اتجاه اجتماعي في الشعر العربيِّ القديم الرغيف عروس شعره

اتجاه اجتماعي في الشعر العربيِّ القديم الرغيف عروس شعره

تفيد قراءة الشعر العربي القديم السائد بأنَّ الحياة الاجتماعية وهموم إنسانها العادي غائبة عنه، فقد كان ذلك الشعر يقتصر على شعر المديح والهجاء والغزل، ولم يكن لِعَيش الناس العاديِّين حياتهم حضور فيه.

 

الباحث في دواوين الشعراء القدامى وكتب الأدب العربي القديم يجد ما يمكن أن نُطلق عليه اسم «اتجاه اجتماعي في الشعر»، تطوَّر إلى أن غدا لروَّاده طريقة في نظمه، مثَّل فيها الرغيف عروس هذا الشعر، بديلًا من طلليَّة امرئ القيس (501 - 544 م) وخمر أبي نواس (ت. 199هـ)... فيما يأتي نحاول تقديم معرفة بهذا الاتجاه، في حدود الحيِّز المتاح لمقالة صحفيَّة قصيرة.
نلحظ وجودًا لهذا الاتجاه من الشعر في ثنايا قصائد المديح .يتمثل هذا الوجود في أبيات تضيء الواقع الاجتماعي، وتكشف جانبًا منه، كما نقرأ، على سبيل المثال، في قصيدة مدح بها الفرزدق (38 - 110 هـ) الخليفة سليمان بن عبد الملك، حينما تولَّى الخلافة، وممَّا قاله:
«... لم يبق منهم غيرُ ألسنةٍ /  وأُعيظمٍ وحواصل حمر/ حتى غبطنا كلَّ مُحتملٍ/يُمشى بأعظمه إلى القبر...».
ونقرأ للراعي النميري، عبيد بن الحصين (ت. 90 هـ)، في مثال آخر، خطابه إلى الخليفة، بعد مقدمة طويلة يذكر فيها أرقه، ويصف الناقة والصحراء، بقوله معرِّفًا قومه العرب العاديين:
«... إنَّا عرب...، حنفاء ...» 
وواصفًا ما يصيب واحدهم من جند الخليفة:
 «... إن السعاة عصوك، فقطعوا حيزومه/بالأصبحية (السياط) قائمًا مغلولًا...». 
الملاحظ أنَّ هذه الشكوى تُنظَم في محور القصيدة الأساس/المديح، فيعلن الفرزدق ولاءه للممدوح، ويعلي من شأنه، فيراه «المهدي» الذي سيملأ الأرض عدلًا بعدما ملئت ظلمًا وجورًا، فيقول:
«... إن نحن لم نمنح بطاعتنا/والحبِّ للمهديِّ والشكر...». 
ويطلب عطاءه في قصيدة أخرى:
«... فهب لي سَجلًا ( دلو = وعاء كبير) من سجالك يُروِني/وأهلي إذا الأوراد طال لؤوبها (ظمأها)...». 
يعي شعراء اَخرون بؤس الواقع الاجتماعي هذا، فلا يرتضونه، فيقول مالك بن الريب التميمي (ت. 57 هـ.)، على سبيل المثال:
«... وما أنا كالعير ( كالحمار ) المقيم لأهله/على القيد في بحبوحة الضيم يرتع ...». 
ويخرج هؤلاء، فيوصف واحدهم بـ«الفاجر»، فيناقش الشاعر المخضرم، فُرعان بن الأعرف التميمي هذه التهمة، ويقول:
«... يقول رجال: ... إنَّ فُرعان فاجرٌ/ولله أعطاني بنيَّ وماليا...». 
تتمثل، في حِجاج فرعان، ثنائية تضاد، طرفها الأول أولاد كثيرون، وطرفها الثاني مال قليل لا يكفي، والله سبحانه و تعالى هو الذي أعطاه الأولاد والمال، فمن الفاجر: والمعاني هذه الحالة أم السلطان الذي لا يحكم بما أمره الله عزَّ وجلّ؟
يتَّخذ هذا الخطاب الحجاجي صيغة أخرى، يطلب فيها الشاعر من الله سبحانه وتعالى أن يلهمه حلًّا لما يراه، ومن هنا تكرار «ما ترى»، فيقول أعرابي:
«يا ربّ، إنِّي سائل كما ترى/مشتملٌ شميلتي كما ترى/وشيختي جالسة كما ترى/والبطن مني جائع كما ترى/فما ترى، يا ربَّنا، فيما ترى؟»!
ولا يجد شعراء آخرون أمامهم سوى شكوى أمرهم لله سبحانه وتعالى، واتِّباع طريق السؤال والكدية (طلب العطاء)، فنقرأ لأبي الشمقمق، مروان بن محمد (112 - 200 هـ)، على سبيل المثال قوله: 
«... وقد دنا الفطر، وصبياننا/ليسوا بذي تمرٍ ولا أرز/ ... فلو رأوا خبزًا على شاهقٍ/: لأسرعوا للخبز بالجمز ...». 
ونقرأ لأبي فرعون الساسي (ت. أواخر المئة الثانية للهجرة) قوله: 
«... أنا أبو فرعون، فاعرف كنيتي/حلَّ أبو عمرة (الفقر) وسط حجرتي/وحلَّ نسج العنكبوت بُرمَتي/أعشب تنوري، وقلّت حنطتي...». 
ويلجأ شعراء إلى الحلم، فيقول الأحنف العكبري، عقيل بن محمد (ت. 385 هـ.) على سبيل المثال:
«... رأيت، في النوم، دنيانا مزخرفة/مثل العروس تراءت في المقاصير/فقلت: جودي، فقالت لي على عجل: إذا تخلَّصت من أيدي الخنازير ... ».
ويلجأ شعراء آخرون إلى ملاعبة الدنيا، فيقول أبو دلف الخزرجي (رآه ابن النديم سنة 377 هجرية): 
«... لا تلتزم حالة، ولكن/در بالليالي كما تدور...».
ويريد جماعة من أبي الرقَعْمَق، أحمد بن محمد الأنطاكي (ت. 399 هـ.) أن يسهر معهم، ويسألونه ماذا يطبخون له، فيكتب لهم:
«... إخواننا قصدوا الصبوحَ بسحرةٍ/فأتى رسُولُهم إليَّ خصوصًا/قالوا: اقترح شيئًا نُجدْ لك طبخه/قلت اطبخوا لي جبَّةً وقميصًا».
وإذ يكن العيش على هذه الحال، فالمقام في الوطن صعب، والارتحال عنه أكثر صعوبة، ما يثير السؤال: ما العمل؟ يقول حسين بن الحجاج البغدادي (391 هـ)، في هذا الشأن، على سبيل المثال:
«... ومالي قد خلت منه جيابي/ أو (ومائي قد خلت منه حبابي)/وخبزي قد خلت منه سلالي .../أفكِّر في مقامي وهو صعبٌ/وأصعب منه عن وطني ارتحالي...».  
وإن تكن الطلليّة عروس الشعر، منذ قصَّد امرؤ القيس القصائد، وإن يكن الكميت بن زيد الأسدي (60 - 126 هـ)، قد جعل أهل الدار وساكنيها عروس شعره، وإن يكن أبو نواس قد دعا إلى أن تكون الخمر بديلًا من ذكر الديار والأحبَّة، فإن شاعر هذا الاتجاه دعا إلى الخروج على التقاليد القديمة والمحدَثة معًا، وإلى جعل الرغيف عروس شعره، فقال أبو المخفَّف، عاذر بن شاكر (ت. 218 هـ)، على سبيل المثال: 
 «دَعْ عنك رسم الديار/ودَعْ صفاتِ القفار/وعدِّ عن ذكر قوم/قد أكثروا في العُقار/ودع صفات الزناني/ر في خصور العذاري/وصِف رغيفًا سريّا/حَكَتْه شمس النهار/... فليس يحسن إلَّا/ في وصفه أشعاري».
وهكذا يغدو الرغيف في حالتيه، الحقيقية والرمزية، عروس الشعر، فهو شمس النهار، ما يعني أنه محور الحياة وناظم سيرورتها.
يفيد ما سبق أن الشعر العربي القديم عرف اتجاهًا شعريًا يصوِّر بؤس الواقع الاجتماعي وعيش الانسان العادي فيه، وقد اتخذ أشكالًا متنوعة.
يتصف شعر هذا الاتجاه بخصائص، منها: اعتماده المقطوعة القصيرة، والأبيات الثلاثة أوالبيتين أحيانا، وسهولته، فمعجمه اللغوي مأخوذ من لغة الحياة اليومية، وعباراته قصيرة، بسيطة التركيب كأنها عبارات الحديث العادي، وخلوّه من المحسنات البديعية والزخارف اللفظية، وصوره الشعرية المبتكرة المشعة بالدلالات، ومن نماذج ذلك هذه الصورة: أعشب تنوري، الدالة على عدم استعمال هذا التنور منذ زمن طويل، وهذا معنى يفضي إلى معنى الفقر المدقع والحاجة إلى الخبز الذي لا يمكن العيش من دونه، فهو كما قال شاعر آخر شمس النهارات، والطرافة والسخرية المرَّة في كثير من الأحيان.
وقد تمثل هذا الاتجاه في النثر أيضًا، في نوع قصصي مشهور، تفرَّد به الأدب العربي، وهو قصص المقامات الذي يصوِّر سعي المكدِّي، الذي يغالب الدنيا ويلاعبها، ويدور معها كيفما تدور، إلى تحصيل رزقه في زمن صعب ■