د. جابر عصفور بين صلاح عبدالصبور وأمل دنقل

د. جابر عصفور بين صلاح عبدالصبور وأمل دنقل

 اهتم الراحل الدكتور جابر عصفور في مصنفاته الكثيرة بمقاربة أسئلة وقضايا، فضلاً عن تناوله مجموعة من التجارب الإبداعية والفكرية والنقدية، لأسماء وازنة، ممن تناولهم د. جابر عصفور في كتبه وأبحاثه وحواراته، وفي مقالاته المنشورة في عديد من المجلات والدوريات الثقافية.

 

تبقى مجلة «العربي» الكويتية من بين المجلات الثقافية العربية التي ظل د. جابر عصفور وفيًا للكتابة فيها، بشكل غدت مقالاته فيها تشكل موعدًا قارًا مع شريحة معينة من قرّاء هذه المجلة الرائدة، وهي تواصل أداء رسالتها التنويرية والفكرية والنقدية التي نهضت بها منذ إنشائها.
 وفي هذا الإطار، لابد من الإشارة إلى ذلك الارتباط الإنساني والثقافي والوجداني، الذي ظل قائمًا بين د. جابر عصفور ومجلة العربي، منذ بداية علاقته بها إلى أن رحل عن عالمنا، وهو الذي يشير في مقالته «ذكريات مجلة العربي»، إلى بداية ذلك الارتباط، منذ كان طالبًا، «فهي المجلة التي صدرت في شهر ديسمبر عام 1958، ومن حسن الحظ أنني قرأت العدد الأول في ذلك التاريخ البعيد، وكنت طالبًا أدنو من عامي الخامس عشر في مدينة المحلة الكبرى»، (العربي ـ العدد  721 / 2018). ويواصل د. جابر عصفور، معبرًا عن شعوره السابق تجاه هذه المجلة: «كانت فرحتي بظهور هذه المجلة راجعة لأنها كانت أولى المجلات التي أراها على ما كانت عليه من جمال في الإخراج والإتقان في الإعداد، وبراعة التحليل، وبصيرة مرهفة تتطلع إلى المستقبل، وشعور قومي متفائل يغلب على المقدمة التي كتبها رئيس التحرير في ذلك الوقت»، كما يحدد سياق ارتباطه بهذه المجلة، في قوله «الطريف أن مجلة العربي ظلت أنيسي إلى أن قبلت العمل أستاذًا زائرًا في جامعة الكويت».

بداية الكتابة في «العربي»
 هكذا، شرع د. جابر عصفور في الكتابة لمجلة «العربي»، بعد عودته إلى القاهرة قادمًا من الكويت، فوفى بذلك بوعده الذي قطعه مع
د. محمد الرميحي، رئيس تحرير المجلة وقتئذ، الذي كان قد دعاه إلى الكتابة فيها. ويضيف 
د. عصفور في السياق نفسه: «وهآنذا عندما أكتب احتفالًا بالعام الستين لمجلة العربي أشعر بالعديد من ذكريات القارئ المفتون بمجلة العربي، ثم الأستاذ الذي لا يزال يسهم بالكتابات، ثم الشيخ الذي أصبح بمنزلة الأب، لعدد غير قليل لكتاب المجلة التي أصبحت أكثر منها عمرًا».
وفي اعتقادي، أن مقالات د. جابر عصفور، المنشورة في مجلة العربي تبقى برصانتها وعمقها وجرأتها وحجيتها من بين أهم المقالات التي كتبها د. جابر عصفور عن بعض أصدقائه من المبدعين والمفكرين والنقاد والفنانين، وغيرهم، من حيث كونها مقالات تستمد قيمتها المرجعية، إنسانيًا وثقافيًا وحكائيًا ونوستالجيًا ورمزيًا ودلاليًا، من طابعها الثقافي العام، ومن تنوعها، وتعدد مواضيعها، بشكل يمكِننا نحن ليس فقط من الاستمتاع بحكاياتها وذكرياتها وسرودها ورحلاتها وتفاصيلها واستعاداتها، بل أيضًا الاستفادة من تحاليلها وخلاصاتها ونتائجها.
واللافت في مجموع مقالات د. جابر عصفور في مجلة «العربي»، كونها تتوزع على مجموعة من المواضيع والتجارب الأدبية والنقدية والفكرية والقضايا والذكريات والسير المختلفة، التي تناولها بالكتابة والنقد والتأمل والاستيحاء، في مقالاته المتنوعة، بما فيها احتواء أعداد منها على شذرات متناثرة من سيرة د. جابر عصفور نفسه.
من هنا، تكمن صعوبة حصر كل الكتاب الذين تناولهم د. جابر عصفور في مقالاته بمجلة العربي، ورصَد جوانب من تجاربهم وكتاباتهم الإبداعية والنقدية والذاتية، في انحدار معظمهم من مصر خصوصًا، فضلًا عما تناوله من تجارب لكتاب آخرين من بلدان عربية أخرى: من الكويت وفلسطين والسودان والمغرب والجزائر وتونس والعراق، إلى جانب تجارب لبعض الشعراء العرب، في انتمائهم إلى عصور سالفة.
وأمام تعدد تجارب المفكرين والكتاب والأدباء والنقاد، ممن تناولهم د. جابر عصفور في مقالاته، يمكن أن نتوقف عند بعضهم أولئك الذين هيمنوا بحضورهم وبتجاربهم في مقالاته، فخصهم بأكثر من مقالة وفي أكثر مناسبة. 

عبدالصبور ودنقل
أمام كثرة مقالاته في مجلة «العربي»، سنقتصر على رصد مستوى محدد من اهتماماته بتجارب بعض أصدقائه من الكتاب المفضلين عنده، ممثلة بالتجربتين الشعريتين للشاعرين المصريين صلاح عبدالصبور وأمل دنقل.
وفي قراءة موازية بمقالات د. جابر عصفور التي خص بها هذين الشاعرين معًا، على امتداد عقود زمنية خلت، سنجد أن الشاعر صلاح عبدالصبور، يأتي في المرتبة الأولى، على مستوى الاهتمام به (ورد في 18 مقالة)، بمثل حضور هذا الشاعر، كذلك، على مستوى مقروءات جابر عصفور الأولى في مجلة «العربي» نفسها، كما في قوله: «مازلت أذكر أنني قرأت على صفحات مجلة العربي ذكريات عبدالصبور التي كتبها بعنوان (على مشارف الخمسين)، فضلًا عن عديد من قصائده التي نشرها في المجلة». كان ذلك قبل أن يتعرف د. جابر عصفور على صلاح عبدالصبور بعد أن أصدر ديوان «أحلام الفارس القديم 1964»، الذي هو من أكثر دواوينه أصالة وتميزًا. فيما يأتي الشاعر أمل دنقل في المرتبة الثانية، بحضوره في خمس عشرة مقالة، عدا حضوره الموازي، بشكل عرضي، في مقالات أخرى لجابر عصفور، في هذه المجلة نفسها.
ويعتبر هذان الشاعران معًا من أهم الشعراء العرب المفضلين عند د. جابر عصفور، بما لهما من قيمة شعرية كبيرة، فضلاً عن حضورهما المهيمن في تفكير جابر عصفور وفي اهتماماته النقدية، وأيضًا على مستوى علاقاته الإنسانية والوجدانية والثقافية التي ظلت قائمة بينهم جميعًا، وهو القائل عن صلاح عبدالصبور، في مقالته بعنوان «بوادئ الكتابة»: «من المؤكد أن أكثر هذه الإنجازات تأثيرًا في الوجدان شعر صلاح عبدالصبور...»،  ويضيف في المقالة نفسها: «إن فتنتي بصلاح عبدالصبور، وإعجابي به لا يزال قائمًا، ونتيجة هذا الإعجاب كتبت منذ ما يقرب من نصف قرن قصيدة «الأرض والله» («العربي»، العدد 735-2020)».
وليس ذلك باهتمام غريب عن د. عصفور، فقد سبق له أن نشر، في فترة زمنية متقدمة، دراسة عن «تطور الوزن والإيقاع في شعر صلاح عبدالصبور»، في مجلة «المجلة»، (القاهرة، فبراير 1969م)، (عن مقالته «ذكريات الكتاب الأول»: «العربي»، العدد 732 - 2019).
أما الشاعر أمل دنقل ، فيحكي د. عصفور عن بداية علاقته به، في تطورها الإنساني والوجداني، وفي تأثيرها الأدبي، في مقالته «ذكريات أمل دنقل» («العربي»، العدد681 - 2015)، ومن بين ما قاله عنه: «أتاح لي عمل النقد أن أدخل في علاقة صداقة مع كثير من المبدعين، لكن علاقتي مع أمل دنقل (1940-1983) كان لها وضع خاص، فقد ظل أمل دنقل أقرب الشعراء إلى قلبي وعقلي»، بما أنها علاقة نشأت عام1970، بعد ظهور ديوان أمل دنقل الأول «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة»، وظلت العلاقة بينهما سطحية، إلى أن توثقت مع صدور ديوان أمل دنقل الثالث، بعنوان «العهد الآتي» سنة 1975.
ولم يكن صلاح عبدالصبور، الذي كان يرعى أمل دنقل ولا يكف عن تشجيعه في تلك الفترة بعيدًا عن د. جابر عصفور وأمل دنقل، فقد جمعهم ديوان أمل دنقل «مقتل القمر»، في جلسة إذاعية، خصصت لمناقشته، في برنامج «مع النقاد» بالإذاعة المصرية، رغم تغيب أمل دنقل عن ذلك اللقاء.

اهتمام خاص بالشاعرين
أما علاقة د. جابر عصفور النقدية بشعر أمل دنقل فلم يكتب لها أن تبدأ إلا بعد مرور خمس سنوات على رحيل الشاعر، أي بعد أن خفت آلام الجرح وقسوته، فكتب جابر مقالته الأولى عن ذكرى أمل دنقل، في جريدة «الحياة» التي كان ينشر فيها مقالاته لسنوات، كما كان قد قرر أن يكتب عنه كتابًا كاملاً ينصف شعره، ويركز على القضية الأساسية لهذا الشاعر (عن مقالته «الاحتفال بأمل دنقل»، «العربي»، العدد 705-2017).
وتُبرز مختلف هذه الاستشهادات الواردة على لسان د. جابر عصفور، والتي سقنا جزءًا منها فقط بالنظر لكثرتها، تبعًا لتعدد مقالاته عن هذين الشاعرين المصريين الكبيرين، مدى اهتمامه الخاص بهما، وذلك بشكل أصبح معه التمييز بينهما، على مستوى حضورهما معًا في وجدان
د. جابر عصفور وتفكيره النقدي، أمرًا صعبًا، بحيث يكتب، وبشكل متوازٍ، في إحدى مقالاته: «خواطر عن صلاح عبدالصبور»، ويكتب في أخرى، عن «ذكريات أمل دنقل»، فيما يتناول في مقالة «قصيدة مجهولة لأمل دنقل»، وفي أخرى «قصيدة قناع لصلاح عبدالصبور»، وغيرها من مقالات
د. عصفور عن هذين الشاعرين المفضلين عنده. 
وإلى جانب حضور الشاعرين معًا في مقالات د. عصفور فقد كانا أيضًا حاضرين على مستوى الاحتفال بذكراهما، تحت إشراف
د. عصفور نفسه، لما كان يشغل منصب أمين عام المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، وهو القائل: «وأذكر أن وقع الاحتفال بالذكرى العشرين لوفاة أمل دنقل الذي أقمناه في الفترة من 18 إلى 21 مايو سنة 2003 لم يكن يقل نجاحًا عن الاحتفال بمرور عشرين عامًا على وفاة صلاح عبدالصبور، الذي أقامه المجلس الأعلى للثقافة في الفترة من 12 إلى 14 نوفمبر سنة 2001 قبل احتفالية أمل دنقل بعامين»، فضلا عن حضور الشاعرين، وبشكل أوسع وأكثر تفصيلاً ودقة، في كتب جابر النقدية، كما في كتابه عن صلاح عبدالصبور: «رؤيا حكيم محزون... قراءات في شعر صلاح عبدالصبور» (الهيئة المصرية العامة للكتاب 2017)، وفي كتابين اثنين عن أمل دنقل: «قصيدة الرفض: قراءة في شعر أمل دنقل» (الهيئة المصرية العامة للكتاب 2017)، و«أمل دنقل... ذكريات ومقالات وصور» (دار بتانة للنشر 2018)، وفي كتاب ثالث بعنوان «عوالم شعرية معاصرة» (كتاب العربي، العدد 88، أبريل 2012)، جمع فيه د. عصفور مقالاته المنشورة في مجلة «العربي»، وفيه يتناول بالقراءة دواوين شعراء ثلاثة (صلاح عبدالصبور، وأمل دنقل، ومحمود درويش).
وهو ما يجعل عدد مقالات د. عصفور التي خص بها صلاح عبدالصبور وأمل دنقل، فضلاً عن كتبه المنشورة عنهما، تفوق عدد المقالات الأخرى التي خص بها كتابًا آخرين، كان لهم، هم أيضًا، ثقل وتأثير وحضور لافت في اهتمامات د. عصفور، وفي الثقافة والفكر والإبداع العربي بشكل عام ■