جابر عصفور ومشروعه ثلاثي الأضلاع

جابر عصفور  ومشروعه ثلاثي الأضلاع

كتب أنيس منصور (1924 - 2011) في عموده اليومي «مواقف» في صحيفة الأهرام يتساءل: «هل تعرف د. جابر عصفور؟ لن تعرفه إلا إذا كنت مثقفًا ومثقفًا جدًا». كان أنيس قد قرأ للدكتور جابر عن البنيوية فأدهشته كتابته ووعيه لهذا المذهب الأدبي والنقدي حتى إنه قال عنه إنه «كاتب كامل الأوصاف»، كما وصفه أيضًا بأنه «جواهرجي يزن كل ما يقول». هكذا هو جابر عصفور يدهشك حضورًا ووعيًا وذلك باستيعابه للنظرية وإتقانه للمنهج، بل بالخروج على المنهج أيضًا، إذ تقوم فيه سمات المعلم المتعلم على دوام. هذا ما جعل مشاريعه الفكرية والنقدية والثقافية تتحقق وتؤتي أُكُلها، فالوعي والإدراك والمساءلة وعدم الاستسلام للسائد والتسليم له، كل ذلك جعل من د. جابر عصفور معلمًا صاحب رؤية ومشروع وهدف يمكن تحققه واستمراريته في الحياة الثقافية.

 

كانت لدى عصفور بوصلة معرفية وهو يمضي في تحقيق مشروعة النقدي التنويري النهضوي، حيث كان يمضي وإحدى عينيه تنظر إلى مشروع طه حسين وما لم يتحقق منه حتى يتمه، أما العين الأخرى فقد كانت ترصد الواقع بكل تفاصيله وتسعى إلى أن تتحقق في الواقع حضورًا ووجودًا وامتدادًا في المشاريع الثقافية المتجذرة في التراث والممتدة حتى العصر الحديث، غير عابئ لنداءات الظلاميين وعباراتهم، إذ كان يشخص ببصره نحو تحقيق ما يشهده ببصيرته الفكرية والثقافية القائمة على المراجعة الدائمة والمساءلة المستمرة لكل ما تم إنجازه وتقييمه لمعرفة مواطن الخلل والعمل على إصلاحها للمضي قدمًا في ركب الحضارة.
    من هذا المنطلق سوف أركز في هذا المقال على مشروع د. جابر عصفور النقدي التنويري النهضوي الذي يتجلى في قراءته للتراث النقدي، والاستنارة، والترجمة.

قراءة التراث النقدي 
وضع د. جابر عصفور التراث عامة والتراث النقدي خاصة موضع المساءلة، مسقطًا أيّ قدسية لنص أو تبعية لرأي أو عبودية لفكرة، وراح يطرح مجموعة من الأسئلة التي لا تتوقف حول التراث وعلاقتنا به.
- ما حدود الموضوعية في القراءة؟
- كيف نحدد معرفيًا العلاقة بين المُفسِّر الذي يقوم بالتفسير؟ والمَفَسَّر الذي يقبل التفسير؟
- هل هناك حدود قصوى للانفراد في النص القديم؟
- هل يمكن أن نحدد مجالًا لا يتجاوزه المفسِّر في التفسير، ومن ثم نحدد مجالًا مقابلًا لا يتجاوزه النص من حيث قابلية التفسير؟
- ما حضور التراث المقروء نفسه؟ هل هو حضور «هناك»، أم إنه حضور «هنا»؟
إن هذا المشروع النقدي الكبير بدأه د. جابر بقراءة معظم مصادر النقد الأدبي إن لم يكن جلّها، وكتاباه الرائدان:
- الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي (1974)، ومفهوم الشعر: دراسة في التراث النقدي (1978). يؤكدان مدى ضلوعه في الاطلاع على التراث النقدي عند العرب وقراءته له قراءة فاحصة من جهة. ومن جهة أخرى يؤكدان انشغاله بالتأصيل؛ إذ يعمد إلى الوصول إلى جرثومة الأشياء، وكيف تطورت معرفيًا وفكريًا وإجرائيًا، ليس من أجل المعرفة فحسب وإنما إمعانًا منه في المساءلة والتساؤل والخروج برؤية تضيف للعلم بقدر ما تأخذ منه.
من هنا يفترض د. جابر أن كلّ نص من نصوص التراث النقدي لا يمكن أن تقرأه في عزلة عن غيره من النصوص، فالتراث النقدي وحدة سياقية واحدة - داخل وحدة سياقية أوسع هي التراث كله. وعليه فإن قراءة التراث النقدي هي- في حَدّ ذاتها بحث عن «رؤيا عالم» ينطقها النص المقروء، ويشير إليها في صراعاته وتوازناته في مقابل «رؤيا عالم» عند القارئ المعاصر، وعليه فقد تتقارب الرؤيتان القديمة والمعاصرة وقد تتباعدان.
إن قراءة د. جابر للتراث النقدي انطوت على موقف من ثلاث مشكلات أساسية:
-1 مشكلة «حضور» التراث.
-2 مشكلة علاقتنا به.
-3 الحدود القصوى لعملية القراءة أو فعلها.
فإن قراءته للتراث النقدي تؤكد أن للنص التراثي حضورين، حضوراً «هناك» في تاريخه الخاص، وحضوراً «هنا» في تاريخنا الخاص. وذلك حين نقرأ النص في ظل منظومة من العلاقات المحددة لإنتاج المعرفة وشروط متعينة تحدد طبيعة حياتنا وتوجهاتنا، وصراعاتنا، وعلاقتنا بما ندرك أو نقرأ.
 إن علاقة القارئ بالمقروء في ظل المشكلة الأولى تتحول إلى علاقة اتصال وانفصال في آن؛ إذ تتجلى علاقة الانفصال بانتماء كل من القارئ والنص إلى عنصرين متقابلين، لكن هذا الانفصال سرعان ما يتحول إلى اتصال على مستوى ما يسميه جابر «البعد القيمي» الذي ينطقه النص المقروء، والذي يتجاوب أو يتنافر مع البناء القيمي لعالم القارئ.
 توازن العلاقة بين الرأي والموضوع في القراءة (القراءة الموضوعية).
- كيف نقرأ تراثنا؟
- كيف نحول هذه القراءة إلى عملية تسهم في تطوير وعينا بواقعنا وتراثنا في آن؟
كان د. جابر في كلّ هذا المشروع الانقرائي يشدد على أهمية توالد الأسئلة وتكاثرها لتسهم في النظر إلى الموضوع من زوايا مختلفة تأتي بوجهات نظر أخرى.
ويذهب د. جابر إلى أن قراءة التراث النقدي لا يمكن أن تتقدم إلا إذا انقسم وعي القارئ على نفسه في مرحلة من مراحل القراءة، وأصبح وعيًا مزدوجًا، ذاتًا وموضوعًا في آن، بحيث يتمكن هذا الوعي من تأمل نفسه في علاقته بمعطيات التراث المقروء وكيفية إدراكه لها وسيطرته عليها، فيكتمل فعل التحقق الذي تكتمل به سلامة القراءة في يقين هذا القارئ. ويدرك أن جهاز قراءته قد كشف في النص الذي قُرِأ عن المعنى ذي دلالة في السياق التاريخي لهذا النص وأفقه الزمني الخاص، وذي دلالة موازية في السياق التاريخي لهذا القارئ وأفقه الزمني الخاص في آن.
إن المشروع النقدي لدى د. جابر عصفور يقوم على تجسير العلاقة بين التراث والمعاصرة، وعدم الفصل بين مختلف مجالات النقد الأدبي المعاصر من ناحية، ودراسة التراث النقدي من ناحية ثانية.
ويؤكد على أن قراءة التراث النقدي جزء
لا ينفصل من فاعلية جهاز القراءة الأعم للنقد العربي المعاصر كله، وأن العلاقة بين «نظرية القراءة» و«علم الأدب» ليست علاقة وثيقة تقوم على التفاعل فحسب، بل هي علاقة يميل البعض إلى جعلها علاقة اتحاد على أساس أن «علم الأدب» هو نظرية في القراءة ابتداء.
فعل القراءة الذي ينشده ويقوم به جابر هو فعل لا يتوقف عن الفحص والمراجعة والمساءلة والنقد باستمرار، ليس فعلًا يؤدي إلى طمأنينة بقدر ما هو فعل يخلق القلق المعرفي ويسعى إلى توقده دائمًا:
وفي مقدمة كتابه «قراءة التراث النقدي» (1992) يعرض جابر عصفور لمناهج قراءة التراث ويستعرضها في ضوء أسئلة تأخذ صفة التكرار، وهي:
- ما التراث النقدي؟
- لماذا نقرؤه؟
- كيف نقرؤه؟
إلا أن هذه الأسئلة المتكررة طرحًا هي متغيرة إجابةً، فكلّ عصر أو تيار قام بقراءة التراث برؤيته ومعتقداته وعلاقته مع التراث إما بإعادة إنتاجه أو بإقصائه ومعاداته. لذا نجد د. جابر يصنف قراءة التراث من منظور الغاية إلى ثلاثة أنماط حسب المنجز القرائي:
- القراءة الانتقائية: التي تحاول التوفيق بين الأصالة والمعاصرة.
- القراءة التثويرية: التي تهدف إلى تقديم «مشروع رؤية جديدة» تنتقل بها «من التراث إلى الثورة»، أو «من العقيدة إلى الثورة» أو من «الثابت» الاتباعي إلى المتحول «الابتداعي»، أو من الضرورة إلى الحرية.
- القراءة التنويرية: التي تسعى إلى الكشف عن تكوين العقل العربي، أو الكشف عن المستويات الخطابية السائدة في الفكر العربي بأبعاده العربية الإسلامية.

الاستنارة
في العام 1908 تم إنشاء الجامعة المصرية التي تحققت بجهود دعاة الاستنارة من أمثال؛ قاسم أمين (1863 - 1908) الذي كتب عن تحرير المرأة (1899) والمرأة الجديدة (1900)، وما يحمل كتاباه من استنارة قادت إلى ثورة 1919 وخروج النساء لأول مرة في المظاهرات.
في العام 1989 أقيم احتفال كبير تحت عنوان «مائة عام من الاستنارة». وكان بمناسبة مرور مئة عام على ميلاد طه حسين والعقاد بوصفهما رمزي الاستنارة مطلع القرن العشرين. ومنذ ذلك العام انشغل جابر بالكتابة عن الميراث التنويري الذي خلفه أعلام التنوير الذين ورث عنهم أفكارهم بأهمية الدولة المدنية وحرية الفكر، وحق العقل في الانفتاح على كل النتاج الفكري العالمي والإفادة منه، ووضع المنجز الفكري موضع المساءلة، إلى جانب أهمية اقتران السعي إلى تأسيس الدولة المدنية بتأسيس معاني وقيم التسامح والتقدم والحوار، هذا فضلًا عن الإعلاء من شأن العقل على النقل، والاجتهاد على التقليد، والتسامح على التعصب، فضلًا عن حرصه على وضع قضية الهوية في الاعتبار والأولويات حتى لا نفقد أصالتنا، وربما في كتابه «الهوية الثقافية والنقد الأدبي» (الشروق 2010) يؤكد ويشدد على الهوية الثقافية ووجوب المحافظة عليها في ظل عصر العولمة الذي يسعى قسرًا إلى إشاعة نمط ثقافي بعينه على دول الكوكب الأرضي، وذلك بما يجعل من هذا النمط الثقافي العولمي النمط السائد والمهيمن في كل المجالات المعرفية وأشكال الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
من هنا سارع د. جابر إلى ترجمة تقرير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية؛ إذ نجحت مجموعة من دول العالم الثالث في التجمع من خلال «اليونسكو» وأصدرت هذا التقرير عام 1990 في كتاب عنوانه «التنوع البشري الخلاق» والذي يدافع فيه عن التنوع الثقافي، وتعدد طرق التنمية الإنسانية، إذ كان الهدف هو مواجهة النمط الثقافي الأوحد الذي تسعى العولمة إلى فرضه على شعوب العالم بأسره.
وتولى د. جابر عصفور الإشراف والتقديم لهذا التقرير الذي أصدره عبر سلسلة المشروع القومي للترجمة حين كان تحت مظلة المجلس الأعلى للثقافة، حيث كان د. جابر الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، وصدر الكتاب يحمل رقم (27) في سلسلة المشروع القومي للترجمة (1997) أي إنه من الكتب الأولى التي تمت ترجمتها عبر المشروع وذلك لما لهذا التقرير من أهمية في المحافظة على الهوية الثقافية. يقول جابر في تقديمه:
«إن التنوع البشري الخلاّق هو مبدأ الفعل الابتكاري في الثقافة التي تتوثب بعافية الحرية، وتشيع معاني التسامح وحق الاختلاف واحترام المغايرة، ولا تنفر من إعادة النظر في تقاليدها، لأنها تنطوي على الوهج الداخلي الذي يحول بينها والركون إلى المعتاد أو السائد. ولا يتحقق مبدأ الفعل الابتكاري في مثل هذه الثقافة إلا بحلول استثنائية للمشكلات المستعصية ونظرة أكثر جسارة إلى العقبات القائمة. ويستلزم ذلك مجاوزة التناقضات القديمة، والإسهام الحواري المتكافئ في رسم خرائط عقلية جديدة تتأسس بها علاقات النزعة الكوكبية الوليدة»، أيّ بما يسميه جابر «رسم خرائط عقلية جديدة» تتأسس بها علاقات النزعة الكوكبية الوليدة.
ويرى د. جابر في هذا المقام أن مستقبل البشرية مرهون بالاحترام المتبادل، والتخلي عن رواسب التمييز العرقي أو التعصب المذهبي، والتخلي عن مركزية النظرة أو أحادية التوجه، والإيمان بالحوار بين القوميات والمعتقدات والمذاهب والأنظمة والأفكار دون تمييز بين أغلبية وأقلية.
من هنا ربط جابر بين الرواية وفكر الاستنارة في القرن التاسع عشر، حيث يرى أن النزعة العقلانية في مطلع النهضة العربية هي ضرب من الوعي المدني المحدث الذي يجسد وعود المجتمع المدني ويستجيب لمعاني العقد الاجتماعي الذي به تتأسس الدولة المدنية.
ويعني د. جابر بالوعي المدني فكر المدينة المتحولة بواسطة عمليات التحديث التي تفضي إلى تغيير علاقات الثقافة وأدوات إنتاج المعرفة في المجتمع، إذ تصبح المدينة وعاء سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا وإبداعيًا لتعدد الأجناس والأعراق والطبقات والمعتقدات والثقافات وأنواع الإبداع المختلفة.
من هنا كان يؤمن بأن هذا الوعي المدني المحدث كان مرادفًا لحركة الاستنارة التي انبنت على التسليم بأولوية العقل المقترنة بقدرته الذاتية على تحصيل المعرفة وتطويرها. وما اقترنت به من المطالبة بالحرية والمساواة وتحقيق التقدم والتطور.
وكان يهدف من كل ذلك للوصول إلى أن حركة الاستنارة العربية وما انطوت عليه من وعي مدني هي التي أدت إلى تأسيس فن الرواية. بوصفه فن المدينة المحدثة، وربما كتابه «الرواية والاستنارة» الذي صدر في نوفمبر 2011 يترجم هذه الرؤية ويؤسس لها من خلال تمثيلات المدنية المتحولة، كما جاءت في «رحلة باريس» لفرنسيس فتح الله المرّاشي (1836 - 1874) التي طبعت في بيروت 1867م وغيرها من أعمال يضيق المقام عن ذكرها.

الترجمة
اعتنى د. جابر عصفور بالترجمة عناية بالغة خاصة بعد أن تولى المجلس الأعلى للثقافة في العام 1993، ووجه وجهه شطر ترجمة الكتب الحديثة التي تحمل رؤى معرفية وثقافية وفكرية تسهم في التقدم ومواكبة ركب الحضارة الإنسانية، إذ إن الترجمة هي معرفة للآخر واستيعاب له في آن.
من هنا التفت إلى مشروعه الأثير وهو المشروع القومي للترجمة وبدأ به، وأذكر أنني سألته عن المشروع في بداياته، فقال لي: إن الألف كتاب الأول صدر عن لجنة التأليف والترجمة والنشر؛ حيث جعلت من شأنها أن تنشر الأصيل من المؤلفات، وأن تنقل إلى العربية ثمرات الفكر الأوربي، فقامت بالترجمة والنشر لكتب مهمة مثل: (تاريخ الفلسفة في الإسلام)، تأليف: دي بور، وترجمة: محمد عبدالهادي أبو ريدة، و«تاريخ الفلسفة الغربية»، تأليف: برتراند رسل، وترجمة: زكي نجيب محمود، و«قواعد النقد الأدبي»، تأليف: لاسل آبر كرومبي، وترجمة: محمد عوض محمد، و«محاورات أفلاطون»، ترجمة: زكي نجيب محمود، و«دفاعًا عن الأدب»، تأليف: ديهامل، وترجمة: محمد مندور، و«قصة الحضارة»، تأليف: ول ديورانت، وترجمة: زكي نجيب محمود، ومحمد بدران وآخرين. لكن المشروع لم يحقق غايته الألفية، أعني إصدار ألف كتاب مترجم.
 أما الألف كتاب الثاني فكان مشروع الهيئة المصرية العامة للكتاب التي اهتمت اهتمامًا بالغًا بالترجمة لما لها من أثر فاعل في نقل التراث الإنساني العالمي في العلوم والفنون والآداب، وكانت الترجمة، ضمن رسالة الهيئة. لكن في نهاية الأمر لم يكتب لمشروع الألف كتاب الثاني تحقيق الألفية في الترجمة.
وعندما بدأ د. جابر عصفور مشروع الترجمة في المجلس الأعلى وقام بنقله إلى المركز القومي للترجمة الذي تأسس في العام 2006 كان هدفه إتمام هذه الألفية وتحقيق الحلم الذي باء بالفشل مرتين. وتحقق بالفعل من خلال هذا المشروع القومي للترجمة وإنشاء المركز القومي للترجمة.
وعى د. جابر لأهمية الترجمة في فتح الآفاق المعرفية ومواكبة التقدم الحضاري خاصة في ظل اتجاه العالم نحو المعلوماتية والرقمية والمجتمع المعرفي، ففي مقال نشره في مجلة العربي في يناير 2000 تحت عنوان «نحو مشروع قومي للترجمة»، يضع من خلال هذا المقال استراتيجية معرفية لتأسيس مشروع قومي للترجمة، تقوم على مجموعة من المبادئ، منها:
المبدأ الأول: الخروج من أسر المركزية الأوربية الأمريكية والتحرر من دوائرها الضيقة بما يصلها بغيرها من دوائر العالم على امتداد كوكبنا الذي تحول إلى قرية كونية. وعن كسر الهيمنة اللغوية والتحرر منها يقول د.جابر: «...ولا سبيل إلى نجاح أي مشروع قومي للترجمة ما ظل المشروع وحيد اللغة، أو أسير اللغتين اللتين تتبادلان الهيمنة الثقافية على الأقطار العربية، وأول النجاح هو كسر دائرة الهيمنة، والانفتاح على كل أقطار العالم ولغاته، ومن ثم ممارسة نوع من الحياد الإيجابي في التخطيط لآفاق الترجمة، وإقامة توازن بين المُترجم من اللغات على أساس من تلبية كل منها لحاجة أو أكثر من حاجات مجتمعاتنا فيما يتصل بقضايا التنمية والتحديث والاستقلال السياسي والثقافي في الوقت نفسه».
أما المبدأ الثاني: فيتمثل في الانحياز إلى كل ما يؤسس لأفكار التقدم، ويسهم في إشاعة العقلانية، ويشجع على التجريب، ويؤسس لحضور العلم في حياتنا، ويفتح أفق التجاوب الإنساني الخلاّق في كل المجالات وعلى كل المستويات، خصوصًا من منظور التنوع البشري الخلاق.
والمبدأ الثالث: عدم التقوقع في مجال واحد والتركيز على ترجمة كتب الأدب والإنسانيات والعلوم الاجتماعية، وإهمال بقية العلوم، الذي يترتب عليه ضمور حركة الترجمة في مجالات كثيرة من المعرفة الإنسانية، وعلى رأسها مجالات العلوم التطبيقية.
أما المبدأ الرابع: فيتجلى في العناية بترجمة الأصول المعرفية التي أصبحت أقرب إلى الإطار المرجعي في الثقافة الإنسانية المعاصرة.
المبدأ الخامس: يشدد على الترجمة عن لغة الأصل مباشرة، والتوقف عن اللجوء إلى اللغة الوسيطة في الترجمة.
المبدأ السادس: ينتصر للعمل الجمعي القومي، إذ يقوم على قومية الجهد الذي يتجاوز قطرًا عربيًا بعينه، ويحتوي الأقطار العربية كلها أو جلّها، فلابد للمشروع أن يعرف طموحه النظري بنزوع قومي يعين على تحقيق الغاية، ويقيد من الخبرات الثقافية الكثيرة الموزعة على امتداد العالم العربي.
لكلّ هذه المبادئ والاستراتيجية الواضحة للمشروع القومي للترجمة تم إدراج المشروع في المجلس الأعلى للثقافة، باعتباره من المشروعات الأساسية للمجلس، إذ اقتنع فاروق حسني وزير الثقافة الأسبق في مصر بهذا المشروع. وبدأ يرى النور في عام 1995، حيث صدر الكتاب الأول منه وكان كتاب «اللغة العليا» للناقد الفرنسي جون كوين وترجمة د. أحمد درويش.
لقد ربط د. جابر ربطًا وثيقًا بين التقدم في العالم الثالث ومشروع شامل للترجمة في كل مجالات الحياة التي نسعى إلى تغييرها وتطويرها. فالترجمة - كما يرى - سبيل من سبل التغيير والتطوير، وباب من أبواب خروج العالم الثالث من أزمته الحضارية.
لقد كان د. جابر عصفور يؤمن إيمانًا مطلقًا بأن ازدهار حركة الترجمة علامة أساسية من علامات مجتمع المعرفة وحيويته، وأن إهمال الترجمة عند أيّ أمة هو أحد أسباب تراجعها وتخلفها وعدم لحوقها بقاطرة التقدم الإنساني، وقد تحقق الحلم، ففي افتتاح الملتقى الدولي الثالث للترجمة في فبراير 2006 تم الاحتفال بصدور الكتاب الألف في المشروع القومي للترجمة. إذ ترك بعدها أمانة المجلس الأعلى للثقافة ليتفرغ لإدارة المركز القومي للترجمة، ويتسنى له استكمال مشروعه الثقافي والحضاري القائم على العناية بالترجمة في مختلف العلوم.
وسعى المشروع القومي للترجمة من لغات لا تتوقف على الإنجليزية والفرنسية فحسب؛ بل تشمل الإسبانية، والتركية والفارسية والأوردية والصينية حتى بلغت الترجمة في هذا المشروع من ثلاثين لغة تقريبًا. وهذا التنوع في اللغات لا شك أنه مصحوب بتنوع في مصادر المعرفة أيضًا.

آفات الترجمة
تجدر الإشارة إلى أن د. جابر عصفور في الوقت الذي كان يدفع للترجمة في مختلف العلوم والفنون وبأي لغة من اللغات، لم يغفل آفات الترجمة التي راح يرصدها، ومنها: غلبة طابع التشرذم والعشوائية على حركة الترجمة العربية، وتقطع جسور الاتصال وعلاقات التواصل بين المثقفين العرب، إلى جانب غياب التخطيط وانعدام وجود مركز للمعلومات يمكن الرجوع إليه لمعرفة ما تمت ترجمته. هذه الآفات أدت إلى ترجمة الكتاب الواحد أكثر من ترجمة، وما يترتب على هذه الترجمات من فوضى اصطلاحية تتشعث فيها الأسباب وتتداخل النعرات والعصبيات الإقليمية.
ومما سبق يتضح لنا أن هذا الخطاب الثلاثي الأضلاع القائم على نقد التراث النقدي والاستنارة والترجمة يمكن فهمه على أنه خطاب بدأ بنقد الذات والتأكيد على الهوية العربية من خلال الوعي بالتراث ونقده، وفهم الماضي الذي من خلاله تتكشف لنا الاستنارة وأبعادها المعرفية والفكرية والثقافية عبر العناصر التراثية ومن استتبع في حمل هذا الإرث والحفاظ على الهوية في ما بعد من رواد الاستنارة الذين كرسوا جهودهم لدعم المجتمع المدني والتطلع للسير في ركب الحضارة عبر الانفتاح على الآخر والتواصل معه بترجمة التراث الحضاري والإفادة منه في القائم والقادم على السواء ■