الغرب في «قصص صينية»

الغرب في «قصص صينية»

يبدو أن بيرل بك الحاصلة على جائزة نوبل في الآداب 1938، والتي أثار حصولها على الجائزة جدلًا كبيرًا في عدم استحقاقها للجائزة، كانت مشغولة منذ بدايتها في الكتابة بموضوع العلاقة بين الشرق والغرب، ففي روايتها الأولى(ريح الشمال ريح الغرب) والتي يظهر من عنوانها مدى العلاقة المتشابكة بين الشرق والغرب، نُشِرت الرواية عام 1930، والتي تحكي عن فتاة صينية نشأت على حب وتقدير الأبوين واحترام العادات الاجتماعية الصينية. تتزوج الفتاة رجلًا صينيًا درس الطب في الغرب، فتبدأ العلاقة بينهما في التشقُّق؛ لعدم التفاهم بين العادات المتضاربة، فهو رجل يحمل أفكارًا غربيَّة، وهي امرأة تتمسَّك بالعادات التي يرفضها الزوج الذي تلقَّى علمه في الغرب، ورواياتها تكشف صورة الصينيين الذين تعلموا في الغرب، ثم عادوا إلى أوطانهم، وبذلك تكون لديهم أسباب الصراع النفسي الذي تتطرَّق إليه بيرل بك، صراع بين ما وجدوه في الغربة، وواقعهم المر في أوطانهم.

 

في المجموعة القصصية (قصص صينية) الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2021، ترجمة الدكتورة سهير القلماوي، تقترب بيرل بك من الرجل الغربي، وترسمه بمظاهر التحضُّر والنبل والشرف؛ فهذه القصص تمثل الصين في بداية احتكاكها بالمدنية الغربية، وتتعامل مع الغرب من منطقة أنه الأفضل.

قصص إنسانية
 بالنظر لاسم المجموعة (قصص صينية) نجد أن الأحداث الدائرة في المجموعة يمكن أن تحدث في أي مكان متشابه مع الصين، مكان به فقر وعوز واحتلال وثورة، ووجود أجنبي، والأسماء يمكن إبدالها بأسماء أخرى والأماكن يمكن تسميتها بأماكن أخرى، يمكن حكي القصص في أي مكان آخر من العالم، لأن القصص تبدو إنسانية، لكن الانحياز واضح في اقتراب مشاعرها من الرجل الأبيض الأجنبي. 
أخذتنا قصة (وانج لنج) بتدرُّج واثق نحو هدفها غير المُعْلَن، سرنا طوال الحكي مع شخصية وانج الذي يعاني من الفقر الشديد، يكاد يكون نموذجًا للمعاناة، وعن طريقه استطاعت بيرل بك أن تطرح فكرة من يلعبون على وتر الفقر الحسَّاس، فوانج يريد أن يكون غنيًا، يريد أن ينتشل حياته من الفقر الذي يجعله لا يستطيع الحصول على قوت يومه.
تبدأ القصة برحيل الامبراطور وظهور وانج حين يقابل شابًا يزعق في الطريق بصوت عال:  «ما الأباطرة إلا قوم كُسَالى يكلِّفون الأمة أموالًا باهظة ص14» ونلاحظ أن الكلمات الأولى التي وضعتها بيرل على لسان الشاب لها علاقة بالمال، إلى جانب أنه كان يرتدي حلة زرقاء جميلة، واسعة هفهافة، طويلة من قماش، لا يشكو من خفَّة ولا ثقل، وهو ما جذب إليه وانج الفقير بانبهار.
بدأت تظهر حقيقة شخصية هذا الثوري حين زعق في وانج بألا يلمس ملابسه حتى لا يلوثها، قال: «أيها القذر، لقد دفعتُ ريالين لكل قدم منها، إنها من الصوف الإنجليزي الممتاز. ص 16» وهنا يبدأ التلميح الأول للانحياز؛ فالصوف ممتاز؛ لأنه إنجليزي، وأكَّد هذا الاستغراق في محبَّة الغرب حين قال الشاب عن ملابسه: «إنها بضاعة أجنبية، لقد نَمَا صوفها على ظهر خِراف إنجليزية، ونسجه عبيد إنجليز.ص17». 
هذا الثوري المتأجِّج بطلب الاستغناء عن الامبراطور والدعوة للثورة، هو في حقيقته ينتمي قلبًا وقالبًا للغرب وللأجانب، كان متعجرفًا حتى إنه نَهَرَ وانج وهو يمر من جانبه، وطلب منه أن يفسح له الطريق، ثم ركل برجله عصا وانج بكل ازدراء، وكانت ملابسه تتطاير في الطريق، معبِّرة عن ثورة زائفة، ومن شخصية الشاب نعرف مدى الارتباط بالأجنبي، والاعتزاز بالملابس التي تأتي من عنده حتى ولو كان صاحبها ثوريًا.

الثورة وتحقيق الثروة
 صار وانج ثوريًا ظاهريًا بعدما حلق شعره؛ طمعًا في الغنى الذي حدَّثه عنه الشاب، والذي ظن أن الثورة ستمنحه له، ثم قابل شابًا آخر يتحدَّث بإساءة عن الأجانب بأنهم أخذوا الديار والأرض والذهب والفضة، وكان يصفهم بما يشبه الاستغلال، وقد يبدو أن الكاتبة ضد الأجانب، وأنها مع الثوَّار، لكن القصة تتضح حين يتم اقتحام بيت من بيوت الأجانب من قِبل الثوار، هذا إذن هو دور الثورة، وطريق الغِنى الذي وعدت به الثورة، فنشهد الاقتحام لبيت أحد الأجانب، تم نَهْب كل ما فيه بطريقة شرسة، تظهر حيوانية الثوار، ولصوصيتهم، كانت فقرة تصوير الاقتحام بارعة في إظهار جشع من ينتمون للثورة (رأى إبريق فضة فاختطفها، فاختُطفتْ منه، فنسيها ليخطف شيئًا آخر. ص 39). بان من استخدام الألفاظ أن تلك عملية اختطاف، وليست تحريرًا، ثم يأتي التعاطف مع المستعمر الأجنبي حين تبدأ الكاتبة في وصفه (رجل وامرأة وطفلان، كلهم واقفون متلاصقون قد تمزَّقت ملابسهم وتغبرت، وأحسَّ وانج بأن نظراتهم إليه لا تطاق، لكنه فكر إنهم لا يخافون. ص41) أن الأجنبي ضحية الثوار، وانج يراهم لا يخافون مما يدل على ثباتهم الانفعالي، وقوة شخصياتهم، وهذا تعاطف واضح مع الأجنبي وانحياز بائن له.
 وتنتهي القصة بعد أن كُشِف مغزاها الدفين، حين قال وانج لزوجته: «هاك نصيبي من الثورة» وهو يردد: «حقًا إنهم لم يكونوا خائفين، بل لا أؤمن حتى بأنهم كانوا أثرياء. ص 42». كان واضحًا أن اتجاه القصة يرمي لرسم صورة مثالية للأجنبي الذي يعيش في الصين، وإنهم كانوا متحضرين، وإن من يزعمون أنهم ثوار كانوا لصوصًا، كان الانحياز المغلَّف واضحًا مع الأجانب في القصة.
أما في قصة (يوم مطير) فنجد أن القصة تدور في الأجواء نفسها، اختارت شهر نوفمبر في يوم مظلم، لم يَقْوَ فيه نور الظهيرة على أن يتخلَّل ورق الأرز، هذه الأجواء القاتمة هي التي سوف تنعكس على نفسية بطل القصة «ته تسن» يتهمه الجد بأنه منذ عاد من الغربة وهو عاطل في البيت، لا يستطيع أن يجد عملًا يمكنه أن يستفيد من مواهبه، وقُدامى الصينيين يقولون إن الابن يجب أن يضحي بلحمه من أجل أن يأكل والده.
هذا الشاب العائد من الغربة وجد اصطدامًا واضحًا بما تعلَّمه وما يراد منه في بلده، هو مشقوق نصفين، حتى إنهم يعتبرونه عاقًا لأنه يرفض الزواج من الفتاة التي اخْتِيرت له منذ كان طفلًا، كان حديثه عن عادات الغرب يصدمهم، وبالتالي فالقصة تضرب على الصراع المباشر بين الصين الشرق والغرب، من يا ترى سينتصر؟ 
الجميع كانوا يتوقعون أن يأخذوا من راتبه بفضل تعليمه الممتاز، كان موضع فريسة يسعى الجميع للنيل منها، هذا ما قالته الكاتبة (إنهم ليسوا إلا مخالب ممتدة إليه تريد أن تنهش لحمه وعظامه وكل ما يمكن أن ينال من ثمار الجهد، لقد عَلَّموه ليستثمروه في شيخوختهم. ص47). كان واضحًا أن نظرتهم للمتعلم القادم من الغرب نظرة نفعية، وقال البطل داخله كلمة تعبر عن موقف الكاتبة «ألا ما أضعف الصينين أجمعين. ص 48».
لقد تعلَّم بطل القصة في القاعة الكبرى للجامعة الأمريكية، (عاد فخورًا بنفسه مستبشرًا بلقاء أسرته، واثقًا من أنهم سيفخرون به، لكنهم سقطوا عليه كالغربان الجائعة التي تأكل الجيفة إذا ما صادفت فريسة دسمة.ص 49). 
هذا موقف واضح من رقي الغرب، وانحدار الشرق المتمثل في الصين، وبدا أن ته تسن يرى المجتمع الصيني في حالة من القذارة، لكنه أيضًا بدأ ينغمس في القذارة حتى إنه أحسَّ فجأة بأن حذاءه قد أصبح لزجًا من كثرة ما علق به من قاذورات الشوارع، إحالة القاذورات واضحة، ثم يبدأ الحياة في غرفة قذرة، يمزِّق أخوه صفحة من أحب الكتب إلى قلبه؛ ليضع فيها النقود، هذه دلالة واضحة على أن النقود أعلى قيمة من العلم ومن الكتب، وأن الكتب في هذا المجتمع لا قيمة لها، ولاحظنا أن الكتب ظهرت عند الأجانب في قصة (وانج لنج)،  وتم استخدام الكتب من قِبل الصينيين في صنع نعل حذاء من جلدة الكتاب، هذا دليل قاسٍ على حقارة الكتاب المهم عند الغرب، المحتقر عند الصينيين.
الانحياز للغرب ظهر واضحًا بجلاء في القصة حين بانت شخصية (هيمنجواي) وللاسم دلالته الواضحة، هو أستاذته تسن القديم، حين دخل ته تسن عند الأستاذ هيمنجواي في بيته وكان الجو مطيرًا أحسَّ في الحال بالدفء اللذيذ، الدفء هو المطلب الأهم في الحياة الباردة، وهو يعبِّر عن التحضُّر، كان لدى الأستاذ المكتب والدفء والانفراد، هذا ما وجده في شخصية غربيَّة، ولم يجده في الصين، مع أن الأستاذ هيمنجواي يعيش في الصين، وهو ما يكشف أن الأجنبي يعيش حياته النظيفة حتى ولو كان في بلد قذر، وقال ته تسن:  «إنه من السهل أن يكون الإنسان نبيلًا قوي الإرادة إذا ما عاش في مثل هذا الجو وتلك البيئة. ص54». هذا مدح واضح وصريح للغربي، حتى إن الأستاذ هيمنجواي يطعن في الجو المحيط بتصريحه بأن الذين يعودون من إنجلترا وفرنسا وقد تعلموا العلم إلا أنهم ينغمسون في قذارة الواقع، وكان يرجو أن يكون ته تسن غيرهم، قال: «أُصرح لك أني يائس من الطلاب الصينيين الذين يعودون من الغرب، لقد خيبوا ظني دائمًا. ص 56».
وتأتي المقارنة الواضحة حين يتذكر ته تسن وجه خطيبته كما تصفها الكاتبة: الكئيب، وشعرها الأشعث الأغبر، ما هي في الواقع إلا خادم رخيص الأجر، ثم جاءت المقارنة في ذاكرته (ذكرى مئات الوجوه الجميلة الضاحكة المستبشرة تلوح له في قسوة بنات أمريكا في الجامعة. ص 58). 
في النهاية اختارت الكاتبة أن يقع الصيني ته تسن في الوحل، وأن يتزوج من الفتاة القذرة الخادمة الموعودة له في طفولته، وأحسَّ ته تسن بأن كل شيء بارد في هذه الدار على عكس دار هيمنجواي وانتهت القصة بأنه تعاطى المخدر، حتى ينسى الواقع الذي سيعيش فيه، وربما لينسى ما عاشه في الغربة، ونخرج من القصة ونحن نحمِّل المجتمع الصيني وزر ما فعله بهذا الشاب الذي يحمل فكرًا غربيًا لم يستطع تحطيمه وسقط كالباقين في الوحل، ونجحت الكاتبة في تسريب انحيازها للفكر الغربي.
أما قصة (الأم العجوز) فهي تضرب بقوة على العلاقة بين التراث الصيني المتمثِّل في الأم، والتقدُّم والمدنية والغرب المتمثِّل في الابن وزوجته، فنرى أن الأم محرومة من ممارسة أبسط الأشياء التي يمكن أن تمارسها امرأة عجوز، هي تحب الفلفل بالفول، لكنها تستحي أن تطلب المزيد؛ لأن طلب المزيد من عيوب تعليمات بيت ابنها المتحضَّر، ولا يمكنها أن تُطْعِم أحفادها بما تّدَّخِر من طعام وقِطع الكعك؛ لأن تحذيرات ابنها وزوجته قاسية، حتى إن ابنها المتمدِّن صاح فيها ذات مرة: «عليكِ أن تستعملي الملاعق المُعَدَّة للغَرْف، فلا تغرفي من الطبق المشترك بملاعق سبق أن دخلت فمك. ص 65». 
المرأة العجوز الأم ظهرت في هذه القصة بمظهر الجاهل الذي ربما ينقل الأمراض ويسبِّب الضرر، التراث كان هنا مقابل المعاصرة المختلطة بالتعاليم الأجنبية، وكان الأمر واضحًا أن الكاتبة تنحاز للحديث المعاصر المتعلم على يد الأجانب، ويرتدي ثيابهم وتُظْهِر الأم العجوز بمظهر غير مناسب. حتى إن ابنها قال: «لا أقبل مثل هذه القذارة في بيتي، ولن أقبلها» ويقول في قسوة:  «ألستِ ترين يا أمي أن زوجتي امرأة متعلِّمة وأنتِ فلاحة جاهلة، ومن حقي وحقها أن ينشأ أبناؤنا بالطريقة العصرية. ص 82». ثم كشف الغرض من القصة في كلمات واضحة:  «إن بيتي لا يمكن أن يكون مثل البيت الذي عِشتُ فيه، أنا لا أريد أن أفقد أربعة من أبنائي كما فقدتِ أنت. ص 83». ارتعدت الأم العجوز من ظنها أنه يتهمها بالإهمال في أي من أبنائها حتى ظنت أنها قتلتهم، كان هذا جارحًا، كيف لأم أن تقتل أبناءها؟ حتى إنه حين حاول أن يُحَسِّن من أسلوبه قال بعجرفة «أنا لا أتهمك إلا بالجهل، والإصرار على هذا الجهل، وعدم الرغبة في أن تتعلمي شيئًا خيرًا مما تعرفين. ص 83».
الأمر بات واضحًا أن الكاتبة تضع الأم العجوز في موقف التراث، هي نموذج وليست حالة إنسانية، والابن في موقف المعاصرة، فقسوته مع أمه لا يشوبها أي حنان، وكان هذا بعيدًا عن المشاعر الإنسانية، كان الابن قاسيًا كالغرب والمدنيَّة، افتقدتْ القصة المشاعر والدفء الإنساني، حتى إنه رغم الجهل الذي ظهرت به الأم العجوز، إلا أنها تركت في القلب ندبة، والرسالة التي أرادتها الكاتبة وصلت بطريقة عكسية، فحيثما أرادت أن تطرح نظافة المدنية، والرغبة في الحياة الأجنبية، إلا أن القارئ كان يميل عن الهدف غير المعلن، وينحاز بمشاعره للأم العجوز رغم كل السيئات التي ظهرت بها ■