البحث العلمي ذلك التحدي المؤجّل

البحث العلمي ذلك التحدي المؤجّل

 تأملوا معي هذين الرقمين: تقول التقارير إن العرب ينفقون سنويًا ما يقارب 94 مليار دولار على شراء السلاح، بينما ينفقون مليارَي دولار فقط على البحث العلمي بكل فروعه...!!! 
رغم أننا لا نكف عن الحديث عن التقدم والسعي إلى ركب الحضارة وجودة الحياة، إلا أن رقم التسليح الضخم يكذب تلك الأحاديث، فهذه الأسلحة يتم تخزينها حتى يأكلها الصدأ أو تستخدم في غير مكانها الصحيح، بينما الرقم الأصغر لا يكفي لإذكاء البحث العلمي، في عصر لم تعد القوة ولا الثروة هي المقاييس التي يعتد بها، ولكن تراكم المعرفة واستخدام الأسلوب العلمي للتنمية هما الطريق الوحيد للمستقبل. ووفقًا للأرقام المذكورة أعلاه، يبدو أن العرب سيكونون بلا مساهمة فعالة في مستقبل العالم، ولن نتخطى هذه العقبة إلا إذا عكسنا الأرقام وأنفقنا الرقم الأكبر منها على البحث العلمي وقلّلنا من المخصّص لاقتناء السلاح.

 

تدرك الدول المتقدمة أن البحث العلمي هو سر تقدمها، لأنه ثورة متجددة ضد الأساليب التقليدية، فالمجتمعات الخاملة تسير أمورها بطرقها المتوارثة، لا ترفع أبصارها لتستشرف الآفاق البعيدة وتكتفي بما هو متاح لديها، ولكن الطرق العلمية تبحث دائمًا عن ابتكار طرق جديدة مخالفة الأساليب القديمة، حتى تحسنها أو تتخلص منها، علماء البحث بطبيعتهم حالمون باكتشاف طرق جديدة تزيد من جودة الحياة، يحلمون باكتشاف مصادر للطاقة لا تنتهي ولا تترك خلفها أي ملوثات للبيئة، بمواصلات سريعة تربط كل أجزاء العالم دون حوادث وبلا تكلفة زائدة وأدوية تعالج كل الأمراض، وبالطبع هناك علماء يكرهون الحياة ويبرعون في اختراع وتطوير أسلحة الموت والدمار، يريدون حماية أنفسهم وأوطانهم، دون إدراك منهم أنهم يضعون مسمارًا في نعش البشرية، وفي كلتا الحالتين هناك بحث دؤوب لا يتوقف.
في الماضي كان تقدم البحث يعتمد على العبقرية الفردية، لحظة الإلهام التي ولد منها المخترعون العظام والمخترعات العظيمة، اختلفت الأمور الآن، فأصبح هناك الفريق بدلًا من الفرد وبدلاً من لحظة الإلهام أصبحت هناك خطوات بحثية منطقية، البحث أصبح عملًا لا يتوقف، يتم فيه تقسيم العمل، بين فريق متجانس كل واحد يؤدي دورًا في مشروع البحث العلمي.

العمل المشترك
إلى حد كبير نحن كعرب لم نألف العمل الجماعي، ينطبق هذا على الدول كما ينطبق على الأفراد، كل دولة تحاول أن تجد طريقها المفرد للتنمية، لذلك تقام المشاريع المتكررة، لكن البحث العلمي طريق طويل يستلزم عقولًا نيرة وأموالًا طائلة، لذا لم يكن غريبًا أن تتجه الدول الأوربية رغم درجة تقدمها لعمل مشروع أوربي مشترك بجانب مشاريعها القومية وأن تربطها جميعًا في كيان واحد، فالغرب استطاع أن يتخطى الخلافات والحروب وكل التناقضات، ليكتشف أن المستقبل لا يحدده سوى العلم والعمل المشترك، لكننا نحن كعرب ورغم كل ما يجمعنا من عوامل مشتركة لا نستطيع أن  نسير للمستقبل بصورة مشتركة.
ينفق العالم سنويًا نحو 536 مليار دولار على البحث العلمي، نصيب الدول النامية ومنها عالمنا العربي لا يزيد على 4 في المئة فقط، بينما تنفق الولايات المتحدة واليابان وأوروبا بقية النسبة أي 80 في المئة أكثر مما ينفق بقية العالم، ويبلغ إنفاق الولايات المتحدة وحدها ثلث هذا المبلغ، ولكن العرب ينفقون أقل من 1 في المئة من دخلهم القومي، وهي النسبة العالمية المقبولة، أي إن ما ننفقه دون المقبول، أما إسرائيل، وهي  العدو الدائم، فتنفق أكثر من أربعة أضعاف أكثر منا.

واقع البحث العلمي
بلغ عدد الأبحاث العربية في سنوات العقد الأخير ما يزيد قليلاً على 114 ألف بحث، احتلت السعودية المركز الأول بتقديمها 25 في المئة من الأبحاث، وتلتها مصر بنسبة 24 في المئة، ثم تونس بنسبة 11 في المئة، فالجزائر بنسبة 8 في المئة، ثم المغرب أخيرًا 5 في المئة، وكانت المجالات التي دارت حولها الأبحاث: الهندسة الكهربائية والإلكترونيات وعلوم الزراعة والأمراض المعدية والصحة المهنية وعلوم البيئة، أعدادًا كبيرة حقًا من الأبحاث، ولكن كم بحثًا منها احتوى على نتائج  مبتكرة؟ وكم واحدًا منها صالحًا للتطبيق في مجالي الصناعة والزراعة؟ أم إن الكثير منها كان نظرية تعتمد في معظم فروضها على النظريات السابقة، وهل المؤسسات العربية لديها القدرة على تحويل هذه الأبحاث إلى خطوات عملية للتطوير؟
لا يتوقف حديث المسؤولين عن السياسات العربية، عن أهمية البحث العلمي واعتباره المدخل الصحيح للتنمية والتغيير الشامل، ورغم  ذلك لم يفعلوا الكثير لتحقيق تلك الغاية، فالمتأمل لواقع البحث العربي ومؤسسات البحث المختلفة الأسماء يرى بوضوح تلك الفجوة الواسعة بين المستوى البحثي عندنا وبقية العالم، فنحن نفتقر إلى سياسة علمية محددة المعالم تستشرف المستقبل، فضلاً عن العديد من معوقات التخلف التي تحول دون تقدم العرب إلى مستوى الدول المتقدمة ـ لكن مهما كانت الأسباب فبقاء العرب خارج دائرة التطور العلمي أمر غير مقبول،  وفي مرحلة ما كان الهدف الأساس من إنشاء الجامعات وتكاثرها في كل بلد عربي أن تتحول في أقصر فترة ممكنة إلى مراكز للبحث والإشعاع العلمي، فدورها يجب ألا يقتصر على تعليم الطلبة، لكن عليها أيضًا أن تقوم بإشاعة روح البحث وخلق أجيال من الباحثين في كل فروع العلم، ولا يظل دورها هو أن تكون معاهد أو مدارس تنتج موظفين في المصالح الحكومية أو سكرتارية الشركات، ما نراه هو خريجين جيدين لكنهم ليسوا مبتكرين، ومع مرور السنوات ازداد عدد الجامعات، لكن الأمل يزداد مع ظهور كل جامعة جديدة ربما تنجح  في استعارة مناهج العلم الحديث وطرق تطبيقها. 
لكن الجامعة هي فقط واحدة من العثرات،  إضافة إلى غياب التخطيط وضآلة الإمكانات، إن قاعدة الهرم في البحث العلمي يجب أن تبدأ من التعليم الابتدائي، أن نهيئ العقول الصغيرة لهذا النوع من التفكير المنظم  وأن نعودها على النظر حولهم بعقول واعية، ولن يتم هذا الأمر إلا في إطار من إصلاح نظام التعليم برمته، وإعداد جيوش من المدرسين المؤهلين القادرين على إعداد هذه العقول الصغيرة للمستقبل.  

دور القطاع الخاص
ولكن ماذا عن إسرائيل؟ العدو الذي يسعى دون هوادة لفرض إرادته علينا كعرب، لقد رفعت سلاح التفكير العلمي في مواجهة الإهمال العربي للعلم، وحتى قبل أن تقوم باحتلال فلسطين فعليًا بأكثر من عشرين عامًا قامت بإنشاء معهد إسرائيل للتكنولوجيا في فبراير عام 1925، وكان  أول رئيس  للدولة بعد إعلانها عالمًا بارزًا في الكيمياء هو حاييم وايزمان، وبلغ الإنفاق السنوي على البحث العلمي غير العسكري أضعاف ما ينفقه  العالم العربي كله، فقد وصل في عام 2008 لنحو 9 مليارات دولار. بينما يصرف القطاع الخاص ما نسبته 52 في المئة من الإنفاق العام على الأبحاث والتطوير، وإذا قورن وضع إسرائيل بالدول المتقدمة الأخرى، نجد أنها تنافس وتسبق كثيرًا من الدول الغنية، حيث تحتل المركز الثالث في العالم في صناعة التكنولوجيا المتقدمة، ولا أريد أن أعقد المزيد من المقارنات بيننا وبينهم لأن هذا يزيد من المرارة في النفس. 
هناك دور مهم للقطاع الخاص في دعم البحث العلمي، لأنه سيكون من المستفيدين من نتائجه على المدى الطويل. وفي أغلب جامعات العالم تعتمد مراكز الأبحاث في التمويل والدعم على الشركات الكبرى، وتعتبر دولة الكويت من النماذج العربية المشرفة، حيث تقوم بفرض نسبة معينة من أرباح الشركات لدعم «مؤسسة الكويت للأبحاث العلمية» تقدم كمعونة من القطاع الخاص، وكمورد إضافي لحركة البحث العلمي في الجامعات ومراكزها البحثية.

تجارب مضيئة
وسط ظلمة هذا الإهمال العلمي هناك تجارب مضيئة أخرى، ففي لبنان مثلًا عمل فريق من الخبراء مدة ثلاث سنوات على تحديد نقاط القوة والضعف في النظام الاقتصادي والنظام الاجتماعي، ودُرست الحاجات والتحديات وتمت صياغة استراتيجية واضحة المعالم مع أهداف ونشاطات لتحقيقها ومؤشرات لقياس النجاح والفشل، وفي المملكة العربية السعودية تم تنفيذ الخطة الوطنية للعلوم والتقنية والابتكار عام 2008، مما ضاعف عدد الأبحاث العلمية المنشورة وبراءات الاختراع في الأعوام التالية. وفي الأردن تم وضع استراتيجية وطنية لخلق صناعة حديثة في مجال الحاسوب وتكنولوجيا المعلومات، وثمَّة جهد في مصر لتوطين التكنولوجيا من خلال مدينة العلوم التي أنشئت في مدينة برج العرب.

الإيمان بحريّة البحث العلمي
 علينا إذن أن نقبل التحدي الذي يفرضه علينا العصر، فالوطن العربي غني بالكفاءات والخبرات العلمية القادرة على تنفيذ أبحاث علمية لا تقل في نوعيتها عن تلك التي تنشر في الدول الصناعية. كما أن الناتج المحلي في كثير من الدول العربية أفضل كثيرًا من الناتج المحلي في دول حققت إنجازات كبرى في البحث العلمي والتطور، وعلينا أن نضع خطة مدروسة تعتمد على أهداف محددة تتمثل فيما يلي: 
أولاً: الإيمان بحريّة البحث العلمي، وأن يبتعد الباحثون عن أي أهواء سياسية أو طائفية، ليكون العمل فقط من أجل العلم وتقدم الوطن.
ثانيًا: وضع خطة واضحة المعالم للبحث العلمي بحيث لا يترك البحث للاجتهادات الفردية، وأن توضع فترة زمنية محددة لإنجاز أي مشروع، مع وضع مؤشرات للنجاح أو الفشل.
ثالثًا: وضع نظام لتوظيف الكفاءات بعيدًا عن المحاباة والمحــسوبيــة، وأن يوضـع الذيــن تم اختيارهم لفترة اختبار طويلة لمعرفــة كفاءتهم الشخصية وقـــدرتهم على التعـــاون مع الآخـــرين، مع وضع إطار نظام إداري دقيق واضح المعالم.  
رابعًا: دعم التواصل بين العلماء العرب وفتح القنوات بينهم لتبادل المعلومات والأبحاث المختلفة للوصول إلى قاعدة بيانات عربية مجمعة.
خامسًا: تحسين وتوفير الدعم المالي لمراكز البحث بصورة كافية ومستمرة، ولا تقل نسبة التمويل عن 1 في المئة من الناتج القومي وتزداد هذه النسبة بصورة تدريجية، وأن يتم تشجيع القطاع الخاص على المشاركة في التمويل وتتم الاستفادة من تجربة الكويت في هذا المجال.  
سادسًا: التعويض على النقص في المعدات بالجهد العقلي الإضافي، وأن نبدأ بمشاريع لا تطلب الكثير من المعدات والميزانيات، مثل أبحاث تعالج مشكلات الزراعة والمياه والطاقة الشمسية.   
إن البحث العلمي من أشق وأرقى النشاطات التي يمارسها العقل البشري على الإطلاق، وقد بزغ فيه العديد من العلماء العرب الذين لم تتوفر لهم الإمكانيات ولكن اعتمدوا على العقل والرغبة في الابتكار، وعلينا أن نثبت أننا لا نقل عنهم، لأن البحث العلمي هو التحدي المؤجل وعلينا أن نواجهه ■