د. عبدالحميد بورايو نصف قرن من الشغف باحثًا في الموروث الشعبي الجزائري

د. عبدالحميد بورايو نصف قرن من الشغف باحثًا في الموروث الشعبي الجزائري

ما بين «سليانة» التونسية ( المولد)،  و«القاهرة» المصرية (الدراسة)، و«البليدة» الجزائرية (الإنجاز)، تأسس، ومن ثم تشكل وعيه الثقافي الخاص، على مدى سنوات تجاوزت السبعين، جعلت منه رائدًا للدراسات الشعبية في الجزائر، وواحدًا من الأسماء المغاربية المرموقة في هذا المجال، فهو الباحث في التراث الشعبي الجزائري، بعقل الأكاديمي، ووجدان الأديب، وضمير المثقف المقاوم لكل أشكال الإحلال الثقافي، التي نتجت عن الحقبة الاستعمارية لبلاده . الدكتور عبدالحميد بورايو، يمثل مع زملائه وتلامذته من الباحثين في حقل الدراسات الشعبية في الجزائر تيارًا  له حضوره العميق في المجتمع والمجال العلمي، أنجز ولا يزال ينجز، من أجل فض الاشتباك الثقافي بين العروبي والأمازيغي في الجزائر.  نجري معه هذا الحوار تقديرًا لمسيرة نصف قرن من البحث والتدريس والترجمة والنشر العلمي.

 

•لماذا اخترت «بسكرة» و«وادي سوف» ليكونا حيزًا جغرافيًا لبحثك، لنيل الماجستير من جامعة القاهرة؟
- تُشكّل كل من بسكرة ووادي سوف منطقة جغرافية تمتدّ على طول الحدود الجزائريّة التونسيّة شرقًا، من الأطلس الصحراوي من جهة شمال الجزائر إلى بداية الصحراء الكبرى الإفريقية بمحاذاة الحدود الليبيّة، وتمتد غربًا حتى الهضاب العليا شمالًا، وصحراء ورقلة في الوسط الجنوبي للجزائر. منطقة متنوعة العناصر السكانية (جماعات من أصول بربرية وأخرى من أصول عربيّة وأقلية ذات أصول زنجية. يستعمل جميع السكان اللهجة العربية الدارجة، ولهم تراث مشترك.

مبررات اختيار المنطقة
كان اختياري للمنطقة قائمًا على مبررات مختلفة من أهمها؛ أولاً:  لم تكن هناك دراسات سابقة في الجزائر للتراث القصصي الجزائري، وكان لابدّ من القيام بمثل هذا العمل الميداني التأسيسيّ؛ ثانيًا: التجانس الثقافي واللهجي، خاصة وأن المنطقة خضعت في فترة الاستعمار الفرنسي لحكم عسكري لم يتدخّل في شأنها الثقافي، وكان وجود المعمّرين الفرنسيّين ضعيفًا (على عكس ما حصل في مناطق الحكم المدني في الشمال حيث أقام الأوروبيون)، ثالثًا:  لكوني أتقن لهجة المنطقة؛ رابعًا: لما وجدتُه من زملاء الدراسة والعمل من استعداد لمساعدتي على توفير ظروف مناسبة للإقامة والتواصل مع السكان، خاصة في قرية سيدي خالد ومدينتي بسكرة ووادي سوف. 
خضع اختياري أيضا لتوجيه الأستاذة المشرفة نبيلة إبراهيم سالم التي كانت حريصة على أن ينجز طلبتُها من البلاد العربيّة أبحاثا ميدانية بغرض المساهمة في جمع التراث الشعبي العربي والتأسيس لدراسته بمنهجية علمية مناسبة. 
 •أي حكايات من ألف ليلة وليلة، ولماذا اخترتها، لتكون مجالاً لبحثك في دكتوراه الدولة؟
- في تهيئتي للدكتوراه اخترت ستّ حكايات مطولة ذات طبيعة خرافية، يرجح دارسو ألف ليلة وليلة أنها تنتمي للتراث الهندي الذي تُرجم إلى الفارسيّة ومنها إلى اللغة العربيّة، وهي جميعا تمثل ما سمّيته «الحكايات الذرائع» أو «الحكايات الإطار»؛ أي تلك التي تُستعمل كتمهيد أو كمدخل أو كإطار تُدْرَجُ فيها روايات حكايات كثيرة تضمنتها الليالي (قصة الملك شهريار، قصة التاجر والعفريت، قصة الصياد والعفريت،  قصة الحمال والبنات، قصة هارون الرشيد، قصة الخياط والأحدب). كان الهدف هو؛ أوّلاً: تطبيق النظريّة السيميائيّة الشكلانيّة (تيّار مدرسة باريس) على هذه المدوّنة من الحكايات من أجل الكشف عن طبيعة كلّ من مسارها السرديّ ونظام محتواها.  ثانيًا: محاولة تأويل علاقة محتواها بمحتوى القصص الْمُؤَطَّرَة أو الْمُتَضَمَّنَة.

الأدب الشعبي
• الأدب الشعبي لعب دورًا مهمًا في تسجيل تاريخ الجزائر، عندما غابت الأدوات الرسمية، كيف؟
- كان الاستعمار الفرنسي ذا طبيعة استيطانية، سعى إلى استئصال الوجود المادّي للجزائريين عن طريق إبادتهم طيلة القرن التاسع عشر، بغرض تعويضهم بسكان أوربيين؛ ولمّا اتضح له استحالة الإبادة الشاملة سعى إلى تهجير السكان من أراضيهم وإلى القضاء على البناء الاجتماعي الموروث والثقافة التي يحملها السكّان، وكذلك إلى تشتيت النخبة المتعلّمة ودفعها إلى الهجرة إلى المشرق، ومنع التعليم العربي عن طريق المؤسسات الرسميّة.  تسبّب ذلك في فقدان الكتابات التاريخية التي يمكن أن تسجل تاريخ ما يحدث في المجتمع.
لم يجد هذا المجتمع سوى ما يمتلكه من تقاليد شفويّة مثل الأخبار والقصص والأشعار لكي يحملها ذاكرته ويسجّل عن طريقها الوقائع التي عاشها من وجهة نظره.
 •ما الذي يجعل المنجز الشعبي الأدبي في الجزائر متميزًا في شكله ومضمونه؟
- يكمن تميّز المنجز الثقافي والأدبي الشفويّ في الجزائر من حيث الشكل والمضمون في تمثيله للظروف الخاصّة التي عاشها المجتمع الجزائريّ في العهدين العثماني والفرنسي، بصفة خاصة، وإلى التحوّلات التي عرفها قبل ذلك بقليل بعد الفتح الإسلامي للبلاد المغاربيّة وقدوم قبيلتي بني هلال وبني سليم إلى المنطقة، وكذلك الهجرة الأندلسية إثر استعادة المسيحيين لشبه الجزيرة الإيبيريّة، وانتشار الطرق الدينيّة التي كانت لها سلطة سياسية ودينية وثقافيّة خلال القرون الوسطى. خلال هذه العهود حدث انقلاب جذري في مجتمع المغرب الأوسط، فتأسست التجمعات السكانية وانتشرت الثقافة الإسلامية وامتزجت بالثقافة البربرية القديمة وظهرت اللهجة العربية المغاربية (المتأثرة باللغة البربريّة)، وتم نقل مظاهر الحضارة الأندلسيّة إلى الحواضر المغاربيّة، وتمّ الانتقال في رقعة واسعة من البلاد من نظام مجتمع القبائل الرحّل (عربًا وبربرًا) إلى مجتمع تجاري وفلاحي مستقرّ.  نعثر على تمثيل لكلّ ذلك في الأدب الشعبي الشفويّ الجزائريّ الذي ظلّ يُتداول بين الناس إلى وقت قريب باللهجات العربيّة والبربريّة؛ ويمكن تقديم بعض الأمثلة بهذا الشأن. ظهرت حركة الشعر الملحون الذي مثّل امتدادًا للشعر البدويّ الهلالي، ذي التقاليد الجماليّة المتماسكة في بناء القصيدة وتعبيرها عن طبيعة الوجود البشري والتحامه بالطبيعة.  انتشرت روايات شفوية لقصص من سيرة بني هلال مختلفة عن مثيلتها في المشرق، تعلقت خصوصًا بما حدث من امتزاج بين عنصرين عرقيين مختلفين هما البربر والعرب وانتقال من الترحال وسكنى الخيم وتربية الحيوان والغزو إلى الاستقرار وامتهان الفلاحة والتجارة، كما ظهر الزجل في الحواضر على شاكلة الزجل الأندلسي، وانتشرت في القرنين التاسع عشر والعشرين رواية قصص المغازي الإسلامية الخيالية التي كانت قد ظهرت في الأندلس أثناء صراع المسلمين مع المسيحيّين، ثم استعملها الرواة الجزائريون كردّ فعل ضدّ الغزو الفرنسي وثقافته. أما قصص كرامات الأولياء فقد تم توظيفها للتعبير عن الصراعات الاجتماعية والسياسية في العهدين العثماني والفرنسي.

اللهجات المحلية
 •نظرت الدولة إلى تنمية اللهجات المحلية في الجزائر على أنه خطر على الوحدة في حين ترى العكس؟
- ظلت أسس مشروع بناء الدولة الوطنيّة (أو القُطْريّة) منذ ظهور الحركة الوطنيّة الجزائريّة وبروزها بعد الحرب العالميّة الأولى قائمة على أساس مبدأي العروبة والإسلام؛ وهو المبدأ الذي قامت عليه حركة التحرر من نير الاستعمار في جميع البلاد المغاربيّة، وكان لهذا المبدأ دوره في شدّ اللحمة الوطنيّة، والتحريض على مقاومة الاستعمار تحت راية «الجهاد»، التي تُعَدُّ امتدادًا لحركات مقاومة الاستعمار، بقيادة الزوايا الدينيّة في القرن التاسع عشر (من أبرزها ثورات الأمير عبدالقادر والشيخ المقراني والشيخ بوعمامة... إلخ). كانت هناك محاولة لإدراج البعد البربري (الأمازيغي) في الإيديولوجيا الوطنية بعد الحرب العالمية الثانية، غير أنها سرعان ما قُمِعَتْ، لكونها اعتُبِرَتْ محاولة لشقّ الصفوف، والتشويش على فكرة الوحدة الوطنيّة، القائمة على مبدأي العروبة والإسلام، خاصة في ظروف التهيئة للثورة التحريرية في بداية الخمسينيّات.  ظلّ هذا التوجه المبدئيّ الواحديّ مسيطرًا على الإيديولوجيا الوطنيّة الرسميّة في فترة ما بعد الاستقلال، ونُظِرَ إلى العناية باللهجات الشفويّة الدارجة، سواء منها العربية أو الأمازيغيّة، كأنّه يخرق هذا المبدأ ويناقضه. وفي رأيي، أنه إذا ما كانت هناك مبررات في زمنيّ كل من الحركة الوطنية السياسيّة وثورة التحرير، من أجل المحافظة على الوحدة الوطنيّة في مواجهة الاستعمار، فإنّ الأمر يختلف بعد الاستقلال؛ كان المشروع الوطني في حاجة إلى مراجعة وتكييف مع ظروف الاستقلال والتنمية.  بزوال الاستعمار لم تعد هناك حاجة إلى التشدّد في استبعاد عناصر التعدّد في المجتمع الجزائري، مادامت موجودة في الواقع، وبالتالي لابدّ من العناية باللهجات الأمازيغية والعربيّة، وتهيئتها للدراسة والتعليم والبحث، باعتبارها مكونًا ثقافيًا، يمارس وجوده وتأثيره في المجتمع، وهو يمثل عنصر تقوية للثقافة الوطنية وليس إضعافًا لها.  الدليل على ذلك أنّ الدولة الجزائرية في العقود الأخيرة اضطرت تحت ضغط الشارع وبعض القوى السياسية، أن تعترف باللغة الأمازيغية كلغة رسمية.  لم يبق لها الآن إلّا أن تكمل انفتاحها على اللهجات العربيّة، فتعتني بها، وتفتح المجال لتدريس تراثها، وتعليمها لمن يحتاجها، وتسهم في ترقيتها.  لقد تنازلت الدولة الجزائريّة في نهاية الثمانينيّات، عن حكم الحزب السياسي الواحد (حزب جبهة التحرير)، لتفتح المجال أمام التعدّديّة السياسيّة باسم الديمقراطيّة، ما الذي يمنعها من أن تنفتح على التعدّديّة اللغويّة والثقافيّة الموجودة في المجتمع، ويتم بذلك تدعيم الديمقراطيّة، عن طريق العناية بجميع مكونات الثقافة الوطنية، وخاصة تلك التي طالها التهميش لفترة طويلة.

الثقافة الشعبيّة
• «خطأ فادح أن نلخص الأدب الشعبي في المشافهة»... ما الأسباب وراء هذا اليقين، المتمثل في صرامة الطرح، وأنت  تتحدث لرواد المكتبة العمومية لولاية تيبازة؟
- المشافهة قناة أساسيّة لانتقال الثقافة الشعبيّة، لكنّ هذه القناة لم تكن حاضرة وحدها في تاريخ الثقافة الشعبية الجزائرية.  لقد اعتنت بعض المدونات القديمة بهذه الثقافة، وسجلت عيّنات منها؛ أذكر على سبيل المثال كتاب مقدمة ابن خلدون، الذي دون بعض أشعار بني هلال وقصصهم المتداولة بينهم، بعد أن استقرّ بهم المقام في إفريقيا.  في كتاب الحكيم عبدالرزاق بن حمادوش، طبيب الجزائر العاصمة في القرن الثامن عشر، المعنون بـ«كشف الرموز»، وَصْفات للطبّ الشعبي جمعها من محيطه.  طُبعت دواوين مشاهير شعراء الملحون منذ القرن السادس عشر، وهي متوفّرة كمدوّنات ويُعاد طبعها من حين لآخر.  أضف إلى ذلك أنّ الشعراء المعاصرين يثابرون لنشر دواوينهم مطبوعة.  لقد دأب المتعلّمون على تدوين آثار شعبيّة شفويّة، وضمّنوها كنانيش وكراريس لا يخلو منها بيت، حتى في التجمعات السكانية النائية.
  •لماذا حولت الدولة الجزائرية منذ بداية ثمانينات القرن الماضي موقفها من الثقافة الشعبية؟
- كانت بداية مسعاها لمراجعة موقفها الرافض للعناية الرسمية بالثقافة الشعبية، في النصف الأول من ثمانينيّات القرن الماضي، لمّا قويت شوكة الحركة السياسيّة الْمُطَالِبَة بالاعتراف باللغة الأمازيغيّة وتنمية ثقافتها، وهي الحركة التي كانت سرّيّة، ونشطت في المناطق التي مازالت تتحدث اللهجات الأمازيغيّة، فاضطرّت الدولة إلى مراجعة وثيقة «الميثاق الوطني»، وإدراج مسألة العناية بالثقافة الشعبيّة، كما تم في الفترة نفسها تأسيس معهد للثقافة الشعبية بمدينة تلمسان.  بعد ذلك، بمواكبة الاعتراف الرسمي بحزب سياسي، تأسس على مطلب العناية باللغة الأمازيغية وترسيمها وترقيتها، اعترفت الدولة بالأمازيغيّة كلغة وطنية، وسمحت بفتح معهدين في مدينتي تيزي وزو وبجاية للثقافة الأمازيغيّة، كما أصبح بإمكان جميع الجامعات الجزائرية أن تفتح أقسامًا لدراسة التراث الشعبي بلهجاته المختلفة في مستوى الدراسات العليا.
في مستهل القرن الحالي وقّعت الجزائر اتفاقية صون التراث اللامادّي (لسنة 2003)، وكان على مؤسسات الدولة أن تلتزم ببنودها، وأن تُفَعِّلَ وزارة الثقافة مجموعة مهرجانات هدفها تأطير الممارسات التراثيّة الشفاهيّة، وأن تهيئ ملفّات تصنيف روائع التراث اللامادّي العالمي. وقد اقترحت الجزائر على اليونسكو خمس ممارسات تمّ الاعتراف بها دوليّا (موسيقى «الأمزاد» التارقية، واحتفال «أهليل قورارا» في الجنوب الغربي، و«شدّة العروسة» المتعلقة بلباس العروسة التلمسانيّة، واحتفال «السبوع» (المولد النبويّ) في الجنوب الغربي، وطقوس «موكب سيدي الشيخ (وليّ صالح)» بالغرب الجزائري). إلى جانب تصنيف طبق «الكسكسي»، باعتباره ممارسة ثقافية إقليمية مغاربيّة.

ثقافة الاستعمار
 •ظلت زوايا الجنوب في منأى عن الضغط الاستعماري الفرنسي، الذي سعى للقضاء على المؤسسة التعليمية في الشمال، خلال القرن التاسع عشر... هل يمكننا القول: «إن الوضع الثقافي الراهن في الجزائر، وخاصة ما تعلق منه بالموروث، مدين لهذه الزوايا، التي حافظت على الثقافة التقليديّة؟ وما مدى تأثيرها في الواقع الثقافي الراهن؟
- قسّم الاستعمار الفرنسيّ الجزائر، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى منطقتين؛ إحداهما عسكرية والأخرى مدنيّة.  شملت المنطقة العسكرية كل الجنوب الجزائري، بينما شملت المنطقة المدنيّة الشمال، تحدّ بينهما الهضاب العليا. تمركز وجود الأوروبيين إلى جانب الجزائريين الأهالي من سكّان التلّ في أغلبه، في المنطقة الشماليّة المحاذية للبحر الأبيض المتوسّط، وكانت الكثافة السكانية مرتفعة، بينما كان الجنوب الصحراوي على اتساعه ذا كثافة سكّانيّة منخفضة. تدخّلت الإدارة الاستعماريّة بصفة واضحة في منطقة الشمال، فبنت القرى ووسعت المدن، وحدّثتها وجعلت فيها مؤسساتها، وفرضت عليها ثقافتها، وسنّت القوانين التي تحكم العلاقات بين الأوروبيين من جهة، وبين الأهالي المسلمين من ناحية أخرى.  في الجنوب اعتمدت في بسط حكمها، كما فعل العثمانيّون،  على أعوان من الأهالي، يتعاونون معها ويتحكمون بأساليب تقليديّة وعرفية في القبائل، وهم بمنزلة الأعيان، الذين يفرضون سلطتهم المدعومة، من طرف حاميات الجيش الفرنسي المتواجدة في كلّ منطقة، لكنهم لا يطبّقون قانونًا وإنما يتعاملون مع رؤساء القبائل بمنطق القوة؛ ما نتج عن ذلك تَمَثَّلَ في أنّ الثقافة الفرنسيّة فرضت هيمنتها في المنطقة المدنيّة (بالشمال)، بينما ظلّ مجتمع الجنوب يعيش وفق حياته التقليديّة وأعرافه ونظامه القبليّ.  استفادت هذه المنطقة من وضعيّة عدم تدخّل المستعمر في حياة الناس وفي ثقافتهم، تمامًا كما حدث بالنسبة للبلدان المجاورة التي خضعت للحماية الاستعماريّة، ولم تعرف الاستعمار الاستيطاني (تونس والمغرب وموريتانيا وليبيا).  مكّنت هذه الوضعيّة السكّان من المحافظة على المؤسسة الثقافيّة والتعليميّة التقليدية الموروثة والمتمثّلة في الزاوية؛ وكان هناك عدد من الزوايا في حواضر منطقة الجنوب، واصلت القيام بدورها في التعليم والتثقيف، سواء في الجنوب الغربي (مثل تمَنْطِيطْ) أو في الوسط (الأغواط، ورقلة)، أو الجنوب الشرقي (بسكرة ووادي سوف). لعبت مثل هذه الزوايا دورًا في المحافظة على الهوية الثقافيّة العربية الإسلاميّة، ليس في الجنوب الجزائري فقط، بل امتدّ تأثيرها إلى بلدان الصحراء الإفريقيّة والساحل الإفريقي، مثل مالي والنيجر والسنغال. كان لهذه الزوايا دورها في المحافظة على اللغة العربيّة بمجتمع الجنوب، كما أنّ وضعيّة المنطقة سمحت بضمان تطوّر طبيعي للثقافة التقليديّة الموروثة، واستمرار وظيفتها، والمحافظة على كثير من مظاهر ممارسات الثقافة الشعبيّة، التي مازالت حيّة إلى اليوم، وأغلب الممارسات التي رشحتها وزارة الثقافة الجزائرية، وتم الاعتراف الدولي بها في هيئة اليونسكو هي من الجنوب، مثل الاحتفالات الموسمية والمتعلقة بالموسيقى وفنّ الرقص الجمعي، وهناك أخرى كثيرة مؤهّلة للتصنيف، إن تمّت تهيئة ملفّاتها من طرف والوزارة المعنية.
 
الأدب الشعبي في البرامج التعليميّة
  •ما هي مكانة الأدب الشعبي في البرامج التعليميّة، وما حظّه من النشر؟
-  تمّت برمجة تدريس الأدب الشعبي كمادة في نطاق برنامج تدريس الأدب العربي، في الطور الأول من التعليم الجامعي (ليسانس لغة وأدب عربي)، منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي.  وفُتِحَ المجال فيما بعد لتسجيل مذكرات الماجستير، ثم الماستر وأطروحات الدكتوراه، في موضوعات تتعلق بالأدب الشعبي الجزائري.  كما تمّ فتح أقسام ماستر ودكتوراه في الأدب الشعبي بالسنوات الأخيرة،  تابعة لأقسام الأدب العربيّ. أما  بالنسبة لمراحل التعليم الأخرى السابقة على التعليم الجامعي، فظلت موصدة في وجه الأدب الشعبي إلى اليوم.  تجدر الإشارة إلى أن مادّة تهيئة مذكرات الليسانس في الأدب العربي عرفت إقبالًا كبيرًا من طرف الطلبة، على موضوعات تتعلق بالتراث الشعبي المحلي في المناطق الداخلية، التي توجد فيها جامعات، خاصة مناطق الهضاب العليا (الوسط) والجنوب.
عرفت العديد من الأبحاث الأكاديمية التي عالجت الأدب الشعبي الجزائري طريقها إلى النشر، وخاصة منها تلك التي كانت رائدة في مجالها، كما نشطت إلى حدّ ما حركة نشر دواوين الشعر الملحون المنظوم باللهجة العربية الدارجة، أو الشعر المنظوم باللهجات الأمازيغيّة، من طرف شعراء معاصرين، إلى جانب إعادة نشر بعض الدواوين القديمة التي لها رواج بين هواة هذا النوع من الشعر.
 •ما هي وضعيّة كلّ من الأرشفة والبحث العلمي للأدب الشعبي في الجزائر؟
- كانت هناك دعوة من طرف المختصين، إلى ضرورة القيام بعمليّة أرشفة شاملة للتراث اللامادّي الجزائري على المستوى الوطني، بجميع اللهجات العربية والأمازيغيّة، عن طريق إنشاء مركز خاصّ بالأرشفة، خاصة وأنّ العنصر البشري القادر على تنظيم الأرشفة متوفر بفعل ازدياد عدد المختصين في الأدب الشعبي من خريجي الجامعات.  لم تلقَ حتى الآن هذه الدعوة استجابة من طرف المؤسسة الرسمية، وتمّ التعويل على نشاط مركز البحث للدراسات في ما قبل التاريخ وعلم الإنسان والتاريخ، المتواجد بالعاصمة والتابع لوزارة الثقافة. ظلّ مشروع هذا المركز بخصوص الأرشفة يسير ببطء ولم يعالج سوى جزء يسير من المواد وفي مناطق محدودة جدًا، نظرًا لكون هذا المركز مختصًا في البحث أساسًا، وغير مهيّأ للقيام بتنظيم أرشفة شاملة، بل تكاد تكون الأرشفة بالنسبة له نشاطًا فرديًا، أُوكِلَ لعدد محدود جدًا من باحثي المركز.  هناك محاولة أعلن عنها مركز «فاعلون» وهو مؤسسة خاصّة للشروع في عملية الأرشفة، لكني لست متأكدًا من أنّه في مقدوره القيام بهذه المهمّة الصعبة، التي تحتاج إلى مركز خاص بالأرشفة، وإلى إمكانيات لا تقدر عليها إلّا مؤسسة الدولة.
أما فيما يخصّ البحث؛ فإلى جانب البحث الجامعي، الذي تكفل بإنجاز عدد لا بأس به من الأبحاث الأكاديميّة، التي تمّ نشرها في مجال الأدب الشعبي، هناك مركزان للبحث العلمي مهتمان بالأدب الشعبي إلى جانب اختصاصات أخرى تتعلق خاصة بالأنثروبولوجيا؛ أحدهما تابع لوزارة التعليم العالي وموجود في مدينة وهران يحمل اسم «مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية»، وقد تأسس بعد استقلال الجزائر، والثاني هو المركز الذي أشرنا إليه من قبل، والذي يجمع بين اختصات الأنثروبولوجيا والتاريخ وما قبل التاريخ، التابع لوزارة الثقافة والموجود في العاصمة، وقد تم تأسيسه زمن الاستعمار الفرنسي.

الإبداع الفنّي
 •بعد أكثر من نصف قرن في البحث في مجال الأدب الشعبي، كيف تنظر الي الدعوة للكتابة والقراءة باللهجة العامية في منطقة المغرب العربي الكبير؟
- أؤمن بأنّ الإبداع الفنّي يمكن أن يتجسّد في كل ما يصنعه الإنسان، سواء عن طريق اللغة أو عن طريق الصوت والحركة والموادّ والألوان، وبالتالي فإنّ الكتابة الأدبية يمكنها أن تكون بأيّ لغة، سواء كانت مكتوبة أو شفويّة، فما هو مهمّ هو القيمة الفنية، بقطع النظر عن طبيعة اللغة، وكونها رسمية أو غير رسميّة، مكتوبة أو شفويّة، فصيحة أو غير فصيحة. للمجتمع المغاربي لهجات عربية وأمازيغية، حملت تراثًا ثقافيًا عريقًا، تم تناقله مشافهة، وتم تسجيل بعضه في فترات تاريخية معيّنة، مُؤَسَّس على قيم جمالية وعلى محتوى قَبِلَتْهُ الجماعة، وأصبح وسيلة من وسائل التنشئة الاجتماعيّة، أعتقد بأنّه جدير بالعناية من لدن المبدعين الأفراد، لاستغلاله وتوظيفه في إبداعات أصيلة، في نصوص مكتوبة شعريّة أو قصصيّة أو مسرحيّة ... إلخ.

خصائص مشتركة للّهجات العربيّة المغاربيّة
هناك خصائص مشتركة للّهجات العربيّة المغاربيّة، بفعل تأثّرها باللهجات الأمازيغيّة (أو البربريّة)، يؤهلها لأن تصبح لغة لأدب مكتوب مغاربيّ، يمكن أن يُتَدَاوَلَ في مجتمع البلدان المغاربيّة (المغرب، الجزائر، تونس، موريتانيا، ليبيا) ويشكّل رافدًا للأدب القومي العربي.
• «المستوى الفصيح للغة العربية قاصر على توصيل الثقافة الشعبية إلى الجمهور، ما هي قراءتك الخاصة لهذه العبارة؟
- لأشكال التعبير المختلفة سواء كانت بالعربيّة الفصحى أو باللهجات لغتها الخاصة، وبالتالي من الصعب استعمال اللغة العربية الفصيحة لنقل الأدب الشعبي. يمكن أن نجد التعبير المعادل (الفصيح مقابل الدارج) مثلًا في نوع «الأمثال» أو «الْحِكَم»، لكن من الصعب فعل ذلك بالنسبة للشعر أو اللغز. هناك إمكانيّة لترجمة السرد من اللهجات الشعبيّة إلى اللغة العربيّة المكتوبة، تمامًا مثلما نترجم من لغة أجنبيّة، لكن ذلك لابد أن يخضع لبعض التعديل المناسب للغة الكتابة.
 •من الدارسين لمنجزك النقدي من يرى أنك فضّلت المنهج السيميائي لتحليل النص السردي، ومنهم من تحدث عن اختيارك الآليات الإجرائية  للبنيوية، والبعض تحدث عن المنهج السوسيولوجي؛ لماذا فضّلت هذه الخيارات؟ 
- في الحقيقة؛ كانت تطبيقاتي الأولى في دراسة النصوص السرديّة، سواء كانت حكايات شعبية أو قصصًا قصيرة فصيحة، أو روايات عربيّة تستعين بالمنهج البنائي؛ فكان الهدف هو الكشف عن بنية النصّ في مستوياته المختلفة، ثم أقوم بمحاولة قراءة تأويلية، تسعى للكشف عن علاقة طبيعة البناء القصصي بالبناء السوسيولوجي، الذي انبثق عنه البناء النصّي، وفق مفهوم البنائية التوليديّة، التي ترى أنّ كلّ نصّ متولّد عن بناء اجتماعي معيّن. انتقلتُ بعد ذلك للتحليل السيميائي وفق مدرسة باريس (المدرسة السيميائيّة الشكلانية)، وهو تحليل تطوّر عن البنائيّة، يعتمد في منطلقاته على التحليل الدلالي البنائي، غير أنه محكوم بمصطلحات خاصة ومنهجية صارمة ومتماثلة في المفاهيم وخطوات التحليل.

تجربة ناجحة  
 •ترأست تحرير مجلة «السيميائيات» الفصلية، الصادرة عن مخبر الفنون والعادات والتقاليد الشعبية، ومخبر البحث العلمي والتقني لتطوير اللغة العربية، لمدّة تجاوزت عقدًا من الزمن؛ كيف تقيّم هذه التجربة؟
- تجربة خضتها مع صديقي الأستاذ رشيد بن مالك مؤسس المخبر ورئيسه، ثم رئيس مركز البحث المذكور، والمدير المسؤول على هذه المجلة.  كان الهدف من تأسيسها لمّ شمل الباحثين السيميائيين في البلاد المغاربيّة بغرض التواصل، عن طريق تشجيع نشر هذا النوع من الأبحاث، وتحقيق تراكم قد يؤدي إلى تطوّر نوعيّ في الدرس السيميائيّ، الذي كان وقتئذ في طور بداية الانتشار في الجامعات المغاربية، وكان حينئذ عدد رواده يعدّون على رؤوس الأصابع.  كانت الدوريّة الرائدة في هذا المجال هي مجلّة «علامات»، الصادرة في المغرب لصاحبها سعيد بن كراد، التي تأسست منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي، وقد تأسست بعد مجلتنا (التي ظهرت في منتصف العقد الأول من هذا القرن) دورية أخرى في جامعة وهران أسسها الأستاذ أحمد يوسف رئيس مخبر السيميائيات في الجامعة نفسها (بداية العقد الثاني من القرن الحالي). حقّقت هذه الدوريات الثلاث الهدف منها، والمتمثل في تراكم البحث السيميائي المغاربي، الذي يمثل تطورًا نوعيًا في الدرس الأدبي واللغويّ بالنسبة للبحث الأدبي العربيّ.  في الوقت نفسه سعينا في مجلة «السيميائيات»، إلى الانفتاح على التحليلات السرديّة عمومًا، مما فسح المجال لتراكم في معالجات النص السردي العربي.
 •وُصفت رؤيتك النقدية بالأصالة من قبل الدارسين لمنجزك النقدي، لماذا في رأيك؟
- وَصْف رؤيتي النقدية بالأصالة أعتزّ به، وقد صدر عن بعض الباحثين المنصفين.  يُقْصَدُ بالأصالة هنا، أني طبقتُ منظومة منهجيّة مستمدة من الدراسات الغربيّة، غير أني راعيتُ في تطبيقها طبيعة المادّة التي أدرسها، فأكون بذلك قد طوّعتُها وكيّفتها مع النصوص المدروسة، فعملية التحليل لم تكن تطبيقًا ميكانيكيًا للمنهج الغربي، بل هي استفادة من هذا المنهج، واستغلال لإمكانياته في الكشف عن نصوص، تنتمي إلى ثقافة غير غربيّة هي ثقافتنا الشعبيّة. وكنتُ في دراساتي المنجزة أنبّه في مستهلّ تحليلاتي إلى هذا الأمر، وأوضّح بطريقة تعليميّة في مدخل أضعه لكل دراسة، الخطوات التي أتّبعها في هذا التكييف أو التطويع.

إشكالية التناص
 •هل انشغالك بإشكالية التناص وراء ترجمتك لكتاب «مدخل إلى التناص» لناتالي بييقي ـ غروس؟ ولماذا التناص؟
- يمثّل التناصّ ظاهرة أدبيّة، تندرج في نطاق الإبداع الأدبي، فكل نصّ لا يخلو من تأثير نصوص سبقته أو عاصرته. وتُمَثِّلُ نظرية التناصّ آلية منهجيّة لمقاربة أيّ نصّ أدبيّ، من خلال الكشف عن علاقته بالنصوص الأخرى.  اهتمامي بظاهرة أثر الثقافة الشعبية الجزائرية في الكتابات الروائية الجزائرية، باللغتين العربية والفرنسيّة،  سمح باطلاعي على قدر وافر من الثقافة الشعبية الجزائرية، وتوفّري على نصوصها، من إجراء المقارنة بين النصوص القصصيّة الشعبية من ناحية، والنصوص الروائية المكتوبة من ناحية أخرى.
قمتُ بترجمة كتاب ناتالي غروس حول نظرية التناص؛ بغرض تعميق معرفتي بهذه الآلية المنهجية، ومن أجل تقديم مرجع مهم وبيداغوجي لطلبة الدراسات العليا في قسم الأدب العربي، والذين كنتُ أدرّسهم في جامعة الجزائر نظريّة التناصّ، وكانوا في أغلبهم لا يعرفون جيدًا اللغة الفرنسيّة، وكانوا في حاجة لتعريب هذا الكتاب، ثم نشرته بعد ذلك في سورية، ليستفيد منه الباحثون والطلبة العرب الراغبون في الاطلاع على نظرية التناصّ.
 •كيف تُقَــيِّم مقولات مارك أبيليس في كتابه «أنثروبولوجيا العولمة» الذي ترجمته سنة  2017؟
-  تناول مارك أبيليس العولمة كظاهرة ثقافيّة تحتاج إلى البحث والمعالجة من وجهة نظر أنثروبولوجيّة،  عرفها «باعتبارها تسريعا لتدفّقات رأس المال والكائنات البشريّة والسلع والصور والأفكار»، وقد نتج عنها تكثيف للتفاعلات والترابطات البينيّة، تجاوزت الحدود التقليديّة المتعارف عليها. وهكذا وجد البشر أنفسهم أمام «وعي مُعَوْلَم»، نتجت عنه تبعيّات بينيّة، أصبحت تبني وعيَهم بالكون على الرغم من إرادتهم، الأمر الذي أفسح المجال أمام «هيمنة خالصة»، لإمبرياليّة تسعى إلى توحيد التعبيرات الثقافيّة.  غير أنّه يمكن القول مقابل ذلك بأنّ العولمة هي أيضًا التنوع الخارق للعادة للأشكال الثقافية، التي لها علاقة بحركية الهجرات وبتكثيف الانتقالات المهنيّة والسياحيّة، ما سمح بارتسام جديد لمجتمعات جديدة، تمتزج فيها الحدود بين الأصيل والتقليديّ، تستقبل عناصر ثقافيّة آتية من حضارات بعيدة، لكنها تنتقل بسرعة بين أطراف الكرة الأرضيّة.
يمكن القول بأنّ الكتاب يطرح أفكارًا ومقولات حول ظاهرة العولمة، جديرة بالعناية وبالمناقشة في إطار علم الإنسان.

مشروع الترجمة الطموح
 •تحدثت في الآونة الأخيرة عن مشروع طموح في مجال الترجمة، ماذا أنجزت منه وماذا تبقى؟
- تَمَثَّلَ المشروع في ترجمة الدراسات المنجزة، حول التراث اللامادّي باللغة الفرنسيّة، من طرف باحثين جزائريين مختصين في الأنثروبولوجيا والتراث.  أغلب هذه الدراسات عبارة عن أبحاث أكاديمية ميدانية، قدمها أصحابها لنيل شهادات الدكتوراه في جامعات فرنسية أو جزائرية؛ ترجمتُ منها أربعة هي «نسق الزواج والحرف التقليديّة النسويّة في الجزائر» لشفيقة معروف، «نصف قرن من الأبحاث في العلوم الإنسانيّة:  مسار أنثروبولوجي هادم للأوثان» لنادر معروف، «الحوفي:  شعر نسوي وتراث شفويّ في البلاد المغاربيّة» لمراد يلّس، «الفضاء والمقدّس في الصحراء: قْصُور الجنوب الغربي الجزائري وواحاتُه» لعبدالرحمن موساوي. نُشر والكتابان الأولان في سورية، والكتابان الثالث والرابع مقترحان للنشر في الجزائر.  إلى جانب، ذلك قمتُ بترجمة نصوص من التراث القصصي الجزائري، التي قام بتسجيلها وترجمتها بعض الفرنسيين في الفترة الاستعمارية، ودراسات حول الأدب الشعبي الجزائري، كتبها فرنسيون في الفترة نفسها،  كما ترجمتُ مجموعة كتب تتعلق بالأنثروبولوجيا، وكتاب «الأشكال البسيطة» للدارس الهولندي أندري يولس، وهو كتاب ظهر بالألمانية مبكرًا حول الأنواع في الأدب الشفويّ، من منظور بنائي شكلاني تُرْجِمَ إلى اللغة الفرنسية، ولم ينتبه الدارسون العرب لأهميته في دراسة الأدب الشعبي خاصة.

عيون الجازية
 •ماذا فعلت فيك عيون الجازية، وأنت الأنثربولوجي المرموق، لتكون يتيمتك السردية، أول وآخر عهدك بكتابة القصة؟
- جَرَّبْتُ كتابة القصة القصيرة في السبعينيّات، وبداية الثمانينيّات من القرن الماضي، وقد أعطت هذه التجربة مجموعتي القصصية «عيون الجازية». ما لفت انتباه من اطلع عليها من النقاد، هو استثمارها للموروث الشعبي الذي انشغلتُ به كدارس.  حملت المجموعة أهمّ نص سرديّ، وظف شخصية «الجازية» التي لها مكانة خاصة في الموروث الهلالي في الجزائر وفي البلدان العربية، وحملتْ رمزية خاصة في تمثيلها لمكانة المرأة في التراث الشعبي؛ إذ اشتهرت بالجمال والذكاء والحكمة.  وقد كرستُ جهدي فيما بعد لدراسة التراث الشعبي، وتركتُ كتابة القصّة، وهو اختيار سبقني إليه العديد من الدارسين العرب من أمثال أستاذتي سهير القلماوي (مصر) وأستاذي عبدالله ركيبي (الجزائر) وغيرهما.

«ألف ليلة وليلة» الأقرب للمزاج الشرقي
• أيهما أمتع؟ وأكثر اقترابًا من المزاج العربي «ألف ليلة  وليلة» أم «كلية ودمنة» بعد دراستك لقصص منهما في كتاب لك؟
- أعتقد أنّ مؤلف ألف ليلة وليلة هو الأقرب إلى المزاج الشرقي عمومًا، لأنه يستحضر تخييلًا لعب دوره في الإبداع الفني العالمي، وهو مستخلَص من موروثات الحضارات الهندية والفارسيّة والعربيّة.  في هذا الكتاب هناك انجذاب لا يُقاوَم لسحر الأجواء الشرقية في علاقة الرجل بالمرأة، وفي تصور العالم المجهول الموازي للعالم المعلوم، من منطلق الثقافة البطرياركيّة (الذكورية) التي عرفتها المجتمعات الشرقية، ومازالت هي السائدة حتى اليوم.  وقد لاحظتُ في بحوثي الميدانيّة، أن محتوى كتب الليالي له رواج ليس فقط بين المتعلمين الذين يقرؤون الكتاب، بل حتى بين الأُمّيين، الذين يرددون حكاياته شفويًا، بعد أن يكونوا قد استمعوا إليها ممّن قرأها بلغتهم الخاصة، ووفق أساليب وتمثّلات نابعة من ثقافتهم المحلّيّة. أما كتاب ابن المقفع،فله قيمته التعليميّة المُعْتَمِدة على استخلاص العبرة وضرب المثل، عن طريق إسناد كلّ من الفعل والقول للحيوان وأَنْسَنَتِهِ، وهي خاصية لا تخلو منها مختلف الحضارات، وقد لعبت الثقافة العربية دور الوساطة، لنقله عن أصله الهندي ثم الفارسي إلى الثقافة اللاتينيّة في العصور الوسطى، هذه الأخيرة التي نقلته بدورها للثقافات الأوربية الحديثة.

أثر ثقافي عَبَرَ القرون
 •مجموعة قصصية، وكتاب مترجم، ومقالة، هو كل ما أنجزته على مدى نصف قرن عن سيرة بني هلال، هل تعتبره  كافيًا، وهي واحدة من السير الشعبية الأعظم القليلة في العالم؟
- سيرة بني هلال أثر ثقافي عَبَرَ القرون،َ في رقعة جغرافية تمتد لتشمل روايتُها قارتي آسيا وإفريقيا، وقد ظلّت حيّة متداولة، لأنّ المجتمع الذي تداولها ما زال يحمل القيم التي روّجت لها، وهي قيم بدويّة لها صلة بعصر الفروسيّة، مثل الروح القتالية والشهامة والضيافة والتضحية، من أجل الجماعة وتقدير المرأة، وهي من القيم الإنسانيّة، التي ظلّت لها مكانة خاصة في المجتمعات العربيّة إلى اليوم، رغم تجاوزها مرحلة البداوة.  تخصّص في دراستها كثير من الباحثين العرب، مشارقة ومغاربة، وكذلك اهتمّ بها عدد كبير من المستشرقين. عثرتُ على بعض الروايات الشفويّة لمواقف تُنْسَبُ لشخصيّات الجازية وذياب والزناتي خليفة؛ وهي الشخصيات البارزة في الروايات الشفويّة الجزائرية.  قدمتُ لها بعض التحليلات في كتبي، مستعينًا بروايات أخرى جمعها باحثون جزائريون، ونشرتْ لي مجلة المأثورات الشعبيّة القَطرية، في عدد من سلسلة كتبها الملحقة بالمجلة يحمل عنوان:  «قصص تغريبة بني هلال في الدراسات المغاربيّة»، وكتبتُ قصّة حملت المجموعة التي أشرتَ إليها عنوانها في السؤال.  اعتنيتُ بخصوصيّة الروايات الجزائريّة التي تعرّضت بصفة خاصّة لمسألة تمازج العرقين البربري والعربي، وانصهارهما في بوتقة مجتمع واحد، والمعاناة التي عرفها هذا المجتمع بفعل الصراع بين قيم البداوة، المتمثلة بالخصوص في الارتحال والفروسيّة وقيم الزراعة، المتمثّلة في الاستقرار والحرف اليدويّة.  لم أشأ أن أتوقّف عندها كثيرًا، نظرا لكون نصوصها تمثل جزءًا يسيرًا من المأثور الشفويّ، فهي ليست سيرة مكتملة كما الحال في الشام ومصر، بل عبارة عن مواقف قصصية متشظّية وغير موحّدة، عبرت عن جانب من تطور المجتمع الجزائري في فترة تاريخيّة تمّ تجاوزها، وقد فسحت المجال لنوع آخر من الأدب الملحمي، الذي يستوحي قصص الفتوحات الإسلاميّة، برز في العهد الاستعماري، ليعبر عن الأمة الجزائرية في مقاومتها للاحتلال، كما أشرنا من قبل.

ثقافة الخرافة
 الرؤية الحداثية الناقدة للبنية الثقافية العربية تنسبها إلى «ثقافة الخرافة»، عن أي خرافة يتحدثون؟ وعن أي خرافة تحدثت؟ وأنت تحتفي بالخرافة في كتابك «الحكايات الخرافية للمغرب العربي»؟
- أعتقد أنّ ما أشرتَ إليه، من وصف بنية الثقافة العربية على أنها «ثقافة خرافة» فيه شيء من الشطط؛ فالثقافة العربيّة غير متجانسة، عرفت على مرّ العصور كلا من التفكير الخرافي والتفكير العقلاني، وقد ظلّ حضورهما المتوازي إلى اليوم.  ما عالجتُه في كتابي يتمثّل في نصوص قصصية، تنتمي إلى نوع من الْمُنْجَز الأدبي الموروث، والذي يُتداول كثيرًا في الأوساط الفلاحيّة المغاربيّة، وهي حكايات ترويها المرأة للأطفال مساء، خاصة في الليالي الشتوية، وهي إنتاج خيالي يرتكز على بنية خرافية، لكن يمكن تحليله على أنه تمثيل رمزي لقيم اجتماعية موجهة للتنشئة الاجتماعيّة، وقد وجدتُ عددًا كبيرًا من هذه النصوص، يمثل تكريسًا لقيم الأسرة البطرياركيّة (الذكوريّة) وتصويرا لرؤية كونية للعلاقة بين الإنسان والطبيعة، أو بالأحرى بين الثقافة والطبيعة.
 •خمس سنوات مسؤولًا عن «أطلس الثقافة الشعبية الجزائرية»، ما الذي لم ينجزه هذا الأطلس بعد؟
- كان الهدف من المخبر، وضع خرائط لعناصر الثقافة الشعبية المتداولة في مختلف مناطق الجزائر، غير أنّ طبيعة القوانين والقرارات المنشئة للمخابر في الجامعات الجزائريّة، فرضت علينا العمل في نطاق برامج الجامعة، والتركيز على تكوين الطلبة ومساعدتهم على إنجاز مذكراتهم وأطروحاتهم، والقيام بأبحاث تتعلق بالتراث الشعبي، وهو ما قام به المخبر على أكمل وجه، ويظل جمع التراث الشعبي وأرشفته، ووضع خرائط له مهمة تتطلب عملًا تشترك فيه جميع المؤسسات الثقافية الرسمية، المعنية بأرشفة التراث اللامادّي.

سليانة التونسيّة
 •في عمر السبعين، ماذا بقي فيك من «سليانة» التونسية؟ احكِ لنا القصة بوعي الأنثربولوجي؟
- سليانة التونسيّة هي مسقط رأسي ومربع طفولتي، أحنّ إليها على الدوام، كانت تقيم فيها جالية جزائرية من اللاجئين، الذين تعود هجرتهم إليها إلى نهاية القرن التاسع عشر، بسبب عملية تهجير واسعة مارستها السلطة الفرنسية، بعد فشل الثورات المقامة خلال القرن التاسع عشر. 
 وقد استقرّت العائلات الجزائرية في وسط لا يختلف عنها ثقافة ودينًا وتاريخًا، ولغة وأخلاقًا وتنشئة اجتماعيّة؛ لذلك سرعان ما اندمجت فيه، وأصبحت تمثل مكوّنا من مكوّناته.  لم نكن نشعر بأيّ تمييز أو فوارق بين الجماعتين التونسية والجزائرية، كان هناك عمل مشترك سياسيّ وعسكريّ، من أجل التحرّر من الاستعمار فيما بين الحربين العالميتين. ما حدث من بروز تمييز قطريّ بين تونسيين وجزائريين، وقع إثر فشل مسعى الحركة الوطنية المغاربيّة، بعد الحرب العالميّة الثانية في تحقيق مشروع الوحدة المغاربيّة، الذي كان قد عمل من أجله كلّ من الزعماء السياسيين مصالي الحاج (الجزائر)، صالح بن يوسف (تونس)، عبدالكريم الخطابي (المغرب). شخصيّا ما زلت أؤمن بضرورة الوحدة المغاربية بين الجزائر والمغرب وتونس وموريتانيا وليبيا.  أمنيتي أن أنتقل بين هذه الأوطان بكل حرّيّة، من دون حواجز جمركيّة.
 •«أيام القاهرة» ألا يصلح عنوانًا لكتاب، تسجل فيه ذكرياتك، وتجربتك كباحث وإعلامي في القاهرة في السبعينيات من القرن الماضي؟
- القاهرة هي المدينة العربية التي قصدتها للتحصيل العلمي، وقد حققّتُ ذلك، فكانت السنوات التي انتميتُ فيها لقسم اللغة العربية بكلية آداب جامعة القاهرة، فترة على جانب كبير من الأهمية بالنسبة لتكوين شخصيتي.  تتلمذتُ فيها على خيرة الأساتذة من أمثال سهير القلماوي ونبيلة إبراهيم وأحمد مرسي.  إلى جانب ذلك، عشتُ أجواء القاهرة الثقافيّة في النصف الثاني من سبعينيّات القرن الماضي، يوم أن كانت تزخر بالنشاطات الثقافية الجادّة، مثل المسرح والسينما والندوات. وما زلتُ أحمل لها الكثير من الحب والحنين.  لمّا كنتُ في القاهرة عرف المجتمع المصري تحولات سياسية واجتماعية كبيرة، فقد كانت تلك الفترة انتقالية من الاشتراكية إلى رأسماليّة السوق، صاحب ذلك تدهور في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للفئات الفقيرة والمتوسّطة، غير أنّ الميدان الثقافي ظلّ محافظًا على ألقه، عن طريق مشاهير الأدباء والمثقفين ورجال المسرح والكتاب والإعلاميين (من جيل الستينيات والسبعينيات)، رغم ما أصابه من ضعف، بفعل تدخّل السياسة في الشأن الثقافي حينذاك.  أتمنى أن يسمح الوقت وتسعفني ذاكرتي للملمة شتات الذكريات، لكتابة نصّ وسأسمّيه كما اقترحت «أيام القاهرة».

مصدر الثقافة العربية
في نهاية هذا الحوار، أشكرك وأشكر مجلة العربي، التي كانت بالنسبة لجيلي ممّن نسمّيهم في الجزائر بـ«المُعَرّبين» مصدرًا ثقافيًا سمح لنا بالاطلاع على بعض نواحي الثقافة العربيّة؛ وأقصد هنا بالمعرّبين من تلقّوا تكوينهم في مراحل التعليم المختلفة بالعربية، وكانوا أقلّيّة من المتمدرسين حينذاك، إذ إن التعليم في الجزائر كان باللغة الفرنسيّة في مختلف مراحله، في فترة ما بعد الاستقلال، وكانت مصادر الثقافة العربيّة شحيحة، فكنّا نتلقّف ما يصل إلينا من المشرق من مطبوعات بشراهة، وأذكر أن مجلة «العربي» كانت من بين المنشورات الأكثر رواجا بين أبناء جيلي، وأسهمت في تكوين وجداننا الثقافي العربي ■