بين جابر عصفور وإدوارد سعيد في مدار النظرية

بين جابر عصفور وإدوارد سعيد في مدار النظرية

شاع تيار النقد الثقافي بشكل لافت خلال العقود الأربعة الأخيرة، جنبًا إلى جنبٍ مع تسمياتٍ أخرى، مثل الدراسات الثقافية والمادية الثقافية والشعرية الثقافية ونظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي... وهي تسميات لا تخلو من فروق ومن بعض نقاط التلاقي أيضًا. وللإشارة، فإن د. جابر عصفور (-1944 2021)، موضوع هذا الملف، كان قد أبدى ميلًا جليًّا للنظرية الأخيرة،(Postcolonialism) إذ يشير إليها في جل كتبه سواء في مجال تخصصّه الأثير الذي هو مجال النقد الأدبي أو مجال التنوير العربي الذي أفرد له كتبًا كثيرة أيضًا. ويمضي، في كتابه «آفاق العصر» (1997)، إلى أن خطاب ما بعد الاستعمار نوعٌ أخير من النقد الأدبي. ويصوغ هذا الخطاب، كما يواصل، خطابًا مناقضًا لخطاب الكولونيالية، كما يقوم بدور «أوديب النقيض» الذي يدمّر «سجون النسق الكولونيالي». اللافت أن من يصوغ هذا الخطاب النقيض نقاد العالم الثالث بالدرجة الأولى، أولئك النقاد الذين استقرّوا في عواصم الغرب (الرأسمالي). 

 

في هذا الصدد يشدّد د. جابر عصفور بدوره، على «الثالوث المعتمد» أو «المكرّس» في النظرية والمتمثّل في الأكاديمي الأمريكي والكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد (E.Said) (2003-1935) والناقد الهندي هومي بهابها (H. Bhabha) والناقدة الهندية غياتري جاكرافورتي سبيفاك (Gayatri Chakravorty Spivak)؛ لكنه يضيف إليهم الأكاديمي الهندي إعجاز أحمد. وفي إثر نصوص هؤلاء حصل تحوّل عميق في مجال المعرفة وهيكل النظرية. وقبل ذلك سعى جميع هؤلاء إلى تعرية «أساطير الهيمنة البيضاء» بحثًا عن عوالم أخرى تؤكّد التعددية الإنسانية. وكما طرح الناقد الثقافي البريطاني روبرت يونغ (R. Young)، في كتابه «الميثولوجيا البيضاء»، فالغرب «معطى تاريخي»؛ الأمر الذي لا يجعله «فكرة قابلة للتقويض والنقض». وخلاصة د.  جابر عصفور أن خطاب 
ما بعد الاستعمار ما كان ليظهر لولا تهاوي المركزية الأوربية في خطاب النقد الأدبي الحالي، بعد أن غربت شمسها نهائيًا عن العلوم الإنسانية مع كتاب برنال عن «أثينا السوداء» (1987) وكتاب سمير أمين عن «نزعة المركزية الأوربية» (1988)، والمقصود كتابه «نحو نظرية للثقافة، نقد التمركز الأوربي والتمركز الأوربي المعكوس» حتى نحافظ على صيغة الترجمة العربية للكتاب التي ظهرت ضمن سلسلة دراسات الفكر العربي من معهد الإنماء العربي (1989). المؤكد ثمة كتب أخرى بخاصة تلك التي تندرج ضمن «فلسفة التاريخ»، وأسهمت بدورها في هذا التهاوي ككتب اشبينجلر وأرلوند توينبي وغيرهما. ومن ثمّ فقد «ذهبت إلى الأبد الدنيا التي كان فيها بعض النقد الأورو أمريكي هو الإطار المرجعي الوحيد...» كما يقول د. جابر عصفور في «آفاق العصر» (ص227). 

نقاد العالم الثالث
الظاهر أنه سيكون من الصعب القول بأن هذه الدنيا ولّت إلى الأبد؛ فـ«التموضع خارج السياق الغربي ليس تامًا» كما يرد سعد البازعي في تقديم كتابه «استقبال الآخر: الغرب في النقد العربي الحديث». يوضّح الفكرة في ردّ على د. جابر عصفور ذاته قائلاً: «النقد، بل النشاط الثقافي بمجمله، في كثير من دول العالم، وحتى بين أولئك الذين يقصدهم عصفور بوصفهم نقادًا من العالم الثالث استطاعوا زحزحة التمركز الغربي، ظل غارقًا إلى حد كبير في النموذج الثقافي الغربي بمفاهيمه واستراتيجياته، متحيّزًا بتعبير آخر ومغتربًا عن ذاته الممكنة». ويمكن أن نضيف أن ما حصل، في هذه الحال، أن الغرب «أُجْبر»، لأوّل مرة، كما يتصور البعض، على الإنصات إلى الكتابات القادمة من مستعمراته السابقة.
لكن أهمّ ما تطرحه نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي أن الثقافة ليست مجرد وسيلة معرفة، بل هي تمثلات؛ وذلك كله في المنظور الذي يجعل من الثقافة «موقعًا للمقاومة» كما يشرح ذلك هومي بابا على امتداد كتابه الشهير «موقع الثقافة» (1994). لذلك تتيح دراسة الخطاب الثقافي إمكانية التعرّف إلى تخييل الآخر، وكيفية تنميطه وقولبته لتهميشه وإقصائه... من منظور الاستعلاء الذي يلوي بعمليات التخييل والتنميط. ولعل هذا ما قصد إليه إدوارد سعيد، في كتابه «الثقافة والإمبريالية»، بـ«الذبح البلاغي» (الترجمة العربية، ص95). 
على صعيد الطرح النقدي، تركز النظرية على الرواية أو «زمن الرواية» تبعًا للعبارة التي أشاعها د. جابر عصفور خلال كتابه الذي يحمل العنوان ذاته «زمن الرواية» (1999)؛ وكان الكتاب قد أثار نقاشًا واسعًا في النقد العربي. ثمّ «زمن الرواية ــ شعر الدنيا الحديثة» (2019) الذي هو تطوير للكتاب السابق. كما تركز النظرية على الرواية بصفتها جنسًا أدبيًا واكب المشروع الاستعماري. من ثمّ ليس غريبًا أن يركز الناقد د. جابر عصفور على الجنس الروائي في السياق العربي سواء في الكتابين الأخيرين، فضلاً عن قراءات عديدة في نماذج من الرواية العربية ضمّها إلى كتابه «المقاومة بالكتابة قراءة في الرواية المعاصرة» (2016)، أو أن يصل بين الرواية والتنوير كما في كتابه الدسم «الرواية والاستنارة» (2011). على هذا المستوى كشف النقد الثقافي، في حال د. جابر عصفور، عن إمكانات لافتة على مستوى تحليل الأنساق الكبرى والأصوليات الدينية والهويات القاتلة... وغير ذلك من التحديات ودعاوى التطرف التي أطل من خلالها العالم على الألفية الثالثة.
في السياق ذاته، فإن تأثير إدوارد سعيد بارز في كتابات د. جابر عصفور من خلال جملة من المفاهيم التي يوظفها صاحب «أنوار العقل» في مقدّمها مفهوم الخريطة (خريطة التنوير) ومفهوم التخييل (الإسلام التخييلي) والنظرة المدنية (للتراث) والمواجهة التي لا تحيد كثيرًا عن المقاومة... هذا بالإضافة إلى مفهوم الخطاب، خصوصًا ما يعرف بـ«الخطاب النقيض». ومفهوم الخطاب يبدو مندغمًا في قراءاته لأكثر من جنس أدبي (الشعر والرواية والمسرح بنسبة أقل، كذلك إشاراته إلى الدراما التلفزية)؛ وهو ما يبرز في كتابه الجريء والحدّي بدءًا من عنوانه «ضد التعصب» (2000) ثمّ «مواجهة الإرهاب» (2003) الذي دعا فيهما إلى تعرية الإرهاب، كذلك مقاربته عبر الإبداع الأدبي والثقافي وعبر رؤية الناقد في تماسه مع الموضوع ذاته بأسلوب نابه ومتحرّر، فالنقد بدوره مطالب بالتعاطي مع إشكالات المواجهة، وذلك كله في المنظور الذي قاد  د. جابر عصفور إلى التشديد على «موقع الثقافة» ذاتها وتمثلات المثقف في نطاق المواجهة وإن في غير سياق الإيغال في «النزعة الإنسانية الدنيوية» التي مضى إدوارد سعيد إلى أبعد التخوم فيها. كما يمكن الوصل بينهما من ناحية التشديد على التنوير ذاته، ودور المثقف البارز على هذا المستوى. في هذا الصدد يقول إدوارد سعيد في حوار معه: «ولهذا، أعتقد أننا لم ننل قسطنا بعد من سيرورة التنوير والتحرير، بالمعنى الفكري. وأعتقد أن اللوم يقع على المثقفين، إذ ليس بوسعنا أن ننحي باللائمة على الإمبريالية والصهيونية» (الكرمل، العدد 78، شتاء 2004، ص111). لكن من ناحية موازية أو مقابلة فإن دور المثقف الملتزم بالبقاء في بلده، في تشابكه مع «حقول الألغام» كما ينعتها المفكر اللبناني علي حرب، انطلاقًا من النقد الثقافي، هذا الدور لا يقل أهمية عن دور «المثقف العالمثالثي في الغرب» أو «المثقف المنفي» الذي حصر إدوارد سعيد «تمثلات المثقف» في إطاره. فالمثقف العربي يصطدم بأشكال وتحديات محيطه المباشر. ويمكن أن نحيل، هنا، على ما أسماه 
د. جابر عصفور بـ«نقد ثقافة التخلف» في دلالة على عنوان كتابه الصادر عام 2008 وهو العام ذاته الذي صدر فيه كتابه «مقالات غاضبة» (2008) و«جامعة دينها العلم» (2008)، ثم «نحو ثقافة مغايرة» الذي صدر بعد عام واحد (2009). وفي الكتاب الأخير طرح جملة من الأفكار والتصوّرات لتدارك حال الأزمة الثقافية التي يواجهها الشارع العربي. إجمالاً، جميع هذه الكتب تفيد في سياق «المحيط المباشر» الذي أشرنا إليه. 

جابر عصفور استثناء
وفيما يتصل بـ«التلقي العربي» لخطاب ما بعد الاستعمار، ممثلاً في إدوارد سعيد، ومن ناحية «الوعي بالنظرية» في سياقها الأكاديمي الذي لا يخلو من صلات مع السياق الثقافي والسياسي العام، فإن هذا الصنف من التلقي يكاد يكون منعدمًا مقارنة بـ «التلقي الأيديولوجي» الذي يطغى داخل تلقي منجز إدوارد سعيد في الثقافة العربية؛ وهذا ما حاولنا البحث فيه بكتابنا «الوعي المحلق إدوارد سعيد وحال العرب» . على هذا المستوى، المتعلق بالنظرية، يكاد الناقد المصري د. جابر عصفور يشكل استثناء بالنظر إلى دارسي إدوارد سعيد بما في ذلك من المتخصصين فيه، إذ من النادر أن يتم الالتفات إلى معطى النظرية في منجزه، بل يتضاعف المشكل، أكثر، بالنظر إلى «المحاورة المفترضة» تجاه النظرية؛ المحاورة التي لا تقف عند حدود العرض فقط، إنما تتجاوزها نحو المساءلة التي بموجبها تتكشف المقولات النظرية والمستندات التصورية للنظرية... إلى ذلك الحد الذي يفيد النقد العربي على مستوى رسم بعض معالم الانخراط في النظرية النقدية العالمية.
لكن قبل التوقف عند كتاب د. جابر عصفور «نظريات معاصرة» (1998) الذي تبلغ، في قسمه الأخير، محاورة خطاب ما بعد الاستعمار، من منظور محاورة النظرية ذاتها، ذروتها المعرفية، لا بأس من التوقف عند كتاب جابر عصفور «آفاق العصر» الذي ظهر قبل الكتاب السابق بعام واحد فقط. والكتابان يعنيان، من منظور نقد النقد، بالتنظير الذي تصاعدت نبرته على مدار النصف الثاني من القرن العشرين؛ ممّا يحفز على الوصل بينهما في هذا السياق. و«آفاق العصر»، شأنه شأن «نظريات معاصرة»، جملة من المقالات نشرها جابر عصفور على مدار التسعينيات في جريدة «الحياة» (اللندنية) وبعض المجلات العربية. وتعنى هذه المقالات بتحوّلات النقد من ناحية مفاهيمه المحورية التي يتصدّرها مفهوم الخطاب والكتابة والنص والعمل... جنبًا إلى جنبٍ مع مفاهيم، تعود إلى فترة سابقة على النقد الثقافي، مثل مفهوم «الصورة» الذي كان في المدار الذي يصله بالخيال قد استأثر ببدايات جابر عصفور التي تمحورت حول قراءة التراث النقدي والبلاغي عند العرب بخاصة كتابه «الصورة الفنية» (1974).
ولا يتوقف «آفاق العصر» عند المفاهيم فقط، إنما يتجاوزها نحو مناقشة قضايا محددة مثل قضية المنهج واللغة الشارحة والنقد الأدبي والترجمة. فالكتاب يطرح، اعتمادًا على آليات الشرح والتفسير والتأويل الذي يبلغ حد الاستنطاق في أحيان، نوعًا من الوعي النقدي بالسند النظري للنقد الأدبي في الغرب. وذلك كله في المنظور الذي بموجبه يتمّ رسم «آفاق عصر حداثي» ما أحوج الخطاب النقدي العربي المعاصر إلى الانخراط فيه من أجل الإسهام في صياغة دلالاته المتنوّعة. الكتاب، حتى إن كان يعنى بالنقد الغربي، وبما لا يدع أدنى مجال للشك في أن إدوارد سعيد «نتاج للغرب»، لا يخلو من نبرة عربية رحبة تسعى إلى التموضع في قلب النقاش الذي يلوي بالنظرية التي صارت علامة دالة على صحوة النقد الأدبي المعاصر. وذلك في المنظور الذي يدعو إلى الانخراط في «العالمية» أو «آفاق العصر» تبعًا لتسمية جابرعصفور الأثيرة.
ويختتم د. جابر عصفور الكتاب بالقرن العشرين الذي ودعناه وراء «غيوم الأصولية والنزعات العرقية» التي هي، بلغته، وفي سبب من أسبابها، «ردّ فعل موازٍ لتصاعد النزعات الكوكبية». وهي الغيوم التي برع تزفتان تودوروف في «تشخيصها» بكتابه «الذاكرة والأمل» (2000) الذي يعرض فيه، من منظور تاريخ الأفكار (بغير معناه الصنمي)، وبالتركيز على تسمية «الشر»، لحصيلة القرن العشرين، الأوربي تعيينًا، الذي كان قرن الشمولية. ويواصل جابر عصفور، بل يكرر في مواضع كثيرة من كتاباته، أن القرن العشرين كان، تبعا لتوصيف الفيلسوف الأمريكي ريتشارد روتي، «قرن النقد الأدبي». فقد حل، بالفعل، النقد الأدبي محل الفلسفة في الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا في وظيفتها الأساسية («نظريات معاصرة»، ص268). وربما توجبت الإشارة إلى فكرة أخرى لا تحيد عن هذا السياق، وهي أن فلاسفة مثل هيجل وهايدغر وآخرين كانوا يُدَرّسون في شعب الأدب وتاريخ الفن بالجامعات الأمريكية أكثر ممّا كانوا يدرّسون في شعب الفلسفة كما أشار إدوارد سعيد إلى ذلك في مقاله «أمريكا الأخرى» (لوموند ديبلوماتيك، عدد مارس 2003). 
وأول ما تجدر ملاحظته أن د. جابر عصفور لا يحاور إدوارد سعيد بمفرده، إنما ينظر إليه في سياقه العام الذي هو سياق النظرية في عالمها الأنجلو أمريكي. ويمهّد لمحاورة النظرية بمحور شامل يتطرّق فيه لما يسميه «وعي النقد الأدبي بنفسه» انطلاقا من «حركة النظرية» التي أفضت بالنقد الأدبي ذاته إلى أن يبلغ درجة عالية من «الوعي بالذات» الذي هو بلغته «مجلى من مجالي أو علامة من علامات النقد الأدبي في عصرنا» (ص268). ويتخذ هذا الوعي مظاهر متعدّدة أبرزها الوفرة اللافتة من كتب «النظرية النقدية» أو كتب «النظرية» كما يحددها. ويدرس «حركة النظرية» من خلال جملة من المحاور تتقـدّمها «اللغة الشارحة» و«أهمية النظرية» و«دلالة النظرية» و«تفجّر التنظير» و«صحوة النظرية» و«الموقف من النظرية». من ثم فإن كتابي إدوارد سعيد، «بدايات» (1975) ثمّ «العالم والنص والناقد» (1983) بصفة خاصة، اللذين يعرض فيهما صاحبهما لـ«الوعي النقدي»، من حيث هو «وعي مغاير» أو «مضاد» للنظرية، وتحديدًا من خلال «النقد المدني» (كما يترجمه عصفور)، لا ينفصلان عن كتب أخرى لاحقة أسهمت، من مواقع مختلفة، في «تفجير» التنظير أو الحديث عن النظرية. وهذا ما فعله، كما يحصي د. جابر عصفور، تيري إيجلتون في كتابه «دلالة النظرية» (1990)، وجيرالد جراف في «لماذا النظرية» (1990)، وبول بوفيه «في صحوة النظرية» (1992) وإعجاز أحمد «في النظرية» (1992). وبعض هذه الكتب وضعت مشروع سعيد موضع المساءلة، بل قدّمت أقوى نقد لهذا المشروع كما في حال الكتاب الأخير... ومن موقع التسليم بـ«سلاح النظرية» ودورها «التحرّري الفاعل».
اللافت أن د. جابر عصفور يشدّد على «اليسار الأمريكي» في الدور الذي لعبته «حركة النظرية». بلغته فـ«اللجوء إلى النظرية لإبراز فائدتها في المعارك المتباينة جاء، أصلاً، من نقاد اليسار الأمريكيين أمثال إدوارد سعيد...» (ص305). وذلك كلّه في المنظور الذي أفضى بالحركة ذاتها إلى المساءلة السياسية للفلسفة النصية والنزعات اليمينية المحافظة... مادامت الأكاديميا لا تنفصل عن التأثيرات السياسية، فضلاً عن أنها ذات بعد سياسي. من ثمّ فإن «النقد المدني»، الذي نادى إدوارد سعيد به، ومن حيث هو وعي مضاد بالنظرية، يضاد جميع أصناف «الأصولية». 

محاورة عصفور لمنجز سعيد
خلاصة القول تكشف محاورة عصفور لمنجز سعيد، من ناحية النظرية، ميل المحاوِر إلى كتاب «النص والعالم والناقد» مقارنة بـ «بدايات» الذي «لم يحفل بالحديث» عن النظرية حتى وإن كان يعدّه عصفور «بيانًا» يعارض «بيان» كتاب جونتان كولر «النظرية الأدبية» الذي صدر في العام نفسه الذي صدر فيه كتاب «بدايات». وفي هذا الكتاب أشار جونتان كولر إلى أننا نعيش في زمن «انفجار التنظير» (الترجمة العربية، ص151) ويبرع جابر عصفور في التقاط دلالة كل «بيان» على حدة، في منظور كاشف عن تصادم نمطين تصوّريين نتيجة «التصنيف» القائم في المجال النقدي من جهة، والتباس الأكاديمي بالسياسي من جهة موازية. وحقيقةً، وهو ما كنا قد أومأنا إليه، من الصعب القول إن كتاب «بدايات» لا يحفل بالتنظير. 
وعلى ذكر «العالم والنص والناقد» ينبغي عدم التغافل عن العرض الذي أنجزته تلميذة إدوارد سعيد سالفة الذكر فريال جبور غزولي حول الكتاب في مجلة «فصول» القاهرية (المجلد 4، العدد 1، 1983)، وبعد ذلك ضمته إلى كتابها «الفلسطينيون والأدب المقارن» (2000) الذي كرّسته لأسماء فلسطينية أخرى هي: روحى الخالدي وعز الدين المناصرة وحسام الخطيب. وأهم ما يلفت الانتباه، في العرض، أن الكتاب («العالم النص والناقد») «خصب» و«مثير عقليًا ومؤثر وجدانيًا» (ص55 - 56). العرض الذي من خلاله اطلع القارئ العربي على الكتاب، والعرض الذي نبّه إلى وجه الناقد في إدوارد سعيد الذي كان كتاب «الاستشراق» قد غطى عليه. هذا، وإن كان الكتاب الأخير مكتوباً من منظور الناقد الأدبي الذي ظل إدوارد سعيد نفسه يشدّد عليه ضمن اهتماماته المتعدّدة. ومع أن «بدايات» يظل الكتاب الأهم، وسواء في نظر صاحبه أو نظر سواه من المهتمين به، فإنه حتى الآن، لم يترجم إلى العربية. 
حتى إن كنا لا نريد أن نثير موضوع «مخاطر النظرية» الذي أثاره الناقد السابق عبدالرحمن حسين في كتابه «إدوارد سعيد: النقد والمجتمع» الذي صدر في العام نفسه الذي صدر فيه كتاب «نظريات معاصرة» (1998)، فإن ذلك لا يحول دون التساؤل حول كيف فات جابر عصفور، في محاورته القيّمة لمنجز سعيد، الالتفات إلى محور «النظرية المرتحلة» الذي أعاد إدوارد سعيد نفسه الحديث عنه في مقال «إعادة الاعتبار للنظرية المرتحلة» أو «إعادة النظر في ارتحال النظرية» حتى نحافظ على عنوان مترجم «تأملات حول المنفى» (2000). المقال يفيد على مستوى «انتقال» النصوص والنظريات والأعلام إلى الفكر العربي ذاته، سواء فيما يخص إدوارد سعيد نفسه أو غيره من الفلاسفة والمفكرين الغربيّين البارزين كما في حال، على سبيل التمثيل الدّال، الفيلسوف الفرنسي الراحل جاك دريدا الذي شغف به العديد من المفكرين والنقاد والكتاب العرب. ويمكن الاطلاع على جانب من هذا الانتقال أو الارتحال في دراسة «دريدا... عربيًا» التي أفاد فيها صاحبها الراحل محمد أحمد البنكي، في سياق معرفي «تشييدي»، من مقال إدوارد سعيد. 
فمقال «النظرية المهاجرة»، أو «النازحة» كما في ترجمة أخرى، يفيد على مستوى صياغة منظور قرائي تصوّري منهجي جدير بالكشف عن أنهاج التلوين والتكييف التي تلازم انتقال النظريات والنصوص من ثقافة إلى أخرى، جنبًا إلى جنبٍ مع ما تفرضه الثقافة المنقول إليها من تداخل لـ«الاستغلال» أو «الاستعمال» في عمليات «التوظيف».
وحتى نواصل الحديث عن د. جابر عصفور فإن ما يشفع له أن محاورته ذاتها تقع في نوع من هذه «الهجرة» الغائبة في العالم العربي، أو بالأحرى في «الوعي النقدي العربي»؛ مما أفضى به إلى أن يتأسف لغياب الوعي بأزمة النظرية في العالم العربي. ذلك الوعي الذي يبدأ، بتعبيره، من نيويورك (حيث كان يقيم إدوارد سعيد) ولا ينتهي بنيودلهي (حيث يقيم إعجاز أحمد). غير أن إسهام إدوارد سعيد، في مجال النظرية، لا يقارن فقط بالأسماء التي أقدم على ذكرها د. جابر عصفور... إنما يتجاوزها نحو تلك القمم التي كان لها تأثير كبير على مستوى خلخلة العلوم الإنسانية والفكر الفلسفي المعاصر، أمثال كانط وهيجل ونيتشه وفرويد وماركس وهايدغر وبارت وميشال فوكو وشتراوس وجاك دريدا... إلخ. ومن هذه الناحية لا يمكن للدارس الجاد والموسوعي وغير المتحيّز، في الغرب ابتداءً، أن يقفز على إسهام إدوارد سعيد في مجال النظرية ذات الصلة بالدراسات الثقافية والنقدية والأدبية التي برز فيها. قلنا إنه لا يمكن القفز على اسم سعيد في هذا المجال؛ لأنه لا يزال هناك من ينحو هذا المنحى، بشكل سافر ونافر، كما في حال كتاب أرثر أيزابرجر «النقد الثقافي» (1995) (والكتاب مترجم للعربية، 2003) الذي صار مرجعًا شبه كلاسيكيّ في النقد الثقافي بالعالم العربي ■