التخييل والعوالم الممكنة في رواية «كيميا»

التخييل والعوالم الممكنة  في رواية «كيميا»

تتجلى أهمية الكتابة السردية الروائية عند الكاتب وليد علاء الدين في كونها تنهل من التاريخ تارة، ومن الواقع والحياة وتجاربها المتعددة تارة أخرى.  فكل كتاباته، سواء كانت سردية أو شعرية أو فكرية نقدية، تذهب في هذا الاتجاه، فمن خلالها يحاول وليد علاء الدين إعادة الحياة للأشياء والأفكار والمواقف ومحاولة التجديد فيها باستخدام أسلوب أدبي شائق وجميل.

 

نظرًا لأن الكتابة السردية الروائية لا يمكنها أن تتحقق في الواقع إلا إذا اعتمدت على التخييل باعتباره استراتيجية إبداعية لجلب المتلقي نحو عوالم متعددة وممكنة التحقق في الواقع، فإن الكاتب المبدع وليد علاء الدين يذهب في اتجاه تبني هذه الاستراتيجية في أغلب كتاباته الأدبية لأنه يدرك أهمية التخييل في تقديم المعرفة للمتلقي وخلق نوع من الوعي بالواقع وتفاصيل الحياة لديه، مما يدفعه إلى تبني مواقف جديدة وإعادة النظر في كل ما يفكر به، وبخاصة إذا كانت هذه المواقف لا تسعفه في الحياة السعيدة أو في خلق نوع من التعايش والسلام الداخلي والخارجي معًا. فوليد علاء الدين يدرك أن للكتابة دورًا كبيرًا في رسم معالم إعادة التفكير وممارسة الحياة وخلق مناخ من النقد الاجتماعي وتكريسه لدى الجميع دون استثناء.

إنصاف فئات اجتماعية
يحاول وليد علاء الدين باعتباره أديبًا وإعلاميًا، أن ينصف فئات اجتماعية سواء في وطنه مصر، من خلال وقوفه على حالات اجتماعية ومناقشته قضايا سياسية واجتماعية ودينية لها من الأهمية بمكان داخل المجتمع المصري، ومن خلال أيضًا وقوفه على أهم الحالات التي قرأ عنها في الكتب التاريخية أو في الكتب الحديثة والمعاصرة التي اهتمت بالجماعات البشرية في العالم العربي والإسلامي. ومن هنا نجده ينطلق في روايته الجميلة «كيميا» من قناعته الأساس المرتبطة بإيمانه بحقوق المرأة والدفاع عنها وقدرتها على التغيير والمساهمة في إنماء مجتمعها والتعبير عن نفسها ووجودها الإنساني.

1 - التخييل والعوالم الممكنة في رواية «كيميا»
إن الفعل التواصلي بين مرسِل ومرسَل إليه يتم عن طريق ما يسميه العالم الفرنسي سبيربر إنتاج مؤشرات ينبغي حلها والوصول إلى تفكيكها لغويًا، حيث إنها تعكس القدرة الميتا- تمثلية للكائنات البشرية، وهذه الشفرات قد تكون لغوية أو غير لغوية، غير أن ما يميز اللغة هو أنها مؤشر غني يسمح لمستعملها بوضع إمكانات متعددة في التواصل، وهذا ما يمنح اللغة إمكانات الاستعمالات العادية أو المجازية. ومن هنا، فالتخييل لا يقوم على اللغة بل على السياق التواصلي، ويرتبط بالعوالم والكيانات التي يخلقها المبدع.
ارتبط مفهوم التخييل الأدبي، في نظر سعيد جبار، بما أتت به التداولية التي لم تغفل جانب التخييل، حيث يعتبر «تجليًا من تجليات التواصل الإنساني. وحاول التداوليون أن يجدوا لخطاب التخييل أرضية تداولية لمقاربته، وتعرف حقائقه وأهدافه، والنتائج التي يحققها على مستوى التطور المعرفي لفعل التواصل». فالتداولية، حسب الباحث دائمًا، تهتم بالجانب الاستدلالي في التخييل، لأنه يعتبر المبدأ الأساسي الذي يميز الخطاب الجاد الصادق عن الخطاب التخييلي، وتؤكد من خلاله على لا كينونة الكيانات التخييلية، فوجودها يرتبط بالضرورة بتمثيلاتها التي تتجلى عبر الملفوظات.  فهذه الخصائص لا تجعل خطاب التخييل يفقد خاصيته المعرفية التواصلية، باعتبارها خاصية تتمظهر من خلال المقومات السياقية والاستلزامات الخطابية التي يعيد المتلقي بناءها من أجل الوصول إلى الدلالة التي يهدف إلى  تحقيقها المرسل أو المتكلم.

التخييل بالرواية خطاب واقعي
إن التخييل في الرواية لا يمكن وصفه بكونه خطابًا زائفًا أو كاذبًا أو محرفًا، بل إنه خطاب يلجأ إلى الواقع لكنه لا يقدمه كما هو بصوره وحقائقه، لكنه يحاول إفراغه من دلالاته المرجعية الحقيقية وملئه بدلالات أخرى مختلفة توافق السياق الخطابي التخييلي.  وتكون هذه الدلالة الجديدة متجاوزة بالضرورة للأحداث الواقعية والحقيقية من أجل استدعاء أحداث متخيلة تتخلل الأولى تدعيمًا لها، أو توضيحًا أو تفسيرًا لبعضها، ولا يمكن استحضار هذه الأحداث المتخيلة إلا لغاية التأثير في المتلقي وتوجيه فكره وتأويله وفهمه نحو فهم آخر مقصود، ونحو اتجاهات معرفية أخرى.  فالنص الروائي يمثل، من حيث كونه نصًا أدبيًا متخيلًا، في عمومه الصور التي تعكس الواقع بتفاصيله وتجلياته، حيث يقوم بتمثيل مكونات الواقع الاجتماعي الذي يعتبر في النهاية ثمرات ممتزجة للعناصر الثقافية والاجتماعية والسياسية والتاريخية والفكرية دون حصول الانفصال أو الانقطاع فيها.  فأي فعل يروم استبعاد هذه المكونات يؤثر على الإبداع الروائي سلبيًا ويمنعه من تحقيق مصداقيته الأدبية فيفقد الرواية دورها الحقيقي، والمتمثل في نقل الواقع بحذافيره لكن مع تدعيمه بعنصر التخييل ليتعارض مع التاريخ ووقائعه المضبوطة.
يحاول الروائي وليد علاء الدين في روايته «كيميا» أن ينتج تخييلًا يبحث في أغلب الأحيان عن ماضٍ وتاريخٍ معين، وذلك من خلال استحضاره للوقائع التاريخية التي قرأ عنها في كتب التاريخ، أو وصلته بالتواتر والحكي، فالتخييل في الرواية ناتج عن فكر الروائي نفسه، وعما تختزنه ذاكرته الشخصية، وعما يدركه فكريًا وثقافيًا، لذلك يصعب على الناقد أن يحدد إطارًا عامًا لهذا التخييل وعلاقته بالواقع في الرواية، لكنه قد يضع مسافة معينة بينهما من خلال ما يدركه بدوره من معارف تاريخية ويفهمه الفهم الصحيح.  فآن روبول تحدد هذه العلاقة بين الواقع والتخييل في ثلاثة أمور هي:  الاتحاد، التقاطع والمفارقة، حيث تعتبر أن كل تخييل يمكن له أن يكون أقل أو أكثر واقعية، كما أن أمر تحديد واقعية الأحداث وحقيقتها في نظرها يلزم المرء البحث في المستندات والوثائق، في المقابل يبقى تأويلها طريقًا سالكًا إلى التخييل.
يظهر من القراءة المتأنية لرواية «كيميا» أنها تمدنا بمجموعة من الأحداث والوقائع التي ترتبط بالواقع سواء تعلق الأمر بأزمنتها أم بشخصياتها أم بفضاءاتها المتعددة، فمن السهل أن ندرك واقعية هذه الأحداث ونربطها بالواقع الذي كان سائدًا في زمن جلال الدين الرومي، ونحدد إطارها الاجتماعي الخاص الذي يستدعيه الروائي وليد علاء الدين، خاصة إذا ما انتقلنا إلى الأمكنة والفضاءات المستحضرة في الرواية، لكننا لن نعثر على كل هذا حقيقة وفي الواقع، لأن الروائي لن يجازف بالتصريح بشخصياته المعاصرة وبأسمائهم الحقيقية مما دفعه إلى استحضار أسماء تاريخية مثل جلال الدين الرومي  وشمس التبريزي...، أو يبادر إلى التعبير عن الأحداث بحذافيرها كأنه يؤلف كتابًا في التاريخ لا غير، بل إنه كان يهدف إلى كتابة رواية تخييلية على مستوى الأحداث والشخصيات على الأقل.
يمكننا القول إن قراءة الرواية معرضة للتأويل وللتدخل في الأحداث والوقائع وتحويرها، بل إلى تغيير الأسماء التي قد تثير بعض المشاكل في حالة الكتابة عنها أو تقديمها على حقيقتها.  ومادامت الرواية هي قراءة في كتاب قديم، أو بالأحرى قراءة في سيرة الأجداد والقدامى، فإنه يصعب علينا تحديد تجليات الواقعية والتخييلية في النص، لأن النسق السردي المتبع في الرواية لا يضمن خصائص كل نوع على حدة.  فالروائي في روايته لا يقدم للقارئ أحداثًا يحاول من خلالها كسر الواقع وتمويهه أو حتى تزييفه بطريقة أو بأخرى، بل يعمل على تقديم أحداث ووقائع قد تحاول تأسيس الواقع من خلاله أو تشابهه، لكن من منظور متخيل يصعب نسخه فيما بعد، أو حتى اعتباره نسخة طبق الأصل منه.
لقد قام الاستدلال في الرواية على النص التاريخي والديني، (ولعل قائمة المصادر والمراجع التي ألحق بها روايته في الكتاب:  الصفحة من 230 أكبر دليل على ما نقول هنا) كاستراتيجية دفاعية عن أطروحة فكرية وجمالية رغب الروائي في تمثيلها بالنص.  من خلال محاولته التأكيد على الوقائع والأحداث المسرودة، والتأكيد على أن الأدب ومن خلاله الرواية مصدر مهم في التوعية الفكرية ونقد أطروحة أخرى، حيث الاستناد في ذلك إلى حجج استقرائية مبنية على وقائع وأحداث روائية تهدف من وراء ذلك إلى فهم الواقع ومحاولة تجاوز سلبياته وتبني إيجابياته عبر أساليب المواجهة والوعي بها. يقول السارد: «تخيلْ شعور رجل يسافر نحو عشرين ساعة بين البر والبحر، يخرج من قلب الخليج العربي في الرابعة فجرًا ليصل إلى وجهته وسط جبال الأناضول مع نهاية الليل، لتكون تلك هديته.  ليست الأحلام غريبة عليّ، فأنا أحد الحالمين الكبار، أو قل أحد الموعودين؛ تجنبًا لاستخدام كلمة «المصابين»، بالأحلام الصافية».

الفتاة (كيميا) المظلومة
تمثل الفتاة «كيميا» بالنسبة لوليد علاء الدين المرأة المظلومة باسم الدين والشهرة التي عرفتها تاريخيًا، حيث يقف على الظلم الذي لحقها جراء حرمانها من حبيبها «علاء الدين» وتزويجها عنوة بصاحب «جلال الدين» «شمس» الذي تشبث بها، لكنها عوقبت بعد موتها أيضًا من أن يكون لها قبر إلى جانب «جلال الدين الرومي»، حيث اكتشف السارد ذلك بعد زيارته قونية وبحثه عن قبرها فلم يجده، ولما استفسر عن الأمر قالوا له إنها لم تكن لديها قيمة حتى يتم دفنها إلى جانب مولانا وعائلته المقربة.  إن أطروحة كون «كيميا» مثالًا للظلم والتحقير هي بالفعل مسألة تستحق النظر والتفكير خاصة أننا نقرأ عن هذه الشخصية، كما يقرأ السارد والروائي، أنها كانت شخصية مهمة ومثيرة للجدل، لكن النهاية التي آلت إليها كانت غير سارة وغير عادلة، بل إنها تعرضت لتشويه السمعة واتهامها بأنها أحبتْ شمسًا وتزوجته طائعة، في حين يصرح علاء الدين بأنها أحبته هو وهامت به عشقًا وظُلمت في حياتها، يقول السارد: «خشيتُ أن أقول له إن كيميا، في بركة الصور التي غرقنا فيها، هي فتاة هامت حبًا بشمس التبريزي، الذي كان - رغم تجاوزه الستين من عمره بسنوات - فاتنًا تنسدل جدائله السوداء على وجهه، وتلمع في سوادها عيناه المشعتان ببريق أخاذ لم تملكْ أمامه سوى أن تتمناه!  هكذا قالت شافاق يا صديقي.  وقالت مفروي إن كيميا هي من طلبت يدَ شمس لنفسها من جلال، لأنها رأتْ فيه الطريق إلى الله!».
يستغرق الروائي في وصف الفضاءات والاستدلال على قدمها وثباتها وصمودها في الزمن، كأنها تعبر عن أحداث ووقائع تحصل في الزمن المعاصر فيبررها من منطلقه الخاص الذي يعود إلى ثقافته ووعيه بالواقع والحياة. إنه يستهدف تمرير فكرة معينة تتحدد من خلال تبئير شخصيات الرواية وأحداثها ومواقفها وانفعالاتها تجاه العديد من القضايا الاجتماعية والدينية.  فعدم العثور على قبر كيميا مثلًا في قونية ليس سوى منطلق للمرور إلى القضية الأساس المرتبطة بواقع الناس اليوم، المهمشين منهم والفقراء المستضعفين والمحكوم عليهم باتباع التعاليم والقوانين والأحكام الدينية التي تسنها الجماعة باسم الشرع وباسم تقديس أشخاص وأفكار ما أنزل الله بها من سلطان، وبالتالي تحميها باسم قوانينها التي سنتها في إطار مصالحها الضيقة. فجلال الدين الرومي مثلًا، يمثل صورة لرجل الدين المقدس الذي لا يمكن تكذيبه أو معارضته، وفي الوقت نفسه صفيه وصاحبه الأثير شمس التبريزي الذي قربه منه ورفع من شأنه وواجه به الناس والأتباع والأبناء.

2 - السارد والتماهي مع الماضي
تؤكد أحداث الرواية أن السارد وليد علاء الدين يتماهى مع شخصية تاريخية هي شخصية ابن جلال الدين الرومي (علاء الدين) الذي يتلبسها جسدًا وروحًا وتفكيرًا. هذا التلبس مرده إلى قناعة لدى السارد بأن شخصية علاء الدين بن الرومي هي شخصية منبعثة من جديد لكي تكشف الحقائق والوقائع التي حصلت قبل ثمانية قرون مضت. فباسم كشف الحقيقة كان هذا التلبس والتماهي مع الشخصية التاريخية من أجل الوقوف على محطات الظلم الذي وقع على الفتاة «كيميا» حبيبة علاء الدين والتي توضح بالملموس حقيقة جلال الدين الرومي وصاحبه شمس التبريزي ومدى التلفيق والأكاذيب التي لحقت شخصيتيهما للناس باعتبارهما رجلين فاضليْن ومقدسيْن لا يتصرفان عن الهوى.
إن حقيقة جلال الدين وشمس صارت لدى الجميع واضحة، بل إن ظلمهما لكيميا ولعلاء الدين ولد جعل الجميع يشكك في مدى قداستهما، خاصة في تعاملهما مع الفتاة العاشقة التي تمَّ طمس هويتها واحتقار موتها وهويتها والتعامل معها كأنها لم تكنْ أو لم توجدْ في الأصل. لكن السارد، وفي رحلته البحثية عنها وعن حقيقتها، تمكن من الوصول إلى الحقيقة واكتشاف قبرها من خلال تماهيه وتلبسه شخصية علاء الدين ولد الذي وجهه الوجهة الصحيحة لاكتشاف قبرها وحقيقة وجودها في عائلة الرومي.
ويرى الناقد محمد المسعودي، أن الرواية، في متخيلها الفانتاستيكي الغريب، قد جعلت من السارد «يتماهى بشخصية ابن الرومي (علاء)، ويذوب كل منهما في الآخر إلى حد ما. لكن على الرغم من هذه الحيلة الفنية، حرص السارد على تبيان أن هناك حدودًا بين ذاته باعتباره شخصية معاصرة تعيش في زمننا وتتعامل مع واقعها بعقلانية ودراية، لها همومها وتطلعاتها المرتبطة بالكتابة والإبداع؛ وبين شخصية «علاء الدين ولد» التي عاشت قبل ثمانية قرون، وكانت لها هموم مختلفة وإشكالات أخرى تتعلق بسعي شمس التبريزي إلى تهميشها ومنعها من تأدية أي دور ضمن أتباع جلال الدين الرومي، ومن هنا كانت شخصية متمردة قلقة».
لقد لعب التخييل في الرواية دوره الأساس من حيث كونه استحضر أهم التفاصيل الدقيقة في ذهن السارد والروائي معًا حول قضية «كيميا» وعلاء الدين ولد وعلاقتهما الخاصة مع جلال الدين الرومي ومع شمس التبريزي وغيرهما من باقي شخصيات الرواية الآخرين، والتي لعبت دورها الحقيقي في تكريس قدسية الرجلين والدفاع عنهما في كل المواقف والمحافل.  ورغم وجود بعض اللحظات التي اعترض فيها المريدون والأتباع على علاقة جلال الدين الرومي بشمس التبريزي، فإن الأمر لم يصلْ إلى حدّ القطيعة معه أو الانقلاب عليه.  وهذا ما يؤكد حقيقة أن تقديس الناس باسم الدين وصل إلى حدّ لا يطاق إلى درجة أن يتمّ قبول الظلم وكل أشكال الاستعباد والاستغلال.  ومن هنا، نخلص إلى أن ما وقع في زمن الرومي لم ينتهِ بعد، بل زاد الأمر على ذلك، وصار التقديس باسم الدين يلعب لعبته القذرة لاقتياد العقول الضعيفة والنفوس الجاهلة إلى الهاوية دون التفكير في العواقب والنتائج الكارثية التي يمكن تحقيقها ■