الكتابة بين الموت والحياة والصداقة

الكتابة بين الموت  والحياة والصداقة

يبدو لي أننا في هذا العدد الاستثنائي من مجلة العربي التي لطالما أنارها
د. جابر عصفور، على مدار عقدين كاملين من الزمان بحضوره الحي الخلاق؛ وكأننا نحاول، بصورة ما، أن نراوغ الموت ونحاوره، أن نرفضه وننكره، على نحو ما، أن نبعده، أن نخلخل ونقلقل حضوره، رغم وقوعه، أن نوقفه ونزيحه، أن نرجئه ونؤجِّله ولو قليلًا عن نفوسنا، وأن نستبدل به نقيضه الماثل في الحياة والتواصل والتجدد والكتابة. 

 

يبدو في هذا الملف عن د. جابر عصفور كأن كل صديق من أصدقائه يحاول أن يستبقي صديقه ويستعيده من غياهب الغياب، وكأنَّنا نريدُ من خلالِ عمل الحِدادِ هذا ذاتِهِ، عبر الكتابة، أن نُحصِّنَه ضدَّ الموت وضد الفقد، وضد الغياب، بطقسٍ آخر من طقوسِ الحياة، وهو طقس الكتابة، الكتابة بما هي حضور في الغياب ووجود في حضرة العدم، الكتابة بما هي سلاحنا الوحيد الممكن والمُتاح في مواجهة الموت والفناء، الكتابة التي ظل د. عصفور يُؤمِن دومًا بها إلى حد أنه يمكن القول إنها كانت تمثل كوجيتوه الخاص «أنا أكتب إذًا أنا موجود»؛ لذا فإن أفضل شكل لتأبين د. جابر والحِداد عليه كان لا بد له ألا يقتصر على الخطابات الشفاهية، وأن يتخذ هذا الشكل من الكتابة. 
  وهو ما يعني أن حضور د. جابر عصفور في الكتابة وعبر الكتابة لا يقتصر فقط على ما كتبه وإنما سيتجاوز ما كتبه وسيمتد إلى ما سيظل يُكْتَب عنه وعمَّا كتب. وبهذا المعنى، فإن هذا العدد من «العربي» هو احتفاء بجابر الحي، وليس بجابر الغائب، أو جابر الفقيد، وإنما بجابر الحاضر، بجابر بما هو كاتب وبما هو كتابة، أي بما هو نص إنساني متفرد سيظل حاضرًا في ذاكرة كل من عرفوه وأحبوه أو حتى اختلفوا معه ولم يحبوه، وبما هو أيضًا نص ثقافي ومعرفي فريد على مدار ما يزيد على خمسة عقود متصلة من الكتابة. 
  إن الكتابة وحدها، أعني بالطبع الكتابة الحقة، الكتابة الخلاقة، هي الوحيدة القادرة دومًا على التصدي للموت، على مواجهته واعتراض سبيله؛ ذلك أن الكتابة بقدر ما هي ابنة الموت، فإنها أيضًا ابنة الحياة. لذا كان من الطبيعي أن يكون حِداد مجلة العربي على د. جابر حِدادًا عبر الكتابة، الكتابة التي عشقها، وكرَّس عمره لها والتي كانت دومًا هي صديقته الأولى وحبيبته الدائمة والأثيرة التي ظل على الدوام يُفضِّلها على كل صديق وصديقة، وعلى كل حبيب وحبيبة، ولهذا فإنها اليوم تبادله هي الأخرى حبًا بحب، تبادله حبها في مقابل حبه وإخلاصه ووفائه لها. 

التواصل عبر الكتابة
  الكتابة إذًا بالنسبة لـ د. جابر عصفور لا تنفصل عن معنى الحياة ولا عن معنى الصداقة؛ لذا ليس لدينا نحن أصدقاء د. جابر، ما هو أفضل من الكتابة إذا ما أردنا أن نتواصل معه، ومع ما كتب، وأن نزيح عنَّا وعنه شبح الموت، شبح موته، من خلال التواصل معه عبر الكتابة، وعبر بعض ما كتب، أي عبر ما يمنحه الحياة، وما أسعد د. جابر، بالطبع، بأن يكون هذا التواصل من خلال وفي ظل حضور ومؤانسة هذه الكوكبة الرائعة من أصدقائه الذين لطالما أحاطوا به فرادى وجماعات. 
 يبدو الحِداد إذًا كأنه ينطوي على نوع من الرفض، نوع من الإنكار، نوع من المقاومة، نوع من عمل الذاكرة التي هي أقوى حضورٍ في مواجهة ما يفرضه الموت من غياب تصبح معه الذاكرة وأفعال التذكر والحِداد هي الملجأ والملاذ، وتصبح معه أفعال التذكر كأنها تمائم تُبقيه بيننا ورُقى وتعاويذ تستحضره وتحفظه لنا من الغياب.
هكذا يبدو التذكر مثلما يبدو الحِداد كأنهما ليسا فقط من طقوس الموت وإنما أيضًا من طقوس الحياة، أو لنقل إنهما بالأحرى يقفان على تخوم الموت والحياة؛ ذلك أنهما بقدر ما يحويان ويُثبِتان الغياب بقدر ما يحويان ويُثبتان أيضًا مقاومة الغياب، ورفضَه، وربما حتى استحالتَه؛ تمامًا مثلما هي الكتابة، بديل الذاكرة وامتدادها.
 من هنا تأتي أهمية الذاكرة والكتابة وأهمية أفعال التذكر وأفعال الكتابة كأن الكتابة ذاتها ليست سوى شكل من أشكال الحِداد على تلاشي وموت وغياب الكلام والأصوات. وكأن الذاكرة في امتدادها الكتابي ذلك تمتلك طاقة سحرية قادرة دومًا على مقاومة الموت وإزاحته، على استحضار الغائبين والغائبات، وإعادتهم مرة أخرى للحياة. تلك هي قيمة طقوس التذكر وقيمة شعائر الحِداد وقيمة الكتابة. ما دام أن هذا هو شكلُ الحياةِ الوحيدُ المتاحُ لنا، للأصدقاء والمُحبين مثلنا، أي للموتى والفانين من أمثالنا كيما يمنحوه لبعضهم البعض.
 الحِداد أيضًا طقس من طقوس الصداقة، وسياسة من سياساتها على نحو ما يُنبئنا دريدا في سياق حديثه عن سياسات الصداقة. هكذا يبدو التذكر والحداد والكتابة وكأن كلاً منها مكتوب ضمن ميثاق ومعاهدة الصداقة غير المُعْلَنَة، وغير المكتوبة بين الأصدقاء. يُنْبِئُنا دريدا في سياسات الصداقة أنه: «لا بد للمرء دائمًا أن يمضيَ قبل آخر». هكذا يُقرِّر جاك دريدا أن هذا هو قانون الصداقة - ومن ثم قانون الحداد. لا بد دائمًا أن يمضي أحد الصديقين قبل الآخر، لا بد أن يموت أحد الصديقين أولاً. ولا توجد صداقة من دون إمكانية أن أحد الصديقين سيموت قبل الآخر، ربما مباشرة أمام عيني الآخر، لأنه حتى حين يموت صديقان معًا، أو بالأحرى في الوقت ذاته، فإن صداقَتَهُما كانت مبنية من الأساس، من بدايتها الأولى، على إمكانية أن أحدهما سيرى الآخر وهو يموت، لذا فإن الناجي قد بقي ليدفنه، ويتذكره ويُقيم عليه الحداد. 
وهكذا يمكننا أن نضيف إلى ما يقوله دريدا أن الصداقة بقدر ما هي عطية من عطايا الحياة، بقدر ما هي أيضًا عطية من عطايا الموت، وهل يمكننا أن ننسى هنا كيف رثى جِلْجَامِش أنكيدو، وكيف دعا كل كائنات الطبيعة للبكاء عليه، وكيف صاغ رثاؤه هذا أمثولة للصداقة خلَّدتها الكتابة؛ هكذا يبدو الحداد والرثاء من قديم كأنهما جزء من نسيج ميثاق الصداقة.
أصدقائي، إننا حين نرى أحبابنا يموتون نشعر بأن الموت يتسلل إلينا، يقترب منا، يُشارِفنا ويُطِلُّ علينا، كأنهم كانوا أسوارنا التي كنا نحتمي بها وخلفها، وكأنها كانت تدفع وتذود الموت عنا بحضورها، فإذا بها فجأة تتساقط وتتلاشى؛ ومن ثم وعلى حد عبارات أمل دنقل نصبح «في العراء»، هنا نستشعر أننا في حاجة إلى استدعاء واستحضار من فقدنا، نشعر بالحاجة إلى استعادتهم، وإلى الاحتماء بمن تبقى من الأصدقاء.
 هنا لا يكون أمامنا من وسيلة يمكننا أن نعيدهم بها إلينا سوى اللغة، سوى الكلام، سوى التذكر، سوى الحكي والكتابة؛ لذا ظلت هذه الطقوس، طقوس التذكر والحكي والكتابة هي ما يصل دومًا بين الموتى والحياة، كما ظل تضامن وتآزر الأحباب والأصدقاء هو الجسر الذي يعبر عليه مثلُ هذا التلاقي وهذا الوصال.

الاحتفاء بالراحلين والغائبين
 من هنا تبرز قيمة طقوس التأبين والرثاء والحِداد، وطقوس إحياء الذكرى والاحتفاء بالراحلين والغائبين عنَّا رغمًا عنهم وعنَّا. ومع هذه الطقوس تصبح اللغةُ أشبهَ ما تكون بِرُقْيَةٍ تَصْرِفُ الموت عمَّن ماتوا من الأصدقاء، وتعويذةٍ سحريةٍ تجلب لهم الحياة؛ وهكذا تصبح هذه الطقوسُ، طقوسُ التأبين والإشادة والرثاء عبارة عن لحظاتٍ للقاء، لحظاتٍ للتواصل، لحظاتٍ للعِناق، لحظاتٍ لاستقبال واستضافة واحتضان أولئك الأحباء في كلماتنا التي تصدر من أجسادنا وتتحول إلى فضاءات يقطنونها.
 وهو ما يعني أن من نفقدهم ونتحدث عنهم يصبحون فجأة داخلنا كأنهم بموتهم ينتقلون من الخارج إلى الداخل؛ لذا نجدنا مرة أخرى نتلفظهم من آن لآخر، نُخرِجُهم من دواخلنا عبر كلماتنا كي نراهم كلما اشتقنا إليهم، نحكي عنهم ولهم، تحتضنهم كلماتنا، يفترشون أصواتنا وحروفنا، نأنس ونأتنس بذكرهم وصُحبتهم آملين أن يأنسوا ويأتنسوا هم أيضًا بنا رغم تفرق السُّبُل، وبُعد المسافة، ووحشة وألم الفراق.
 نعم، الموتُ يستبدلُ الغيابَ بالحضور، والفقدَ بالوجد، والصمتَ بالكلام، بعبارة واحدة يمحو أجسادَ من نحب، لكنه مع ذلك لا يستطيع أن يمحو الحب، ولأنه لا يستطيع أن يمحو الحب فإنه لا يمكنه أيضًا أن يمحو من نحب. هكذا يقهر الحب الموت، يحفظ لنا دومًا أحبابنا، يحمي دومًا من نحب من الفناء، يعيدهم إلينا من قبضة الموت عبر طقوس التذكر التي ليست إلا مجلى من مجالي الحِداد.
 وهنا يبدو كأننا نستبدل بمعنى الموت، ومعنى الفناء، معنى السفر، معنى الرحيل الذي ينطوي على إمكانية ما للعودة والرجوع واللقاء، أي نبدو كأننا نستبدل المجاز بالحقيقة أو بالحقيقة المجاز. هل هذا الاستبدال ليس إلا محاولة للتخفيف من وقع الموت وثقله وإناخته وجثومه على صدورنا، هل ليس سوى كناية تلطيفية تساعدنا على إرجاء الموت رغم وقوعه؟ ربما يكون هذا صحيحًا في جانب منه كآلية من آليات الدفاع، كآلية من آليات الرفض والإنكار، إلا أن هذا الاستبدال أيضًا له جانب آخر، في تقديري، وهو قدرته على إبقاء من ماتوا أحياء، أي قدرته، في آن واحد، على قبول الموت، وفي الوقت ذاته على نفيه ومنح من ماتوا الحياة. 
 إننا بكلامنا عمَّن رحلوا من أصدقائنا، نجعلهم هم أيضًا يُكلِّموننا، ونُكلِّمهم، نتكلم معهم وعنهم، وبكلامنا معهم وعنهم نجعلهم أيضًا يتكلمون من خلالنا. كما أننا بكلامنا هذا عنهم نمنحهم فرصة أخرى، حتى ولو كانت قصيرة ومُؤَقَّتة، للحديث وللإنصات إليهم في كلامنا، ربما كما لم نُنْصِت لهم قط من قبل، وكأننا نعتذر لهم، ونقول لهم نسمعكم الآن أفضل من قبل، أصواتكم أضحت أوضح، وكأن الحياة كانت هي الحاجز والحجاب! وهنا تغدو القدرة على الإنصات كأنها هي الأخرى عطية أخرى من عطايا الموت والفقد.
 هنا في تقديري تكمن قيمة مثل هذا الشكل من الحِداد. الحِداد إذًا في أحد تجلياته، وكما هو في هذه اللحظة، محاولة لمنح نوع من الحياة لمن نحب، وهو بهذا المعنى أيضًا طقس من طقوس الحياة، وليس طقسًا من طقوس الموت والغياب، إذ إنه يُحْيى من مات فيمن يتحدثون ويكتبون عنه، يمنحه حيواتٍ كثيرة ومتعددة، هكذا يتناثر ويتكاثر هذا الراحل في خطاب كل كاتب من الكُتَّاب، أو متحدث من المتحدثين عنه؛ إذ يصبح جابر أكثر من جابر، يتناسخ ويتناثر في صور شتى، وفي مرايا عديدة، هي مرايا أصدقائه ومُحبيه، هكذا نستعيد من نحب من خلال وعبر خطاباتنا التي تتحول إلى بيوت أو قاعات أو باحات أو حدائق وبساتين تجمعنا وتجمعهم معًا كأصدقاء. كأننا نمارس نوعًا من الضيافة بأثر بعدي عبر تلك الخطابات. 
هكذا هم من نفقدهم، يتناثرون بيننا وفينا، ويصبحون حاضرين في كل من يحبونهم ويريدون استعادتهم والاحتفاظ بهم. صديقي د. جابر هاهم أصدقاؤك وأحباؤك يبنون وينسجون لك من كلماتهم فضاءات من الحب والعرفان والمودة لتقطنها، يستدعونك من الغياب صديقًا
لاتموت صداقته وضيفًا حبيبًا يسعدون بضيافته، مثلما كنت تسعد دومًا بضيافتهم، يردون إليك الدعوة، دعوةً بدعوة، وضيافةً بأخرى، وقد كنتَ نعم المُضيفُ، وقد كنتَ دومًا تُحْسِن ضيافة الأصدقاء، مُعِيدين إليك بعضًا مِمَّا أودعته لديهم على مدار سنوات طويلة مضت سريعة، من حب وعشق للكتابة والصداقة والحياة.
 لقد كان د. جابر، وما أقسى وأعنفَ «كان» هذه، مُحِبًا للحياة، حَفِيًا بالحياة، شغوفًا بالحياة وقِيم الحياة؛ لذا ما أجمل أن نحتفي معًا به ومعه بحياته الدائمة معنا وبيننا، وفاءً منا له وللحياة التي ظل على مدار عمره كله يُؤمِن بها، ويُدافِع عن كل معنى من معانيها، وكل قِيمة من قِيمها، في مواجهة الموت وثقافة الموت والموتى. لقد كان يعشق الحياة بقدر ما كان يعشق الكتابة ويذوب عشقًا في كل ما فيهما من قلق، وتوتر، وبهجة، وفرحة، وجمال، وفتنة، ووعد وأمل دائم في المستقبل والأجمل، والنجمين الوضَّاءين: الحرية والعدل. فكُلَّ يوم وأنت معنا د. جابر، كُلَّ يوم وأنت معنا صديقي، كُلَّ يوم وأنت مع أصدقائك ومُحبيك، وكُلَّ يوم وأنت عبر كتاباتك دومًا، مع محبينَ وأصدقاءَ جُدُد، يا صديقي، وصديق كل هؤلاء الأصدقاء ■