بورتريه غير مكتمل لجابر عصفور

بورتريه غير مكتمل  لجابر عصفور

قبل بلوغه الثمانين بسنوات ثلاث رحل د. جابر عصفور عن هذا العالم. ومع أن ما عاشه من سنين يقع ضمن المعدل الوسطي للأعمار، في عصر التقدم الطبي والتقني، فهو يبدو  أطول مما يجب بالنسبة لرجل استثنائي، وأراد لجسده المحدود أن يجاري روحه اللامحدودة، وأخذ على عاتقه من المهمات ما لا يستطيع حمله إلا القلة القليلة من المثقفين الجسورين. لقد بدا صاحب «المقاومة بالكتابة» كأنه اختار أن يضبط «عدّاد» حياته على العام السابع والسبعين، قبل أن يدير ظهره للحياة، ليس فقط لما للرقمين المتماثلين من دلالات سحرية، أو بما يجعلهما شبيهين بعلامتين للنصر في زمن الانهيارات والهزائم الكبرى، بل لأنه، وهو المتبحر في التراث، لم يكن ليغيب عن باله بيت زهير بن أبي سلمى الشهير الذي يرى في الثمانين معادلًا زمنيًا للسأم من رتابة العيش، والتبرم المرهق من سنواته الزائدة. ولعل د. جابر عصفور المترع بالمفارقات الضدية، كان مزيجًا فريدًا من هدوء زهير الناضج والحكيم والمثقل بالتجارب، ومن طرفة بن العبد، الذي جسد بالنسبة له، إضافة الى جماليات شعره العالية «صورة الفنان في شبابه»، ونسخة «طوطمية» عن تمرده على الواقع المقيت من جهة، ونزوعه الملح إلى تكثيف الزمن واختزاله، من جهة أخرى.

 

حين التقيته للمرة الأولى أثناء مشاركتي في مهرجان شوقي وحافظ في القاهرة عام 1982، كان د. جابر عصفور في ذروة شبابه وحيويته المتوقدة آنذاك، وكان يعمل مساعدًا لرئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب الناقد الراحل عزالدين إسماعيل، الذي عهد إليه بالعديد من المهام الصعبة، ومن بينها إصدار مجلة «فصول»، نظرًا لما يملكه من سعة في المعرفة وشغف بالكتابة وكفاءة في الإنجاز. وهو ما أتاح للمجلة أن تتحول بسرعة قياسية إلى واحدة من أكثر المنصات الثقافية العربية عمقًا وتنوعًا وإحاطة بأسئلة الحداثة وقضايا الأدب والفكر في الإطارين العربي والعالمي. وكانت لجابر عصفور لمسته المميزة والفريدة في كل منصب شغله بعد ذلك، بدءًا من ترؤسه هيئة الكتاب، ومرورًا بقيادته دفة المجلس الأعلى للثقافة وللمركز القومي الترجمة،  حيث أمكن له ببراعة إدارته وبحضوره الكاريزمي المميز، أن يحلّق من حوله عشرات الكتاب والفنانين والمترجمين وأهل الكتابة والفن، محولًا كل مؤسسة تولى زمامها إلى ورشة متواصلة للعمل الدؤوب والثقافة الخلاقة .

متعصب للبحث عن الحقيقة
لم يكن د. جابر عصفور بغافل عن الدور التأسيسي المركزي الذي لعبته مصر عبر الحقب المتتابعة لتاريخها الطويل، الذي يبدأ مع السلالات الفرعونية الأولى، وصولًا إلى زمني محمد علي وعبدالناصر. لكن اعتزازه بتاريخ بلاده وثرائها الحضاري لم يذهب به إلى حدود التعصب الشوفيني الذي وقع ضحيته الكثير من المثقفين المصريين، بل رأى فيه رافدًا شديد الأهمية من روافد الثقافة العربية والمشرقية، فضلًا عن الدائرة الإنسانية الأوسع، لا بل إن أية نظرة عميقة ومتفحصة لسلوك عصفور ولنتاجه الفكري والنقدي لا بد أن تقودنا إلى الاستنتاج بأنه لم يكن ليتأثر في حكمه على ما يتصدى له بالنقد بأي شبهة سياسية وأيديولوجية، أو مصرية شوفينية، بل كان معياره الأساس للحكم على أي تجربة يقاربها، هو مقدار ما تحمله من جدة، وما تختزنه من جذى الإبداع وإرهاصاته وتمثلاته .

وإذا كان ثمة ما يشي بالتعصب في سلوك عصفور وقناعاته، فهو قد بدا خلال مسيرته الحياتية المتوهجة «متعصبًا» للبحث عن الحقيقة، ولو في حيزها النسبي، ومتعصبًا للحفر المعرفي، وفق تعبير فوكو،  ومتعصبًا للإبداع، بوصفه هوية فردية وإنسانية، أكثر من أي شيء آخر. وقد يكون في تقديمه لكتابه المميز «غواية التراث»، الذي نشرتْ معظم فصوله في مجلة «العربي» بالذات، ما يؤكد أن ما يعتنقه من أفكار ليس سوى الثمرة الطبيعية للتلاقح بين العقل المستنير والذائقة الجمالية. فهو إذ يكرر التأكيد على أنه «تلميذ صغير في مدرسة طه حسين»، الذي ينظر إلى التراث الأدبي من منظور الزمن الذي انبثق عنه، معطوفًا على بعده الإنساني المتجدد، لا يتحرج في الوقت نفسه من الاعتراف بتفاعله الإيجابي مع المنظور الأدونيسي للتراث، الذي يميز في رؤيته بين ما هو ثابت ومستنفد ومحدود الصلاحية، وما هو متحول ورؤيوي وعابر للزمن. وهو إذ يفعل ذلك، يشيح بوجهه جانبًا عن الحملات المتلاحقة التي شنها البعض على أدونيس، الذي نُسبت إليه مواقف سلبية إزاء المشهد الشعري في مصر.

بين الشعر والرواية
كما أجدني ملزمًا، في سياق هذه المقالة، بالإشارة الى الطبيعة السجالية لفكر جابر عصفور النقدي، وهو الذي حرص على تجنب المجاملات الشخصية والأخلاقية في كل ما يتصل بقناعاته، متمثلًا مرة أخرى، بالمعارك الضارية التي خاضها عميد الأدب العربي في مواجهة ثقافة النقل والاستنساخ والمعلبات المعرفية الجاهزة. والأرجح في اعتقادي أن مواقف عصفور الجريئة لم يتسبب فيها جنوحه النرجسي الى إثارة الغبار من حوله، بل قناعته العميقة في زحزحة الصخور المفهومية الثقيلة الملقاة على كاهل العقل والواقع العربيين، والتي تحول بينهما وبين التجدد. 

 لم يكن الناقد الراحل بالطبع هو أول من نادى بتقدم الرواية على الشعر في عالمنا المعاصر الذي تحتاج تعقيداته وتحولاته المتسارعة وحواضره المدينية، إلى ما تعجز لغة الشعر الباذخة والمختزلة عن النفاذ إلى شعابه وجحوره وتفاصيله، والذي يجد في لغة السرد المسهبة ضالته ومداه الحيوي. فقد سبقه إلى ذلك العديد من نقاد الغرب وروائييه، خاصة وأن الرواية بمفهومها الحديث هي فن غربي بامتياز. وإذا كانت مواقف الغالبية من النقاد والمبدعين العرب قد انحازت إلى الشعر بوصفه ديوانها وظهيرها وسجلها التاريخي، فإن الأمور قد بدأت في التغير بعد منتصف القرن الفائت، حيث اعتبر آخرون، وبينهم نجيب محفوظ، أن المنعطفات السياسية والاجتماعية الدراماتيكية في العالم العربي باتت تفرض على الكتابة سياقات وأساليب مختلفة لتبيان ما يعتمل في أحشاء الواقع الجديد من تبدلات. أما عصفور المعجب بمنجز صاحب الثلاثية أيما إعجاب، فقد لاقى هوًى بالغًا في نفسه قول محفوظ «لقد ساد الشعر في عصور الفطرة والأساطير. أما هذا العصر، عصر العلم والصناعة والحقائق، فيحتاج حتمًا لفن جديد. وقد وجد العصر بغْيته في القصة، التي هي شعر الدنيا الحديثة».

غير أن مقولات عصفور حول ازدهار الفن الروائي، والتي أكدها استمرار هذا الفن في الاستحواذ على النسب الأعلى للقراءة، بدت من بعض وجوهها بمثابة نعي للشعر وتأبين لدوره السابق، وهو أمر يحتاج التثبت منه إلى نقاش هادئ ومعمق. فليس بالضرورة أن تجبّ الفنون بعضها بعضًا، كما هي حال بعض الآيات القرآنية، بل يمكن لها أن تتجاور وتتكامل، بحكم اشتغالها على مواد وتعبيرات و«لغات» متباينة. ومع ذلك فإن إعلاء الشعر كقيمة جمالية وتخييلية ورؤيوية غير قابلة للنفاد، ينبغي ألا يقودنا بالمقابل، إلى اعتبار الرواية فنًا من الدرجة الثانية، ولا إلى تبني رأي العقاد بأن «الرواية مطولة بغلّة قليلة، والشعر موجز بغلة وفيرة»، لأن ثمة تباينًا أساسيًا من حيث مفهوم اللغة وطبيعتها ودورها، بين كلا النوعين الأدبيين، بما يشبه «وضعًا للندى في موضع السيف»، على ما يقوله المتنبي .

أما الجانب الثالث من جوانب هذا البورتريه المختصر لجابر عصفور، فلا ينحصر في تبنيه للعقل النقدي وما يستتبعه من ثقافة الحرية والتنوير فحسب، بل يتعداه إلى اعتبار الكتابة في عمقها الأخير نوعًا من المواجهة الضروس مع كل صنوف الاستبداد والقمع والجهل والفقر، وتيئيس البشر من مستقبلهم. وهو في كتابه «المقازمة بالكتابة» لا يتوانى عن القول بأن الرواية العربية قد نشأت في الأصل لتقاوم كل أشكال القمع التي تفرضها السلطة الاستبدادية باسم الدين أو السياسة أو المجتمع. كما أنه يشن في كتابه «مواجهة الإرهاب» حربًا لا هوادة فيها على نزعات التكفير الظلامي، التي بتحالفها الموضوعي مع القمع السلطوي تعطل كل إمكانية حقيقية للخروج من أزمنة الانحطاط، والبحث عن دينامية ملائمة للتغيير.

لكن ما تقدم لا يصرفنا عن ملاحظة أن د. جابر عصفور، الذي كان راديكاليًا وقاطعًا في كل ما يتعلق بالإرهاب التكفيري ووأد الحرية واضطهاد المفكرين، لم يكن كذلك في علاقته بالسلطة الحاكمة، التي بدت مواقفه منها أقرب إلى المهادنة والقبول، منها إلى الرفض والاحتجاج. والجميع يعلم بأن مواقف عصفور التصالحية مع السلطة، هي التي أتاحت لخصومه الكثر الفرصة الملائمة للانقضاض عليه ورميه بكل أشكال التهم، وصولًا إلى التشكيك الكامل بدوره الثقافي الطليعي. وإذا كانت بعض التهم والملاحظات تنطوي في جانبها الموضوعي على شيء من الوجاهة، فإن موجبات الإنصاف تقتضي الإشارة إلى أن الكاتب الراحل كان يلح باستمرار، وهو المنتمي إلى إحدى أكثر الدول رسوخًا وامتدادًا في التاريخ، على التفريق بين السلطة العابرة والدولة العميقة، التي لا يرى أي غضاضة في الالتحاق بهياكلها السياسية والثقافية المختلفة، فضلًا عن وزير الثقافة الأسبق لم ينسب لنفسه في أي وقت، صفة الراديكالية، ولم يلتحق بأي تنظيم ثوري أوحركة يسارية معروفة، ربما لأن التغيير الحقيقي، من وجهة نظره، لا يمكن أن يتحقق على قشرة الواقع، أو على السطوح الظاهرة للسياسة والدين والاجتماع، بل في المستويات الأكثر عمقًا، حيث تتفتح على نحو بطيء جذور الإبداع والوعي المعرفي والعقل المستنير ■