د. جابر عصفور تنويري في زمن غير تنويري

 د. جابر عصفور تنويري في زمن غير تنويري

عرفت د. جابر عصفور كمفكر مصري وناقد أدبي من مستوى رفيع، قبل أن تجمعنا صداقة مديدة خلال إقامتي في القاهرة التي امتدت لما يقرب من تسع سنوات. كانت لقاءاتنا دورية في إطار الصالون الثقافي العربي، الذي يعود الفضل في تأسيسه إلى السفير قيس العزاوي، والذي ضمّ: صلاح فضل ومحمد الخولي ود. جابر عصفور ومصطفى الفقي ونصير شمّا وسفير المغرب وسفير موريتانيا والذي ترأسه الراحل يحيى الجمل. هذا الصالون الذي ما إن تم تأسيسه حتى أصبح ملتقى المفكرين والكتّاب والمثقفين المصريين الذين يلبّون الدعوة إلى مناقشة كتاب أو موضوع من الموضوعات، أو دعوة مفكر لمناقشة آرائه، مثل حسن حنفي أو استضافة شخصية مصرية أو عربية، مثل عمرو موسى والمنصف المرزوقي ونايف حواتمة وآخرين.

 

كان الصالون في أوج نشاطه حين حدثت ثورة 25 يناير 2011، حين دعي د. جابر عصفور لشغل منصب وزير الثقافة في الحكومة التي تشكلت بعد ثلاثة أيام من الثورة، لكنه لم يلبث أن استقال بعد عشرة أيام من تعيينه لأنه لم يلمس أن الحكومة تسعى إلى أي إصلاح أو تغيير.
وكان أن دعي د. جابر عصفور بعد فترة وجيزة للمشاركة في الحكومة التي دعيت حكومة الثورة، والتي شغل فيها يحيى الجمل منصب نائب رئيس مجلس الوزراء، إلا أنه استشار عددًا من أصدقائه لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، فقر رأيه على الاعتذار. إلا أن علاقة د. جابر عصفور بوزارة الثقافة لم تنته، فدعي إلى المشاركة في أول حكومة في عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي، فلبّى الدعوة، إلا أنه واصل الكتابة في الصحافة وخاض نقاشًا حادًا على صفحات جريدة الأهرام مع وكيل الجامع الأزهر، ولم يوفر تصريحاته الناقدة للجمود والتقليد، فكان أن خرج من الوزارة في أول تعديل حكومي، بعد ثمانية أشهر من تعيينه. لم تكن المرة الأولى التي يتسلّم فيها د. جابر عصفور منصبًا ذا صفة رسمية، فقد سبق أن شغل منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة لمدة 14 سنة، كما شغل لسنوات منصب مدير المركز القومي للترجمة والذي أسسه.
 كذلك لم يكن أول مثقف مرموق يتسلّم منصباً وزارياً، فتاريخ مصر الحديث يحفل بأسماء مفكرين ومثقفين تسلموا مناصب وزارية تتعلق بالتعليم والتربية والثقافة. ويمكن أن نعدد أسماء رجال كبار تسلموا مناصب وزارية، مثل علي مبارك ومحمود سامي البارودي وأحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل وطه حسين. ولم تكن تجارب هؤلاء الوزارية ناجحة بالضرورة، وربما كانت عكس ذلك، ولم تضف إلى رصيدهم الأدبي شيئًا يُذكر. وبخصوص د. عصفور الذي اعتبر طه حسين أستاذه وملهمه والسائر على طريقه، فإنه تماهيًا مع سيرته قد حقق أيضًا تسلمه لمنصب الوزارة في ظروف صعبة كتلك الظروف التي أحاطت بوزارة طه حسين التي اضطرت إلى الاستقالة بعد حريق القاهرة في يناير 1952. وبالرغم من المدة القصيرة التي أمضاها في وزارته الثانية إلا أنه حقق بعض الإنجازات، قبل أن يشمله التغيير الوزاري. ومع ذلك لم يكن يتباهى بتجربته ويقول إنه لم يستطع أن يغادر شخصية الأستاذ الجامعي الذي غلب فيه الوزير.

أستاذ جامعي مرموق
أسوق كل ذلك لأتحدث عن علاقة المثقف بالسلطة ومؤسساتها، فقد كان د. جابر عصفور أستاذًا جامعيًا مرموقًا منذ بداية ممارسته للتعليم وناقدًا أدبيًا ومنخرطًا في قضايا مصر. وهذا ما جرّ عليه غضب السلطة التي سبق أن أبعدته عن وظيفته فاضطر إلى مغادرة مصر لسنوات تنقّل خلالها في جامعات من أمريكا إلى السويد إلى الكويت ليعود بعدها إلى مصر ليصبح بعد حين أمينًا عامًا للمجلس الأعلى للثقافة (1993-2007)، وخلال اضطلاعه بالمنصب سجل نجاحًا باهرًا في جعل المجلس مركز نشاطات ثقافية عربية ودولية، وانخرط عدد كبير من المثقفين والأكاديميين في نشاطاته وهيئاته. وقد أثبت د. جابر عصفور من خلال تلك التجربة إمكانية العمل من داخل المؤسسات الرسمية والحكومية، والقيام بدور ثقافي جاد ونشط ومنفتح. يضعنا ذلك في إشكالية مصرية خالصة وهي علاقة المثقف بالسلطة، فمنذ بداية تأسيس الدولة الحديثة في مصر مطلع القرن التاسع عشر كانت «الدولة» هي التي ترعى شؤون التعليم، وترسل البعثات إلى الخارج وتؤسس المدارس والمعاهد وتوظف المتعلمين في مؤسساتها، وأبرز مثال على ذلك هو رائد النهضة والتنوير المصري رفاعة الطهطاوي الذي أوفده والي مصر محمد علي باشا إلى فرنسا وعاد ليتسلم مدرسة «الألسن»، عدا عن المناصب الأخرى في عهد الخديو إسماعيل. كما عمل علي مبارك في المؤسسات التي رعاها الخديو إسماعيل ثم الخديو توفيق... وبغض النظر عن أصول هذا التقليد، فإن المثقف المصري نشأ في ظل مؤسسات الدولة واستمر في عمله داخل مؤسساتها، وبعد ثورة 1952 أصبح لا مجال لأي نشاط ثقافي خارجها.

التجربة النهضوية المصرية
من هنا فإن د. جابر عصفور ابن هذا التقليد المصري العريق، وأولئك الذين انتقدوه تحاملاً لا يدركون هذا الواقع الذي هو نتيجة لتطور مصر في العصر الحديث وطبيعة النهضة التي عرفتها في القرن التاسع عشر وأرست أسس الدولة التي تُنشئ المؤسسات التعليمية والثقافية وتُديرها وتوكل إدارتها للمتعلمين والمتنورين.
ود. جابر عصفور ابن التجربة النهضوية المصرية، ولعله الأخير في سلسلة المثقفين التنويريين، واعتبر نفسه حاملًا لشعلة التنوير التي تسلمها من طه حسين وتلامذته. كان د. عصفور مفكرًا تنويريًا جعل من النقد العقلي ونقد الجمود الديني قضيته الأولى كما هو معروف من خلال مؤلفاته ومقالاته. إلا أن المشكلة هي أن عصر التنوير الذي عاشه أسلافه كان قد انقضى، فقد عاش د. عصفور تنويريًا في زمن غير تنويري ■