من المكتبة الأجنبية: حركة الملايين.. إستراتيجيات النقل للتنمية المستدامة في المدن الكبيرة

من المكتبة الأجنبية: حركة الملايين.. إستراتيجيات النقل للتنمية المستدامة في المدن الكبيرة
        

          لم أكن أفكر بالمدينة كبيرة أم صغيرة، ولم يخطر ببالي ذلك لا من قريب ولا من بعيد، ولم يكن التخطيط الحضري والمدني والعمراني من اهتماماتي، ويبدو أن الألفية الثالثة جعلت الناس أمام تحديات كبيرة فقد وقع صدفة بيدي تقرير عن منظمة دول غرب آسيا (الأسكوا) يحكي مخلفات قطاع النقل في الدول العربية، لاسيما انبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكربون. هالني ما قرأت، وبدأت بمقاربة بسيطة مفادها إذا كانت مدننا الصغيرة والمتوسطة بحالها هذا، تُرى ما هو حال المدن الكبيرة؟ ووقفت على كتاب يحكي قصة المدن الكبيرة وحركة الملايين فيها وإستراتيجيات التنمية المستدامة في النقل علّي أجد جوابا يشفي غلّي ويخفف حرقتي وألمي، ولعل عرضًا كهذا في مجلة عريقة والأوسع انتشارا في مدننا العربية يكون له الصدى المناسب، أو على الأقل أكون قد ساهمت ولو بشيء بسيط في نشر ثقافة الاستدامة في وطننا العربي، وهو هدف الحد الأدنى وسط ضجيج السيارات المتزايد وانبعاثات كربونية تعد الأعلى، فما هي إستراتيجيات النقل التي يمكن أن نتبناها في ظل التنمية المستدامة؟

          يقول الكاتب: لقد استغرق إعداد الكتاب عدة سنوات وبعد خبرة توزعت ما بين أربع منظمات في أربع مناطق مختلفة من العالم، ويستعرض الكاتب الدوافع والمشاركين وعوامل نجاح العمل ومسانديه في صفحات المقدمة ويقول: إن الكتاب يطرح الخيارات المتاحة للإدارة لمواجهة تحديات الاستدامة ومضامينها، ويقول أيضًا: إن هذا الكتاب يتعامل مع الأفكار من خلال عدة مجالات، ولم يكن قط كتابا مقررا في الاقتصاد أو في نظم النقل وعملياته وتقنياته، ولم يكن مرجعا في الإبداع المالي أو التعاقدات ولا حتى في إستراتيجيات التنمية الاقتصادية، وإنما هدفه يتمثل في مساعدة الإدارات المحلية والحكومية ومديري القطاع العام لفهم كيفية تفعيل هذه المجالات، وما هي التفاعلات فيما بينها من أجل تقييم أهمية التفكير بصيغة التشكيلة الشاملة للسياسات التي توضع كمزيج متكامل. أظهرت الخبرة بأن السياسات الناجحة التي توازن الحركة والاستدامة هي تلك التي تأخذ بالحسبان الدقيق أنماط الحركة واحتياجاتها والقدرات المؤسسية، وتوصيفا دقيقا للعلاقة بين البشر والسيارات، كل هذا ضمن معطيات بشرية ومالية وتنظيمية ومؤسسية وقدرات تكنولوجية ضمن الإقليم الحضري.

ثمانية فصول

          ضم الكتاب ثمانية فصول غطت ما عدده 268 صفحة، تناول الفصل الأول تعريف المدن الكبيرة العملاقة Mega Cities  والتي تعد ظاهرة حديثة ترافقت مع النمو الكبير الذي يشهده العالم من تجمعات سكانية، أطلق عليها المدن الكبيرة والتي تعد من أول التحديات التي تواجهها التنمية المستدامة في العالم في القرن الحادي والعشرين، وقد مثّل هذا العامل الأهم المؤثر على الاقتصاد والنقل والبيئة وموارد المجتمع وإداراته.

          إن هذا النمط من التشغيل للمدن الكبيرة يعد ظاهرة لم تعرفها البشرية فقد بلغ عدد المدن الكبيرة ما يقرب من 400 مدينة في العالم، علما أنّ المدينة الكبيرة تلك التي يزيد عدد سكانها على مليون نسمة ومن ضمن هذه المدن الكبيرة هناك مدن كبيرة جدًا، هي ما يطلق عليها Mega Cities أو يمكن تسميتها بالمدن العملاقة، وثلثا هذه المدن يقع في العالم النامي. إنّ إدارة هذه المدن العملاقة، لاسيما في مجالات النقل، السكن والأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية تعد من التحديات الخطيرة في العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين.

          يعرض الكتاب مقومات السياسة العامة الاقتصادية والبيئية المحاطة بنظام البنية التحتية، فكيف يمكن للمدن العملاقة هذه أن تتعامل مع كل هذه المعطيات, لاسيما ما يخص البنية التحتية، وعلى رأسها «النقل» ولا ننسى دور «النقل» الكبير في النمو الاقتصادي والرفاهية وغيرها من المعطيات الاقتصادية والاجتماعية.

          يشخِّص الكاتب أعراض غياب الاستدامة في نظام النقل، فلقد كان للعولمة والمدنية، وشيوع ظاهرة السيارات، المساهمة في الحالة المريعة لعدد غير قليل من مدن العالم الثالث، مما دفع هذا المؤسسات البلدية في هذه المدن لحافة الهاوية، فكان الازدحام وتلوث الهواء والآثار الصحية السلبية، كل هذا قاد البنك الدولي لتحديد نسبة الخطر التي تواجه مدن العالم النامي، ويطرح الكاتب التوجه نحو الاستدامة، وهذا ما عنون به الفصل الثاني الاستدامة Sustainability ليناقش المفاهيم الأساسية لها، فيعرض لعدد من التعاريف والمضامين العلمية، ويضع بين يدي القارئ عددًا من الأمثلة لتلقي الضوء وتؤشر لحالات معينة، وقد ساعد كل هذا في تفسير معظم الجوانب الخاصة بالبيئة، ونوعيتها ومساهمتها في التنمية الاقتصادية والنمو، والحفاظ على الثروة البيئية للأجيال المستقبلية .

          وطرح الفصل الثالث من الكتاب المداخل لتحقيق تنمية مستدامة وتوفير إطار مفاهيمي لتحقيق ذلك، وهنا يعرض الفصل الاستدامة بوصفها مشكلة إدارة الموارد التي صنفها إلى ثلاثة أصناف فقد تكون الموارد عاملا من عوامل الإنتاج ومنها ما هي خدمات طبيعية وبيئية، وأخرى بفائدة متحققة من الطبيعية أو بمثابة المغاسل التي تمتص أو تستوعب المخلفات والتلوث، وقد استنتج الفصل أن العقلانية التي تقف وراء القطاع الخاص في مضمون تلك الاستدامة العالمية والحاجة لرؤية سياسات شاملة وفاعلة يكمن في التكامل كطريقة أفضل. لقد عرض الفصل نظام المحاسبة البيئي الذي يتناول الصنف الأول من الموارد والتقييم البيئي للصنف الثاني منها، فيما كان الصنف الثالث بمنزلة الرقابة على التلوث والتي تتمثل بطبقة الأوزون في أعالي الجو، وقد عرض الكلفة والمساحات المناسبة، وانتقد نظرية السوق في الاقتصاد، وعرض المكونات الاقتصادية والاجتماعية والمالية والمؤسسية لاستدامة النقل.

          وعرض الكاتب سياسة النقل واستدامة البيئة، وبيَّن كيف أن سياسة النقل تمثل سياسة عامة، لابد من أن تتوافر بنوعية تسهل عمل الاقتصاد، ولابد من أن تركز على جانبي العرض والطلب وفق قاعدة السوق في التسعير والتنظيم، ومن هنا يعرض الفصل خيارات تلك السياسة من خلال فهم دور النقل في المجتمع، وعلاقة النقل بكل مورد من الموارد الثلاثة المصنفة، مما يؤشر إلى أهمية إدارة النقل والاستخدام الجيد للسيارة وإدارة العرض وإدارة الطلب ووضع الضوابط، لاسيما في استخدام الشارع والبارك واستخدام الأرض واستخدام التكنولوجيا المتطورة المعلوماتية منها والاتصالاتية. فيما عرض الفصل الخامس عنوانا غاية في الأهمية هو «الشراكة العامة الخاصة» للوصول لمشاريع نقل مستدامة، إنها الشراكة التي يمكن لها إن تساهم في التمويل والتنفيذ لإستراتيجيات الاستدامة، وهنا تمت مناقشة آليات مختلفة لتحقيق تلك الشراكة والتي تمثل إطارًا لعمليات المفاضلة للخدمات وتقييم فاعليتها وعرض عبر تسعة عناوين فرعية ذلك الدور وتمويله وتنفيذه.

          وشكل الفصلان السادس والسابع الجانب العملي، فكان السادس ينصب على أمثلة ودروس لسياسات النقل في سنغافورة وواشنطن دي سي وسان باولو وغيرها، فيما ركز الفصل السابع على حالة دراسية عن مدينة Guangzhou والتي تقع في الجنوب الشرقي من الصين، تلك المدينة التي يطلق عليها الصينيون البوابة الجنوبية والتي تعد المدينة الأكبر في الصين. وقد جمعت هذه المدينة الملايين من الناس من كل أنحاء البلاد وحققت نموا اقتصاديًا كبيرًا ويعرض وضع المدينة وتزايد عدد السكان وتوقعاته وكذلك عدد السيارات، وتفاقمت نسب الانبعاثات الملوثة فوضعت الخطط والبرامج والإجراءات ويضع الكاتب أسسًا ومبادئ لمتخذ القرار وتتمثل بالشمولية والتعاون والمرونة والتكيف والاطلاع الكامل من خلال المعلومات والتحليل ومعرفة الأدوار والشفافية، فيما عرض الفصل الثامن الاستنتاجات التي خرج بها الكاتب ومن أهمها أن نجاح الإستراتيجيات لابد من أن ينطلق من مدخل شامل يعتمد المؤسسة المحلية والمعايير الحضارية، وكذلك لابد من تفعيل دور القطاع الخاص وللحكومة الدور الحاسم في تحقيق النجاح. تتطلب الاستدامة توازن الاعتبارات الاقتصادية مع البيئية، وأن شراكة القطاع الخاص بالعام تعد غاية في الأهمية لمواجهة المخاطر وتحمل الكلف الكبيرة.

تحديات المدينة

          لقد طرح الكاتب وبوضوح تحديات المدينة في القرن الحادي والعشرين، إذ يقول بأن المدينة يجب أن تكون ذات كفاءة اقتصاديًاَ ومتكاملة اجتماعيًا ومسئولة ماليًا، أما بيئيا فلابد من أن تكون المدينة قادرة ذاتيا على حماية بيئتها، ومن هنا فإن توافر هذه العناصر هو سر النجاح والبقاء للمدينة، وقد أكد الكاتب أن المدن أصبحت هي النقاط المركزية لتحديات الاستدامة العالمية، مما يؤشر إلى حاجة المدن لتطبيق معايير الاستدامة وهذا ما أكد عليه العديد من المؤتمرات العالمية وبالتحديد نوعية الحياة في المدينة.

          إن قراءة معمقة لمدننا العربية سواء منها العواصم وغير العواصم، امتدادًا من دول الخليج العربي وانتهاءً بدول المغرب العربي، تبين أن معظم مدننا كبيرة، وهناك منها العملاقة مثل القاهرة وفي ظل المعطيات الحالية والسكانية والاقتصادية ولعقد قادم ستتضاعف المدن بحجم سكانها وبحافلاتها ومركباتها وطرقها وتلوثها، مما يستدعي التوقف قليلا عند عنوان مهم يركز عليه العالم بوصفه اتجاهًا حديثًا وهو قلب المشكلة والمتمثل بالمدينة. فقد بدأ التركيز ومنذ سنوات على المدينة بوصفها ظاهرة مركبة ومعقدة، بوصفها مخزنا لكل معطيات التجربة الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والجغرافية والبيئية إنها البوتقة التي تفاعل فيها كل النشاط الإنساني والمجتمعي، وباتت المحرك الفاعل للاقتصاد والمجتمع، بل باتت المؤشر الدقيق للتفاعل الحضري والمدني للنمو والتطور أو ربما العكس، فتكون ركاما للتخلف والتراجع، إنها المدينة التي تعد عنوانًا شاملًا لعدد كبير من القضايا المهمة والحرجة، مثل: البطالة والفقر وهجرة الريف وتدني الخدمات العامة، وتدني نوعية الحياة، مما يستدعي التوقف عندها، بعيدا عن الدولة ككل، ذلك أنّ المدينة تمثل وحدة مكانية مستقلة وهذا ما ينادي به المؤلف وأتمنى أن يلقى الصدى المناسب في عالمنا العربي.
--------------------------------
* أكاديميان بجامعة ماساتشو ستس، الولايات المتحدة.
** أستاذ في كلية الإدارة والاقتصاد - جامعة الموصل، العراق.

 

 

 

ف. موافنزاده و م.ج. ماركو*