غادة كربلاء) إلى (شجرة الدر) إلى (عذراء قريش) إلى (عروس فرغانة) إلى (فتاة القيروان) إلى (فتاة غسان) إلى (أرمانوسة المصرية) إلى (العباسة أخت الرشيد)... عرائس وأيقونات تعود بنا إلى ذاكرة المتأرجح بين ماضٍ كنا نُحسَدُ عليه ومستقبلٍ قادمٍ طموحٍ ما زلنا نحلمُ بمجيئه متوارين بزمن الأمجاد ■