د. جابر عصفور العقلانية في مواجهة أذرع الرجعية

د. جابر عصفور العقلانية في مواجهة أذرع الرجعية

يعد الناقد والمفكر والأكاديمي المصري د. جابر عصفور (25 مارس 1944 -
31 ديسمبر 2021) أحد المدافعين البارزين عن العقلانية الثقافية العربية في مشهدها المعاصر. وفي هذه السطور إطلالة على أحدث مؤلفاته قبيل رحيله، الذي جاء بعنوان «دفاعًا عن العقلانية»، وفيه يواجه د. عصفور بروحه القتالية المعهودة مراكز قوى كثيرة، يراها بؤرًا للرجعية، وأعشاش دبابير ظلامية، وهي ذات نفوذ طاغٍ وأذرع سلطوية وخطاب قمعي، وتأثيرات مجتمعية موغلة في التجذر والامتداد عبر الماضي والحاضر.

 

كعادته، يأبى د. جابر عصفور في كتابه الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في أكثر من خمسمائة صفحة رفع الراية البيضاء والاعتراف بالاستسلام الأبدي للهزائم والخيبات السائدة في الواقع على كل المستويات، مادامت هناك مفردة في القاموس اسمها «المستقبل». ولأجل الغد، غير المعلوم، والقارئ المحتمل والافتراضي، يقدم المؤلف فصول كتابه للمثقف العام، الذي يريد أن يتفهم ملابسات تخلف مجتمعه، وآليات تقدمه، على اعتبار أن المصابيح الراهنة المعطلة، من الممكن إعادة تشغيلها ذات يوم، وأن اللبنة الفكرية التي يضعها الكتاب قد تقود لاحقًا إلى بناء يتأسس عليه وعي مكتمل.
يُعمل الكاتب سلاحه الوحيد «العقل» في سائر الاتجاهات، شارحًا به وجهة نظره بتفصيل وشجاعة، ويمضي ليبارز به على كل الجبهات التي يراها سببًا للعُقم القائم، حيث ينازل قمع خطاب التشدد الديني، ودعاوى تيارات العنف والتكفير، وانهيار منظومة التعليم، وفساد الجامعة: الرمز والقيمة، ويراجع عقلنة ثقافة الدولة، وقواعد المواطنة، وملامح التحديات الوطنية.
يتخذ د. عصفور من العقل نقطة ارتكاز، باعتبار أن العقلانية هي الرابط المثالي والطبيعي بين التنوير والحداثة والعلم والحرية لتأسيس حركة فكرية صاعدة، فبالاحتكام الدائم إلى العقل يحدث الحوار على قاعدة من المساواة، ويصير الخلاف الصحي مستساغًا، وتتعزز مفاهيم الإرادة والاختيار والعدل، ما يعني نضج الفرد، ورشد الإنسانية، ورسم خارطة الدولة المدنية الحديثة.
ويكرّس د. عصفور القسط الأكبر من مباحثه لانتقاد التشدد الديني، بوصفه الرمز الأكبر للجمود والتحجر من وجهة نظره، ولا يهمل في الوقت نفسه الكثير من القضايا والشؤون المتعلقة بإدارة المؤسسات، الحكومية والأهلية، وأجهزة الدولة المختلفة، لكن المحصّلة توحي بأن الكتاب برمّته يكاد يكون في نقد الخطاب الديني الرجعي، في التراث القديم والماضي القريب والحاضر الجاري، بغية بلوغ عقلانية إسلامية محدثة وهوية وطنية وسطية متمدينة. 
وفي حين لا يجد د. جابر عصفور بارقة أمل في الخطاب الديني، إلا بالتفتيش في أرشيف الراحلين من الأزهريين المستنيرين، أمثال  الإمام محمد عبده، فإنه على الجهة الأخرى قد يجد في الواقع المعاصر التماعات تفاؤلية يجود بها خطاب السلطة السياسية. ويفرد د. عصفور فصلًا كاملًا لهذه المفارقة تحت عنوان «خطابان ضدان»، يقارن فيه بين كلمة شيخ الأزهر وكلمة رئيس الجمهورية في احتفال المولد النبوي (نوفمبر 2018)، معتبرًا أنهما خطابان نقيضان فى المنطلقات والدوافع والمبادئ الحاكمة على السواء.
ويصل د. عصفور في هذا الصدد، إلى أن خطاب الأزهر الحالي ليس على طريقة أنصار العقل، مثل أبي الحسن الأشعري (324-260 هـ)، وأبي منصور الماتريدي (333-247/233 هـ)، وإنما على طريقة ابن تيمية (728-661 هـ)، الذي بلغ على يديه المذهب الحنبلي قمة تشدده واكتماله في آن. ويذهب إلى أن الخوف الأكبر هو أن يتحوّل الأزهر إلى «سلطة دينية»، مؤكدًا أنه من الذين يؤمنون مع الإمام محمد عبده بأنه «لا توجد سلطة دينية في الإسلام».
ثم ينتقل المؤلف إلى تحليل الخطاب المضاد في تلك المناسبة، وهو خطاب رئيس الجمهورية، فيعتبره
د. عصفور نموذجًا للدلالة على الفهم الصحيح للإسلام، حيث يبدأ على الفور بتحديد الرسالة السامية للإسلام، ويراها في المبادئ التي هي فهم معاصر للإسلام في تطلعه إلى أن يكون إنساني النزعة، لا يعرف العصبية العِرقية، ولا التمييز الديني، ولا الإرهاب الفكري.
وينتقل الخطاب نفسه إلى كيفية تطبيق هذه الرسالة بسلوك عملي وواقع ملموس في حياتنا ودنيانا، ويكون ذلك عن طريق مبادئ، منها: «لا إكراه في الدين، حرمة النفس وقدسية حمايتها وصونها من الأذى والاعتداء، أمانة الكلمة، تصحيح المفاهيم الخاطئة، بيان حقيقة ديننا السمح»، ويعني ذلك كله، على مستوى السياسة العامة للدولة، بناء الإنسان وتنوير العقول وتكوين الشخصية الوطنية على أسس سليمة، فذلك هو المحور الأساسي في أي جهود للتقدم وتنمية المجتمع.

مناخ الحرية والانحراف الفكري
لا يرى د. جابر عصفور أن باب الأمل موصد تمامًا إزاء نشر القيم العقلانية، على أن كل الجهود الفردية والجماعية تتطلب مناخًا من الحرية، التي تفتح أمام العقل كل آفاق الاجتهاد دون خوف من الخطأ أو القمع المعرفي أو السياسي أو الديني. ويعتبر الكاتب أن أخطر ما يتميز به العصر الراهن هو انحراف الفكر المصري عن تطوره الطبيعي في مجرى العقلانية منذ سبعينيات القرن الماضي، حيث نشطت وتفاقمت جراثيم التعصب والاستبداد والإرهاب منذ التحالف مع جماعات تحمل الفكر المتطرف من ناحية، ومع الرجعيات العربية والغربية من ناحية ثانية.  في قراءته لـ «عقلنة ثقافة الدولة»، لا يتجه عصفور إلى نقد اللحظة التي أمامه بشكل مباشر، لكنه يستعيد كتاب طه حسين «مستقبل الثقافة في مصر» (1938)، للإسقاط على أزمات الحاضر: «عندما نقرأ هذا الكتاب اليوم، نجد أنه يبدو كأنه مكتوب لنا اليوم، فأغلب المشكلات التي كان يتحدث عنها طه حسين، خصوصًا فيما يتصل بكل من الثقافة بوجه عام والتعليم بوجه خاص، لا تزال إلى اليوم مشكلات موجودة ومستعصية على الحل».
ومن خلف قناع كتاب طه حسين، يثير د. عصفور إشكاليات عدة، تتعلق بخلل الوعي، وغياب الهوية الثقافية، والتباس فهم المواطنة وثقافة الدولة المدنية الحديثة بلوازمها، التي تربط بين الحرية والديمقراطية ومبادئ العدل الاجتماعي والتقدم على كل المستويات، ودور التعليم الحديث الغائب في الوطن، وطبيعة الدور الثقافي المصري في علاقة مصر بالدول العربية، من منظور التعدد والتنوع لا الهيمنة أو المركزية. 
وينتقد د. عصفور كذلك آليات إدارة المؤسسات المصرية، وعلى رأسها الجامعة «ماذا جرى للجامعة؟!»، مرجعًا ذلك إلى اصطدامها، بدورها، بالقوى التقليدية والرجعية. وبلهجة أكثر سخونة، يدعو إلى ضرورة تطوير المنظومة الثقافية للدولة، بالتوازي مع التفكير في إجراء التحولات الوطنية، وخوض التحديات الخطرة. ويعتبر أن الثقافة ظلت طويلًا تقع في الذيل من منظومات التقدم ومخططات التنمية التي فشلت كلها لأسباب متعددة، أهمها هذا الجهل الراسخ بدور الثقافة بمعناها العام في تنشيط خطى التنمية وتسريعها، ولا يزال الوعي أسيرًا لأفكار متخلفة، وتصورات دينية متعصبة، وقيم اجتماعية قمعية.  ولتطوير هذه المنظومة الثقافية وتثويرها، تقع المسؤولية على طرفين؛ أولهما: الدولة التي ينبغى أن تقوم بالدور الحاسم، وثانيهما: المجتمع المدني، الذي لا بد للدولة من تفعيله وتشجيعه على الإسهام في تحديث منظومتها الثقافية.  أما الفصول التي يخصصها د. جابر عصفور لنقد الخطاب المتشدد، وهي الغالبة على الكتاب، فتأتي أكثر شراسة، وأكثر تحديدًا في تسمية الأمور بأسمائها، ومن ذلك ما كتبه عن تقييد العقل، ومأساة نصر حامد أبو زيد ودلالات محنته، وقمع الخطاب الديني، وغيرها. وينتهي المطاف به إلى التأكيد على أنه لا وسيط بين الله وعباده، ولا كهنوت في الدين، ولا استبداد بالرأي، حيث إن «الاختلاف هو قانون لا يمكن للحياة أن تقوم بدونه» ■