ڤيينا الدانوب الأزرق وأحلام المفكرين

ڤيينا الدانوب الأزرق  وأحلام المفكرين

 يعكس إنسان مدينة فيينا عاصمة النمسا في سلوكه اليومي طبيعة الاختيار النمساوي. والاختيار النمساوي الحديث بدأ في النمسا مع عام 1955، أي إنَّ عمر هذا الاختيار يقترب من عامه الخامس والستين. ويتضح لزائر العاصمة النمساوية فيينا انعكاسات الاختيار في سلوك التعامل الذي يبدو صورة لعالمية التفكير، التي تبدو مظهرًا على حركة الحياة السياسية والاقتصادية من جانب، كما تبدو أيضًا في مجالات الإبداع الثقافي والفني من خلال الندوات والمعارض والمهرجانات والاحتفالات والأعياد التي لا تنقطع طوال العام.

 

إنَّ وعي الشاعر الغنائي العربي الذي وضع منذ ما يقرب من نصف قرن أغنية لأسمهان تحمل اسم «ليالي الأنْس في فيينا»، هو وعي مبكر بالحياة الخاصة لهذه العاصمة الهادئة التي لا تنقطع فيها مظاهر البهجة، لكن من دون صخب أو ضجيج!
وليالي فيينا لا تنقطع على مدى السنة، لكنها تزداد بريقًا مع تقدم الربيع والصيف. وتشهد فيينا كل عام أعدادًا من الزوّار يُمثلون أغلب قارات العالم، ويزيد عددهم في شهور الذروة على نصف عدد سكان فيينا إلى نحو مليوني نسمة، ورغم سيادة اللغة الألمانية لغة الشارع النمساوي، ولغة الحديث للسكان، إلّا أنَّ فيينا، وبحكم إمكاناتها السياحية، تَحظى بنسبة ضخمة ممن يتحدثون اللغات الأخرى، مثل الإنجليزية، الفرنسية، الإيطالية، التركية، الإسبانية، الروسية، اليابانية، وأيضًا اللغة العربية التي وضح الاهتمام بها منذ افتتاح المركز الإسلامي في فيينا، وقيام مدرسة خاصة بتعليم اللغة العربية للمسلمين في النمسا، وأيضًا لمن يرغب من سكان مدينة فيينا، فضلًا عن احتضان النمسا عشرات الآلاف من اللاجئين العرب وغيرهم.
ولا يعادل رقّة التعامل التي تبدو على النمساوي في علاقاته بالزائر الأجنبي غير رقّة جيرانه في حوض الدانوب من سكان بودابست وبلغراد والجار السويسري. ورقّة وأدب النمساوي تبدو في أسلوب التعامل المكتبي، وفي تعاملات المرافق العامّة من إجراءات الجوازات والجمارك واستخدامات الهاتف والبريد والسكك الحديدية والطيران، والانتقال بالسيارات، وأيضًا في المطاعم والأسواق والمحال التجارية. لكن ضغط الزوار على مدينة فيينا وعدم قدرة الطاقة الفندقية بها على استيعاب أعداد الزوار، في أيام الذروة، إلى جانب غلظة بعض هؤلاء الزوّار وتصرفات بعضهم ممن لا يحترمون العُرف الإنساني السائد يجعل سلوك بعض موظفي الاستقبال في الفنادق، وبعض المرافق، ليس على نفس درجة الرقّة والتهذيب البادية على شخصية الإنسان العام في أغلب مجالات التعامل، خاصة الأدب الجمّ الذي يلحظه الزائر على سلوك موظفي المصارف (البنوك)، والتي يبدو انتشارها في العاصمة النمساوية مؤشرًا مهمًا يوضح طبيعة المظهر الغالب على النشاط الاقتصادي في العاصمة التي تلعب دور الوسيط الناجح في حركة تشغيل رؤوس الأموال في أوربا والشرق الأوسط، إلى جانب دورها في دورة الاستيراد والتصدير كهمزة وصل بين الشرق والغرب.
يتمّيز الشارع النمساوي أيضًا بالوقار والاحترام النسبي مقارنة بالعواصم الغربية الأخرى... فرغم السماح ببيع الكتب والمجلات التي تتناول كل الموضوعات في حرية كاملة، إلّا أنّ هناك سلوكًا محترمًا تلحظه ويبدو في عرض هذه السلع على الجمهور وبحيث لا تخدش الحياء العام.
وسلوكيات إنسان فيينا لا تظهر فقط في هذا الجانب من جوانب التعامل الإنساني، بل تبدو أيضًا في مشاعر التكامل والتعاطف التي نسميها بلغتنا العربية «مشاعر الشَفقة»، وهذه المشاعر تبدو في ميل النمساوي لكي يكون دليلًا للأجنبي في أثناء حاجته إلى معرفة عنوان أو مكان يقصده فيقدم له هذه الخدمة بمنتهى اللطف والود، ولا يكتفي بأن يكون المرشد له في البحث عن المكان المستهدف، لكنه يعرض عليه أن يكون مرشدًا له بقدر المعلومات التي تفيده، كأن يشرح له أن قسيمة ركوب الترام والمترو والباص، وقدرها مائتان وعشرون سنتًا، والمائة سنت تعادل «واحد يورو»، تصلك للاستعمال عدّة مرات خلال ساعتين من الاستعمال، وينصحك النمساوي في حرص بأن تكون اقتصاديًا كي تستفيد بهذه الصلاحيات ولا تلقي بالتذكرة بعد أوّل استعمال لها.
هذا نموذج من عشرات النماذج التي توضّح أنَّ الإنسان النمساوي في فيينا يتمتع بصفات الانتظام والدقّة والنظافة، وإيقاع الحياة الغربي السريع وكيفية إغرائك لتخرج كل ما في جيبك عن رضا لتشتري السلع والخدمات التي يعرضها.
والاختيار النمساوي للفلسفة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي ارتضاها المجتمع خلال ربع القرن الأخير ينعكس أيضًا على طرق تفكير الناس وأسلوب فهمهم للمتغيرات والأوضاع الفكرية التي يمرّ بها العالم بصفة عامة والنمسا بصفة خاصة، ولعلَّ أوضح مثال على ذلك ما تلحظه إذا ما تأملت أي منبر صحافي من بين 22 صحيفة يومية تصدر في النمسا، منها 6 صحف تصدر في النمسا إلى جانب 45 مجلة أسبوعية وشهرية توزع في مجموعها ثلاثة ملايين نسخة في بلد تعداد سكانه يقترب من الملايين التسعة، وأهم الصحف والمجلات في النمسا «كرونين سايتونغ»، «كورير»، «بريسة»، «شتاندرد»، «أوسترايخ»، فضلًا عن الراديو والتلفزيون، أبرز وسائل التعبير عن الرأي العام، ووضع هذه الأجهزة القانوني أنها وسائل تعبير مستقلة عن الدوائر الحكومية لا تتحيز لأي من الأحزاب القائمة، وهي الحزب الاشتراكي المحافظ، حزب الاشتراكيين الديمقراطي، حزب الخضر، حزب الحرية اليميني الشعبوي، وحزب نيوس، ولكنها تخضع في تمويلها لسلطة الدولة. أما وضع الصحف والمجلات فله أيضًا حصانات دستورية توضح حدود الحرية التي تتمتع بها والصحف والمجلات تقوم دون ترخيص من الدولة أو تبعية لها، لكنها مع ذلك تخصص لها من ميزانيتها السنوية مبلغًا تدعيمًا للنشاط الصحافي في مجالات الإعلام الثقافي والاقتصادي.

بين الحاضر والماضي
مدينة فيينا يحدّها سهل الدانوب ومنخفضات متدرجة من مرتفعات الألب تجعلها في موقع يربط أهم الطرق التي تصل الغرب الأوربي بالشرق الأوربي. وفيينا عاصمة النمسا وعاصمة أقاليمها الاتحادية التسعة، وهي همزة الوصل بين الاتجاهات الأربعة في قلب أوربا. ويعود تاريخ المدينة إلى عهد الامبراطورية الرومانية في زمن الامبراطور أوغسطس الذي أقام معسكرًا قرب فيينا الحالية، وظل مركزًا للحكم في المنطقة نحو 400 عام. وأصل فيينا يعود إلى التسمية القديمة (فندوبونا)، التي يعتبر الدوق ليوبولد الكبير مؤسسها، وكان ذلك في عام 1137 بعد الميلاد، لكن الاستقرار لم يعم المدينة في تلك الفترة المبكرة بسبب سقوط حاكم فيينا الدوق مزد ريك الثاني قتيلًا في معركته التي خاضها ضد جيرانه المجريين (الهنغاريين) في عام 1246، وبعده تولى حكم فيينا أسرة هابسبورغ التي تم في عهدها حصار مدينة فيينا من خلال قوات الدولة العثمانية والذي حال دون تقدم القوات التركية غرب مدينة فيينا في اتجاه إيطاليا وفرنسا وبقية أوربا. وفي القرن الثامن عشر تشكل الطابع المعماري لمدينة فيينا، حيث جرى تأسيس قصر شنبرون وكنيسة سان شارل والمكتبة القومية.
وعقب إعلان انتهاء الحرب بين النمسا وقوات نابليون في عام 1813 تم توقيع التحالف الرباعي بين بافاريا (بايرن)، وبوروسيا (شمال ألمانيا)، وروسيا (أشهر جمهوريات الاتحاد السوفييتي الآن) مع النمسا، وأصبحت فيينا العاصمة التاريخية التي شهدت دور داهية الساسة في القرن الثامن عشر الأمير (مترنيخ)، رئيس وزراء النمسا ووزير خارجيتها الذي لعب دورًا كبيرًا في تقسيم أوربا في العصر الحديث.
في منتصف القرن التاسع عشر هدمت أسوار المدينة التاريخية من أجل توسيع رقعتها وأقيم شارع الرينغ، وهو يعطي المعنى نفسه باللغة العربية (الدِبْلة)، أو (الخَاتم)، أي معنى الشارع الدائري حول المدينة، وقد أقيم هذا الشارع لتقوم حوله أعداد ضخمة من الحدائق والمساحات الخضراء والقصور والمباني التي تعد أبرزها ما في الفن الذي ينتمي للطراز الباروكي، وطراز (الجوجندستيل)، أي طراز الفن الحديث.
شهدت فيينا أصعب السنوات في القرن العشرين عندما مات الأرشيدوق فرانسوا جوزيف الأول أثناء الحرب العالمية الأولى وانتهى بموته حكم سلالة هابسبورغ، وقامت الجمهورية النمساوية الأولى في عام 1918، لكن ألمانيا النازية ضمّت إليها النمسا في عام 1938 بحجّة أنّها أراض ألمانية يتحدث سكانها اللغة الألمانية.
ومن المعروف أنّ أدولف هتلر فشل في الالتحاق بأكاديمية الفنون في فيينا لدراسة الفنون الجميلة حيث رسب في امتحان القدرات.
وفي عام 1945 لم يتم تقرير مصير النمسا حتى تم ذلك في عام 1955 متأخرًا عشر سنوات على نهاية الحرب العالمية الثانية، وتم هذا بمقتضى اتفاق الدول الكبرى (الحلفاء) على ضمان حياد النمسا.
والنمسا من خلال المنظور البانورامي تقدم في شكلها المعماري الحالي صورة لآثار تلك السنوات السابقة تبدو في معالم فيينا المعمارية، مثل كاتدرائية سانت استيفنس (سان اتيان)، وكنيسة سان شارل، وكنيسة الكابوسين، كما أنها تمثل خلاصة عطاء الإنسان النمساوي على مدى سنوات قرون طويلة تلمّس فيها آثار العصر الروماني الحجرية وترى ملامح العمارة القوطية والباروكية في القصور والتماثيل والحدائق والمقاهي، مثل: قصر شنبورون، وقصر هوفبورغ الملكي، وحديقة فلكس جاردن بجانب المتاحف، والأوبرا، وقاعات الموسيقى التي صدحت فيها ألحان موتسارت، وليست وهايدن وبتهوفن وشوبيرت وبرامز وشتراوس وزولتان كوادي وغيرهم، والتي وضعت في فيينا وامتزجت بعطائها الحضاري عبر السنين.

الفروسية وأحلام المفكرين
وللفروسية في فيينا قصة تجعل النمساويين يطلقون على مدرستهم للفروسية تسمية المدرسة الإسبانية، فهي تعود إلى تزويد قصور أسرة هايسبورغ الإمبراطورية بالخيول الأصيلة القادمة من البلاط الملكي الإسباني، وهي خيول عربية أصيلة تعود سلالاتها إلى أيام الأندلس وتسمى خيول «ليبيزان»، ويعود بناء مدرسة الفروسية إلى عام 1728، وهي مدرسة لتعليم فنون الفروسية التقليدية ويمثل استعراضها التقليدي أحد المظاهر السياحية المميزة لمدينة فيينا حتى هذه السنوات.
وتعتبر زيارة مدرسة الفروسية الإسبانية نشاطًا مهمًا يقوم به السائح فى فيينا، وهي من المعالم السياحية التي يشيد بها أغلب زوار فيينا الذين يستمتعون بمشاهدة الأحصنة والعروض الجميلة على موسيقى عصر النهضة الكلاسيكية.
وتقع مدرسة الفروسية الإسبانية ما بين شارع ميشيلير بلاتز، وجوزيفز بلاتز بالقرب من قصر هوفبورج وسط مدينة فيينا.
وتفتح المدرسة أبوابها للزوار لمشاهدة التمارين الصباحية للأحصنة، كما تقيم عروض الفروسية بشكل مستمر، ويمكن للزوّار أيضًا التجول في جولات سياحية داخل المدرسة لمشاهدة الغرف التاريخية والتعرف على المدرسة ومشاهدة الإسطبلات وأحصنة «ليبيزان» عن قرب فهي أحصنة رائعة الجمال.
ويؤدي الفرسان عروض الفروسية في مدرسة الفروسية الشتوية والتي بنيت ما بين عامي 1729 و1735، وهي قاعة مغمورة باشعة الشمس لونها أبيض يتخلله بعض اللون الرصاصي، وبها بورتريه للإمبراطور تشارلز الخامس يقع مقابل المدخل. وعلى مقربة من مدرسة الفروسية المسمّاة بـ «المدرسة الإسبانية» يبدو مبنى المكتبة الوطنية الذي يضمّ مخطوطات وكتبًا نادرة يعود معظمها إلى عام إنشاء المكتبة في عام  1723على يد فيشر فون إيرلاخ بعد أن أكمل المشروعات والخطط التي وضعها والده لإنشاء هذه المكتبة المهمة.
وفيينا كانت ولا تزال مدينة الأحلام الأوربية، لم يكن ينافسها في هذا التصور الرومانسي غير باريس في الغرب، وبودابست توأمها على نهر الدانوب، ومظاهر الحلم في فيينا تبدو في أكثر من لون تشكل ألوان الطيف الحالمة بداية من دار الأوبرا، المركز الموسيقي العتيد، وحيث كانت فيينا مصدر إلهام لعدد كبير من قادة الفكر الموسيقي العالمي، بل إن السياسيين والنبلاء في فيينا انشغلوا أيضًا بالموسيقى، فقد ألّف الامبراطور ليوبولد الأول عدة أوبريتات بجانب مقطوعات موسيقية.
وعندما يتقاطع شارع الرينغ شتراسه، أشهر شوارع فيينا مع ميدان الأوبرا، يظهر للزائر شارع كارنتنر، أبرز شوارع فيينا اجتذابًا للناس والزوّار وهو الشارع الذي نجد فيه أهم المطاعم، المقاهي، دور السينما، المكتبات العامة، محلات بيع الحلوى، الملابس، الصحف والمجلات، وهو شارع لا يسمح فيه بعبور السيارات، وهو مخصص للمارة فقط من المشاة ممن يتجولون سيرًا على الأقدام، فضلًا عن شارعي «فافوريتن»، الذي يقع في الحي العشر، و«ماريّا هيلفر» في الحي السادس، وغيرها.
وبالقرب من شارع كارنتنر نجد أسفل الرينغ المتقاطع معه، وفي مواجهة بيت الأوبرا، مدينة كاملة تقود إلى محطات المترو تحت الأرض، وفي هذا الطريق عدد كبير من المقاهي والمحلات والمطاعم، كما أنّه موقع مهم لأنصار الحرية وحقوق الإنسان والمطالب الفكرية ممن يجدون بغيتهم في المجتمع النمساوي المنفتح على العالم.
وينتهي هذا الطريق تحت الأرض صاعدًا فوق الأرض إلى ميدان كبير به فندق «ساشير» الذي يعد تراثًا تاريخيًا مهمًا، حيث كان قبيل الحرب العالمية الأولى ملتقى المهتمين بالفكر والثقافة وأصحاب المواهب من الشعراء والأدباء والكتاب والصحافيين والفنانين وأبناء الطبقة الأرستقراطية في ظل الامبراطورية النمساوية المجرية، ولا تزال القاعة الضخمة في هذا المكان تعتبر موقعًا طبيعيًا لتصوير الأفلام السينمائية والأعمال التلفزيونية التي تتعرض لتاريخ العالم قبل الحرب. ومن هذه الأعمال التي صورت في قاعة فندق «ساشير» وفندق «امبريال» فيلم «مايرلينج»، الذي لعب بطولته الممثل العالمي عمر الشريف أمام النجمة الأمريكية أفا جاردنر.
ويعتبر مبنى البرلمان أهم ما في شارع الرينغ من المعالم، وقد بناه في عام 1883 المهندس الدانمركي ت. هانين، الذي درس العمارة في الجامعات اليونانية، لذلك بناه على الطراز الإغريقي.
والمتاحف في فيينا عديدة، أهمها: متحف الفنون الجميلة الذي يضم مجموعات التصوير والنحت والحفر في الطابق الأول، ثم متحف النقود والعملات في الطابق الثاني، ويضم 91 صالة تمتد بطول 4 كيلومترات، وتضمّ أكبر حشد من عملات العالم منذ بداية معرفة البشرية نظام التعامل النقدي حتى العصر الحديث. ويصل مجموع هذه القطع النادرة إلى حوالي 480 ألف قطعة ثمينة.
وفي مجال الفن التشكيلي تضمّ مقتنيات المتحف أبرز أعمال الفنان الهولندي برويجل، ولوحة «شمشون ودليلة» للفنان فان إيك، ولوحة «ديانا» للفنان تيستان، ولوحة «الطفلة مرجريت» للفنان فالاسكيز، ولوحة «هيلين»، ولوحة «البكاء على المسيح» للفنان روبينز، إلى جانب أعمال عديدة للفنانين رافائيل ورمبرانت وكرانش وغيرهم.
وإلى جانب متحف الفنون الجميلة نجد في فيينا متاحف عديدة لا بد أن تقودك قدماك إليها إذا كنت من عشّاق التعرّف على تطور التاريخ الإنساني، فهناك متحف الساعات، ومتحف الجيش، ومتحف التكنولوجيا، ومتحف السلالات، ومتحف المركبات والعربات، والمتحف الزراعي، ومتحف زراعة العنب (الكروم)، ومتحف البرتينا الذي يضمّ مقتنيات الأميرة أوجين دي سافو، وهو من أشهر عشّاق جمع تراث الإبداع الإنساني في مجالات الفنون التشكيلية.
ومن بين المتاحف الضخمة المتحف الوطني في فيينا، الذي تصل مساحته إلى نحو 8700 متر مربع، ويحتوي على مجموعات من القطع الأثرية من النقود والتي تعود لـ 250 سنة، ويضم حوالي 30 مليون قطعة، والعدد مازال في ازدياد. وتم افتتاح هذا المتحف للسياح في عام 1889 باسم متحف «التاريخ الطبيعي الامبراطوري»، ويتألف من طابقين، ويعمل داخله 60 عالمًا وخبيرًا، وقد هيأ المتحف ديكوراته وأثاثه وتصاميمه الداخلية للمحافظة على التراث الثقافي التاريخي، ويحتوي المعرض على تمثال فينوس الذي يعتقد أن عمره 2000 سنة، وهياكل عظمية لديناصورات وديلودوكس، بالإضافة إلى حيوانات ونباتات انقرضت منذ 200 مليون سنة.
ويوجد في الطابق الأول للمتحف مجموعة متنوعة من الحيوانات والحشرات والكائنات التي تعود لأكثر من 200 سنة، كما يحتوي على وثائق تاريخية لفن التخطيط ووثائق توضّح الأسباب التي جعلت هذه الحيوانات تنقرض أو تصبح مهدّدة بالانقراض. 
وفي الطابق العلوي  من المتحف تعرض الأحجار الكريمة، مثل: باقة زهور ألماسية قدمتها ماريا تيريزا لزوجها كهدية، فضلًا عن المعادن والنيازك، وعرض مميز للديناصورات الكبيرة، كما يحتوي المتحف على حفريات نادرة وأعمال فنية تعود لملايين السنين.
وإلى جانب المتاحف المغلقة والمتخصصة هناك متاحف مفتوحة، هي ميادين وشوارع فيينا، حيث تنتشر التماثيل والنصب التذكارية والتي تعد من أبرز أعمال النحت، مثل: تمثال المارشال «راديتسكي»، القائد العسكري الذي أهداه الموسيقار شتراوس الأب موتسارت في حدائق هوفبورغ، والمسلة التي تزيّن مدخل مسرح فيينا، وتمثال الموسيقار شتراوس الابن، والنصب التذكاري للقضاء على الطاعون الذي هدد سكان فيينا في القرن الثامن عشر، وهو موجود في بداية شارع غرابن الذي يعتبر أحد وأشهر شوارع قلب فيينا.
والجامعة القديمة ومبنى البلدية الـ «رات هاوس» من أهم معالم فيينا المعمارية، وقد صمّم مبنى الجامعة المهندس فيرستل، والتي تم بناؤها بين عامي  1874و1883، وهي غير مباني الجامعة الأخرى التي أسسها وولف الرابع.

المسارح والمهرجانات
في مدينة فيينا عدد كبير من المسارح، أبرزها دار الأوبرا، ومسرح البرجا، ومسرح الأكاديمية، ومسرح أندرفيين، والمسرح الصغير، ومسرح ستديو فاشماركت. ويعد مسرح «البورجا»، أو الأوبرا الشعبية أهم مسرح يعرض الأعمال الدرامية التي تقدم باللغة الألمانية، وهي اللغة القومية للنمسا، وقد أسس هذا المسرح بإذن من الامبراطورة ماريا تريزا، ويخلّد المسرح أهم الكتّاب والشعراء الذين كتبوا النصوص المسرحية التي عرضت عليه من خلال تماثيل مقامة أمام واجهة المسرح الذي تعرّض للحريق في نهاية الحرب العالمية الثانية حتى أعيد ترميمه وبناؤه من جديد ما بين 1951 و1955.
وما حدث لمسرح البورجا حدث أيضًا لدار الأوبرا التي تعرضت للقصف في مارس 1945، فاحترقت ولم يبقَ منها سوى الصالة والشرفة، لذلك أعيد بناؤها ِوبين عامي  1945 و1948، وعادت للعمل مع استقرار النمسا وإعلان استقلالها وحيادها في عام 1955 بعرض رائعة بتهوفن «فيديلليو». وتستوعب دار أوبرا فيينا 2200 متفرج إلى جانب المكان المخصص لمائة وعشرين موسيقيًا من أفراد الأوركسترا، وعدد من القاعات لإجراء بروفات الباليه والموسيقى والتعبير الدرامي. وبدار أوبرا فيينا 9 مراكز للالتقاط والتصوير التلفزيوني، وعدد 50 ميكرفونًا للتسجيل الصوتي الإذاعي، ويعادل استهلاك دار أوبرا فيينا قدر ما تستهلكه مدينة صغيرة يقيم بها 30 ألف شخص من استهلاك للكهرباء في الإضاءة والتشغيل.
وعشاق الموسيقى لهم قاعة شهيرة في فيينا تسمى قاعة الكونسيرت، تشرف عليها جمعية أصدقاء الموسيقى التي تتولى تنظيم حفلات الكونسير والأمسيات الموسيقية. 
والموسيقى في فيينا ليست هي فقط الموسيقى الكلاسيكية وموسيقى الأوبرا والباليه والأعمال الدرامية الكبيرة، لكنها أيضًا الموسيقى الشعبية التي تصدح في الحدائق العامة خلال أيام العطلات، حيث تستمع إلى موسيقى المؤلف النمساوي شراميل، التي تشعر عند سماعها بمشاعر البهجة التي تنطلق من عزف رباعي الكمان والجيتار والأكورديون وآلات النفخ النحاسية.
وفيينا تعيش في مهرجانات على مدى أيام العام، وهناك المهرجان المسمى باسمها والذي يقام منذ عام 1950 خلال شهري مايو ويونيو، وهو مهرجان عالمي يضمّ فنون المسرح المختلفة، ويصل متوسط من يحضرون عروضه إلى نحو 50 ألف شخص، وهو غير موسم الكونسير الصيفي الذي تبدأ عروضه أواخر شهر يونيو، ويستمر حتى منتصف سبتمبر، وتقام عروضه في قاعة المدينة، وفي حدائق قصر «شونبرون»، ويصل عدد رواده إلى نحو 60 ألف شخص، 70 في المئة منهم من الأجانب.
 ويقام في المدينة أيضًا المهرجان العالمي لدراما الشباب، وقد بدأ نشاطاته منذ عام 1978 وهو يقدم عروضه للهواة من المؤلفين والممثلين والفنانين، وهناك مهرجانات أخرى متنوّعة، منها مهرجان الموسيقى النمساوية الحديثة والمعاصرة والذي بدأ منذ عام 1966، ومهرجان موسيقى الشباب الذي بدأ منذ عام 1971، ثم مهرجان «فينالي»، وهو مهرجان سينمائي بدأ عام 1958 ويستمر انعقاده على مدى أسبوع في منتصف نوفمبر من كل عام، وهو غير مهرجان وارس للسينما والتلفزيون الذي يقام منذ عام 1980 ويقدم إبداعات شباب الشاشتين الصغيرة والكبيرة في مجالات الإبداع الفني المختلفة.
وقد استضافت العاصمة النمساوية العديد من المعارض التي تمثل ملامح عطاء الحضارات الإنسانية المختلفة. وفي ظل هذه التوليفة التي تقوم عليها الحياة في مدينة فيينا والتي وجدت أوضح صورة للتعبير عنها في متحف تاريخ السينما بضواحي المدينة، الذي يقدم في أعمال تسجيلية أسباب تعلّق نجوم الفكر والموسيقى والسياسة بمدينة فيينا خلال العصور المختلفة. يزداد  سنويًا عدد زوّار النمسا، وبالتالي تزداد نسبة مساهمة الدخل السياحي في الدخل القومي النمساوي، حيث وصلت في العام الأخير إلى 8.3 في المئة، بينما كانت متدنية في بقية الدول الأوربية المجاورة... ومن أهم الجنسيات الزائرة: ألمانيا، هولندا، بريطانيا، بلجيكا، فرنسا، سويسرا، الولايات المتحدة، السويد، إيطاليا، والبلاد العربية، وخاصة مصر، دول الخليج العربي، تركيا، اليابان، إسبانيا، اليونان، والبرازيل.
والسينما في فيينا بدأت مع تقديم أول فيلم نمساوي في عام 1908، ومن أشهر نجوم السينما العالمية ذوي الأصول النمساوية النجمة الراحلة رومي شنايدر، والنجم الراحل كورت كيرنجر، والنجم فريد أستير، والنجمة شيللي ونترز.

السير على الأقدام
هواة السير على الأقدام تجتذبهم مدينة فيينا، وخاصة في فصل الصيف، حيث نجد شوارع كارنتنر وغرابن وسوق «كوهلما ركت» يقتصر المرور فيها على المشاة دون مرور السيارات، وفي هذه المناطق متنزهات وأماكن للجلوس في مواجهة أكبر محلات ومعارض فيينا ومتاجرها الشهيرة، التي تبدو الأسعار فيها مرتفعة والحياة فيها مكلفة بالمقارنة بغيرها من العواصم الأوربية وسط أوربا وغربها، وهي تعرض المنتجات اليدوية والفلكلورية إلى جوار الأزياء والملابس والمعروضات الحديثة. وهي مساحات مكانية تزدحم بالعرض والطلب، لكنها لا تبعد كثيرًا عن حدائق فيينا التي تتسع لتصل إلى مساحة حوالي 1600 هكتار، وأهمها: حديقة بورخارتين، حيث تمثال «موتسارت»، وحديقة شتاد بارك، حيث تمثال «يوهان شتراوس» ملحن الفالس الشهير «الدانوب الأزرق». لكن الدانوب الذي أبدع شتراوس في تأليف مقطوعة موسيقية تحمل اسمه، يبدو أكثر جمالًا في توأم مدينة فيينا في مدينة بودابست، التي يخترقها نهر الدانوب ويقسمها إلى جزء يسمى «بودا»، وآخر يُسمى «بست»، بينما الدانوب في أطراف فيينا لم يمتد حوله العمران إلّا في الفترة الأخيرة، حيث يبدو المركز الأوربي للأمم المتحدة، وتعقد اجتماعات منظمة «الأوبك» من حين إلى آخر.
 وبجوار الدانوب، في فيينا، يطل الجامع الكبير والمركز الإسلامي والمدرسة والمستوصف، وقاعة الاحتفالات، التي يضمّها هذا الملتقى الإسلامي الذي يعتبر المكان الأول في النمسا لتحقيق لقاء ثلاثة أرباع المليون من المسلمين ممن يعيشون في جمهورية النمسا التي يقترب مجموع سكانها من الملايين التسعة، أغلبيتهم من المسيحيين مع وجود أقلية صغيرة من اليهود.
ورغم التطور الذي لحق بالعراقة التاريخية لمدينة فيينا لا يزال لأهل المدينة عادات يحتفظون بها مثل ارتياد مقاهي «الهيوريجين» التي تقع خارج مدينة فيينا، وارتياد مطاعم «جريشبيزل» حيث يقع حول هذه المطاعم عدد آخر من المحلات لتجّار معظمهم من أصول يونانية وإيطالية وتركية.
في مدينة فيينا توجد مكتبة «تاليا»، التي تتوسط شارع ماريا هيلفر، وهو من الشوارع الرئيسة، المخصص للمشاة هو الآخر، فضلًا عن سوق غريب تباع فيه الملابس والأشياء المستعملة، وهو سوق «ناشماركت»، كما تباع فيه أيضًا التحف القديمة (الأنتيكات).
 ومن معالم فيينا الشعبية أيضًا مدينة براتر الترفيهية، وكان إنشاء هده المدينة متوافقًا مع إقامة أوّل معرض دولي في فيينا عام 1897، وتضم نحو 250 عامل جذب، أشهرها عجلة فيريس، العجلة الدوّارة العملاقة، التي يمكن من خلالها الاستمتاع بالنظر إلى المدينة من ارتفاع 64.75 مترًا».
وفي ميدان «ريزينراد بلاتس» بحديقة الملاهي براتر توجد كابينة تماثيل الشمع الخاصة بمدام توسو، وبها تماثيل من الشمع لـ 65 شخصية مشهورة.
إنَّ فيينا توليفة متقنة التأثير في وجدان من يتردّد عليها، فيها الحرص على أصالة تراث الماضي والنظرة المتلهفة على اختراق حواجز الزمن والاطمئنان على مسيرة التحديث. وتبتعد عن مرمى النظر ويظل في الأسماع صدى للألحان العظيمة التي خرجت منها، أو عبّرت عنها، مثل فالس الدانوب الأزرق للموسيقار شتراوس.
وتظل فيينا أيضًا حالة خاصة بين عشرات المدن الجميلة، لأنها نموذج مكتمل الملامح للاختيار الخاص لأهلها وللتأثير بالغ الأهمية لدور الثقافة والمثقفين في حياتها ■

مرور نهر الدانوب إلى وسط فيينا

كاتدرائية سانت ستيفان إحدى أهم معالم فيينا المميزة، وعصر الباروك ممثلاً بالهوفبورغ وقبـّته الفارهة

من أنشطة المدرسة الإسبانية للخيول في النمسا

ولي عهد أبو ظبي سمو الشيخ محمد بن زايد يتسلم جواد الأساتذة هدية من مستشار النمسا ومدرسة الفروسية الإسبانية

مدينة براتر الترفيهية

دار الأوبرا وسط فيينا

الساحة الرئيسية لمتحف التاريخ الطبيعي

القصر الملكي الهوفبورغ في فيينا

قصر (شونبرون) الذي يشكل الطابع المعماري المتميز في القرن الثامن عشر، وفي هذا القصر يقام مهرجان عالمي يضم مخطوطات وكتبا نادرة

(كارنتنر) الذي يعتبر من أهم شوارع فيينا اجتذاباً للناس وهو مخصص للمارة