حبات التوت

حبات التوت

كان يجلس على كرسيه المعدني العالي، المستدير بلا ظهر في المقهى الشهير، والنادل يسعفه بفنجان قهوته بينما كان يلتهم حلواه بشراهة، لا يرفع عينيه عن صحنه، فقلت: هذا رجل وحيد.
كنت أرتشف قهوتي، وقد اخترت الجلوس أمام فاترينة الحلوى الزجاجية حيث يمكنني أن أسترق النظر إلى قطع الجاتوه المتنوعة بدءًا من «البلاك فورست» حتى «الباباظ» غارقة في عسلها، وكان «الكريم شانتيه» ناعمًا يُتوج حبات من الكرز الأحمر، أتنعم بالنظر إليه ثم أنقـﱢل البصر بين «الملفي»، والفواكه المُسَّكرة، الكمثرى المغطاة بطبقات من كريستالات السُكَّر.
آه...  والتوت الأزرق يُطل من كعكاته مجللاً بأعواد رفيعة من الخشب الناعم حيث يسهل قطافه بشفتين عاشقتين.
بين حين وآخر كنت أرمق الرجل الوحيد الذي بدأت ملامحه تتضح لي شيئًا فشيئًا بعد أن كان منكفئًا في شراهة على حلواه...
أعرف هذا الإيشارب الأزرق الذي يحيط بعنقه، سترته الجلدية التي لا يتجاوز مقاسها الحجم المتوسط، أعرف هذين الفودين بشعرهما الخفيف، وعندما رفع عينيه إلى النادل عرفتُ فيهما الزمن البعيد. صوته القديم وهو يهمس لي «ملامحك بالنهار مختلفة عن ملامحك بالليل، أنتن دائمًا هكذا كالقطاط، بالنهار بروح، وبالليل بروح أخرى ساحرة!».
يومها ضحكت طويلاً، وقلت له: أما أنا فأختلف عن النساء لأني بسبعة أرواح ضحك حتى امتلأت عيناه بالدمع، كانتا تشبهان فنجانين واسعين، أحببتهما يومها، وراقبت حركة إنسانهما السريعة البُنية وأنا أبتسم، ربما لم أحب كلماته ساعتها لأنه يجمعني بغيري من النساء في مقارنة غريبة، يأمل أن يراني كما رآني ذات ليل، يفرض خياله عليّ، ربما يحب الغموض الآسر، والشعر المنسدل بحلكته الليلية، لم أحب أن أصبح حسب تخيلاته، ولا أن يراني في النهار كما رآني في الليل في ذلك الحفل الغنائي الساهر حيث يخفت لألاء الضوء، وتصدح الموسيقى فيكون الخيال أكثر غموضًا وسحرًا.
كنت أود أن يراني امرأة النهار بملامح واضحة، بعينين واسعتين تحدقان في البعيد، بأنف مستقيم، وشفة راجفة، بكلماتي التي تتدفق مؤانسة، والتي يرد عليها بعبارات محسوبة. انصرفت يومها، وغبنا طويلًا، لم يجمعنا لقاء ثانٍ، وها نحن نلتقي.
انتهى من حلواه، وانتهيت من قهوتي، أوشك أن يمضي فرفعت رأسي برفق عن فنجاني وهمست باسمه فالتفت، أشرقت ابتسامته، وعرفني.
بادرني: «بهذه المناسبة السعيدة، هل تودين أن تشربي معي فنجانًا من القهوة؟
قلت باسمة: شربت!
قال:  «فلتأخذي شيئًا من الحلوى». 
اعتذرت بلطف، ربما لن تكفيني فاترينة الحلوى من «البلاك فورست» حتى «الكريم كراميل»!
قال: لنتبادل أرقام الهواتف.
فأخرجت من حقيبتي نوتة صغيرة لأكتب رقمه، ابتسم، أليس معك هاتف نقّال؟!
قلت:  معي.
قال:  بيقول آلوه!
ابتسمت... طبعًا.
تركني على هواي، أكتب رقمه.
- رنـﱢـي عليّ لكي أسجل رقمك.
تردّدت قليلًا ثم قلت: عندما أكلمك ستعرفه.
كان شيء ما يوسوسُ لي... أهكذا يلتقط من فمي رقمي ببساطة كقرنفلة مرشوقة بين أسناني، كسمكة طالعة في ثغر صنارة، ككرزة على قمة جبل الآيس كريم!، كقبلة خاطفة بين حبيبين؟!
أهكذا تمضي الأمور سهلة سريعة وأنت امرأة عصيّة؟!
عاودتني نظرته القديمة: «ملامحك بالنهار مختلفة عن ملامحك بالليل».
تمردتُ من جديد، لكنني كنت أود أن أعرف كيف كنت أبدو في ذلك الليل البعيد، وفي ذاك الحفل الغنائي الساهر مضى...
وجلست قبالة المرآة التي بدت في عارض محل الحلوى، أتأمل وجهي وملامحي، دفعتُ بالملعقة في غضب في فنجان القهوة الفارغ، رتبت خصلات شعري، ابتسمت للمرآة، حدقت في ملامحي، وجهي الخالي من المساحيق، ولمسة أحمر الشفاه البرتقالية التي وضعتها صباحًا ولم يتبق منها في الليل إلا مس خفيف من شفق يشبه هلالًا صغيرًا لم يكد تكتمل نصف دائرته بفضتها، هل هي سماء الليل في وجهي، عيناي مكحولتان، وتومضان مثل فنار ناءٍ، وشفتي تبتسم للغيوم.
حدَّقت في أرقام هاتفه التي اصطفت مثل صف من الحلوى، من «البلاك فورست» حتى الباباظ غارقة في العسل، وأهرامات الكريم شانتيه البيضاء الناصعة في تموجاتها، العذبة، تأملت الأرقام في شغف، رفعتها بورقتها البيضاء إلى فمي... مسستها برفق، نهلت منها رقمًا رقمًا، حبات مسكرة من الكمثرى، والتوت الأزرق الذي كان يستدير في فمي بلطف، ويصنع لحنه الخاص مع شفتي، وكانت أصابعه تمتد إلى ذقني فترفعها برفق، وكل إصبع يضيء كشمعة. وكان الليل لي وحدي، وموسيقى خفيفة تنبعث في المقهى.
تأملت المقعد الشاغر هناك، عاليًا معدنيًا بلا ظهر، مرآته في ركنها هناك ساكنة، خالية من وجهه القسيم، بقايا حلواه، وأوراقها المفضضة لا تزال في صحنه، وفنجان قهوته لم يرفعه النادل بعد، أحسست بالدفء يغمر المكان، وأنا ألتمس المزيد من حبات التوت الأزرق، فربما تُلون شفتي بزرقتها المحببة، ويكون لي سحرها الخاص ذات ليل ■