الفردوس المفقود أو البحث عن الشرق في الغرب

الفردوس المفقود أو البحث عن الشرق في الغرب

خزائن التاريخ مشرعة على الدوام أمام الأدب، يستمد منها مادته، ويستدلّ بأحداثه على أفكاره ورؤاه، ويستلهم خلاصاته وأعلامه؛ للتعبير بها تعبيرًا رمزيًا، حين يقتضي ذلك الفن، أو تضطره سطوة الواقع إلى الإيماء والرمز والقناع. وبدايات التاريخ ذاته كانت متصلة بالأدب أوثق اتصال، ألم تكن كتابات المؤرخ اليوناني القديم «هيرودوت» (ت. 426 ق. م) جماعًا للأدب والتاريخ؟ وكثير من مؤرخي الإسلام كانوا أدباء، كما تدل على ذلك أساليبهم اللغوية، وطرقهم الأدبية في عرض الأحداث والسير والأيام، هكذا كان كتاب «الفتح القسي في الفتح القدسي» لعماد الدين الأصفهاني (ت. 597هـ)، وكتاب «تجارب الأمم» لابن مسكويه (ت.421هـ) في القديم، وكتاب «أشهر مشاهير الإسلام» لرفيق العظم (ت. 1925م)، وكتاب «رجال حول الرسول» لخالد محمد خالد (ت.1996م) في الحديث، ويطول التمثيل في هذه السبيل.

 

  إن النظر إلى التاريخ باعتباره فنًّا يتصل بالرحلة لا يغيب عن فكر ابن خلدون (ت. 808هـ) الذي جمع بينهما في كتاباته، يقول في المقدمة: «اعلم أنّ فنّ التّأريخ فنّ عزيز المذهب...، فهو محتاج إلى مآخذ متعدّدة ومعارف متنوّعة، وحسن نظر، وتثبّت يفضيان بصاحبهما إلى الحقّ، وينكّبان به عن المزلّات والمغالط؛ لأنّ الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرّد النّقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السّياسة، وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنسانيّ، ولا قيس الغائب منها بالشّاهد، والحاضر بالذّاهب؛ فربّما لم يؤمن فيها من العثور ومزلّة القدم...».

مع الرحالة شكيب أرسلان
  الصور الوصفية التي يقدّمها الرحالة الأمير شكيب أرسلان (ت. 1946م) للمكان يحيط بها سياج عريض من التاريخ، نجد ذلك بوضوح في كتابه «الرحلة الأندلسية» الذي حققه الباحث الكويتي فهد بن محمد الدبوس، وصدر عام 2018م، حيث تُزاحم وقائعه المنقضية خطوات السارد، ومواقفه الجديدة، حتى يصح القول معها: إن أدب الرحلة ابن أبوين المشاهدة والتاريخ، وذلك على نمط من قول أحمد شوقي الشهير في مقدمة قصيدته عن «روما»: «الشعر ابن أبوين الطبيعة والتاريخ».
  تتوالى سرود «الرحلة الأندلسية» للأمير شكيب على نسق خاص، يفضي بي إلى إجمال بعض ملامح الخطاب فيها:
 -1 يتعاقب الصوتان، صوت الحضّ على النهوض بالأمة العربية والاعتداد بحضارتها، وصوت التحسّر على أحوالها الماضية والحاضرة، فيرى أن أمثال «القادر بالله بن ذي النون» - حاكم طليطلة الذي أضاعها - كثيرٌ في العالم الإسلامي المعاصر، ينخدعون بأقاويل الأعداء وعهودهم، ويستسلمون إليهم «حتى إذا ما تمكّن هؤلاء بواسطتهم من مرادهم، قلبوا لهم ظهر المِجَنِّ وأرسلوهم يقرعون سِنَّ الندم على ثقتهم بهم، ولكن حين لا ينفع قرع السِنّ على حسن الظن!».

سطوع مدنية الإسلام
  أما حمراء غرناطة، فقد اتخذها الإمبراطور «شارلمان» مقرًّا لإقامته؛ لأنه باختصار لم يكن لها عنده «نِدٌّ يضاهيها، ولا يدانيها»؛ على الرغم من اتساع ممالكه الأوربية. إن أبهة غرناطة وعظمتها دليل ساطع - في تقدير شكيب - على مدنية الإسلام وعلى جدارة دوله بالأخذ بأسباب التقدم، يقول: «وفي هذا ما يفقأ حصرمًا (عنب حامض صلب) في أعين نبّاحي بدر الإسلام، مثل لويس برتران من الأكاديمية الفرنسية»! ثم يخلص إلى عبرة الأيام: «نعم، هكذا عصفت ريح العرب في أمم الغرب فيما غبر (وتلك الأيام نداولها بين الناس)».
 -2 يتدفق سرد الذات، ليس فقط عبر الانطباعات التي تولدها المشاهدات، وإنما عبر الحضور العربي في الغرب الأوربي، فنرى السارد شكيب أرسلان يجِدُّ - بوعي ويقين -  بلملمة خيوط هذا الحضور، ونسج عباءته الشرقية، من خلال تتبع المفردات، والبيوت، والجسور، والقلاع، والجبال، والأجواء، وما تخرجه من زروع وفواكه.
  وعلى امتداد هذا النسيج، يمتزج الخاص بالعام، وتصدح العاطفة، ويصحو حنين المغترب المنفي عن قومه ووطنه، ويمكن أن نلتمس شيئا من ذلك كله، في رسالته «من غرناطة إلى مالَقَة»، فالمدينة التي تقع في فسحة بين الجبل والبحر، هي «مالقة»، وهي - بحسب قراءته التاريخية - عربية مرتين لا مرة واحدة، فقد أسسها الفنيقيون وأعطوها اسمها، وفتحها العرب (711م)، وبقيت في أيديهم عربية خالصة مدة سبعمائة وست وسبعين سنة! ويثمر التجوال في سهولها الخصيبة، وبساتينها عن حديث مستفيض عن فاكهة «التين»، وعنه يقول شاعر المدينة، متكئًا على الجناس البديعيّ:
مالَقَةٌ حُيِّيت يا تِيْنهَا
        السُّفْنُ من أجلكِ يأتينهَا
نهَى طبيبي عنه في عِلّتي
        ما لطبيبي عن حياتي نهَى؟!
و«التين» الجيد وسورية وأزمير التركية لديه قرناء، ورؤيته في «مالقة» تجلب سردًا ذاتيًا، يصور جانبًا من غربة السارد واغترابه العميق في الزمان والمكان، يقول:
«أما أوربا فهي محرومة من التين الأخضر، إذ لا ينبت فيها التين، ولا يمكن نقل هذه الثمرة إلى أوربا إلا يابسة، ويأتينا إلى سويسرا - لأنها أصبحت بلادنا بعد أن صرنا لا نقدر أن نطأ بلدًا من بلدان الشرق - نوع من التين الطري ذي القشر الأسود، لكنه من حثالة الفاكهة و«حماط» الحجاز زين بالنسبة له، ولما جئت إسبانيا وجدتُ من هذا التين الأسود في برشلونة، ثم في مدريد، لكني لم أجده مما يؤكل»!
  إن حديث التين هنا يكاد يستحيل رمزًا ثقافيًا، يسهب في تكوينه، ويعتصم به الكاتب في مواجهة المنفى، والاغتراب النفسي والثقافي، ثم يعضد انطباعاته وذائقته الخاصة، من خلال استجلاب الشواهد من ديوان العرب الشعري.
-3 يغيب الحاضر الإسبانيّ عن مقالات الرحلة الأندلسية إلا قليلًا، وينزوي إيقاع الحياة اليومية، يتوارى الإثنوغرافي خلف المؤرخ والأديب، وهو في هذا لا يختلف كثيرا عن العديد من الرحّالة العرب إلى إسبانيا؛ فتطغى الرؤية المسبقة، والمنظور التاريخيّ على الواقع المعيش، نجد ذلك في «رحلة إلى الأندلس» لمحمد روحي الخالدي (ت. 1913م)، وفي «نور الأندلس» لأمين الريحاني (ت. 1940م)، وفي «رحلة الأندلس... حديث الفردوس المفقود» لحسين مؤنس (ت. 1996م)، الذي يقول: «هناك ضربت أشجار عربية جذورها في تربة أوربية، فأخرجت ثمرًا غربيًا طعمه شرقي». وإن وُجد قدر من التوازن بين الواقع والتاريخ في مثل «رحلة الأندلس» لمحمد لبيب البتنوني (ت. 1938).

غياب إسبانيا المعاصرة
  لكن عناوين الرحلة كانت - في ذاتها - علامة دالة على غياب إسبانيا المعاصرة، وكبرى غاياتهم تمثلت في تفقد الفردوس المفقود، والبحث عن الشرق في الغرب. والأمر نفسه ينسحب على الرحالة الشاعر في العصر الحديث، فيختفي الحاضر الإسباني أو يكاد، وتحضر الأندلس التاريخ والزهو الحضاري، في أندلسيات أحمد شوقي، وقصيدة «أندلسية» التي عارض فيها نونية ابن زيدون الشهيرة، لا علاقة لها تقريباً بالمدن الأندلسية سوى أن كاتبها كان مقيمًا بإشبيلية وقت كتابتها، أما سينية شوقي التي عارض فيها سينية البحتري، فتشغل الأندلس وآثارها نصفها الثاني، وصفًا مسهبًا، ورسمًا بالكلمات لمعالمها وخطوطها، حيث «بلغت النفسُ بمرآه الأرب، واكتحلت العين في ثراه بآثار العرب»، وتظهر قرطبة في بدء الرحلة مدينة ليست مثل كل المدن، وتقود المبالغة الشاعر فيجعلها بازغة من عالم آخر:
أنْظم الشرقَ في الجزيرة بالغر
        ب وأطوي البلاد حَزْنًا لدَهْسِ
في ديار من الخلائفِ دَرْسٍ
        ومنارٍ من الطوائف طمْس
 ورُبىً كالجنان في كنف الزيتو
        ن خضرٍ وفي ذرا الكرم طُلْس
لم يَرُعْني سوى ثَرىً قُرطبيّ 
        لمسَتْ فيه عِبرةَ الدهر خَمْسي
 قريةٌ لا تُعدُّ في الأرض كانت
        تُمسِكُ الأرضَ أن تمَيدَ وتُرْسي

  وإذا كان الأمر يبدو طبيعيًا في جانب ظاهر منه، للكاتب والمتلقي العربيين على صعيد الانتماء للجذور، والبواعث منذ البدء مبسوطة في المقدمات ومؤكدة، فإن ذلك يدعونا من جانب آخر إلى الإمساك بتلك المفارقة الظاهرة أيضا، والتباين الواضح بين أمرين: الإقبال الكبير للعرب المحدثين ورواد النهضة منهم في الطليعة، على الثقافتين الإنجليزية والفرنسية، رغم جراح الاحتلال الفاغرة، حتى يكاد يقترن بهما الحديث عن الثقافة الغربية في الأدبيات العربية، والأمر الآخر هو الابتعاد عن الثقافة الإسبانية الأوروبية على الرغم من وجود المشتركات الوفيرة، التي تستفيض الرحلات ذاتها في رصدها، والإعجاب العميق بآثارها وتراثها!. 
ولعل المفارقة تدعونا أيضا إلى تأييد الدعوة التي يطويها سؤال يطرحه الكاتب محسن الرملى - المقيم بإسبانيا -: «لماذا لم نقم بأي مشروع ثقافي جاد يشكل جسرًا حقيقيًا بين الثقافتين ويديم تلاقحهما؟!» (كتاب العربي 60، 2005، ص 233).
  ولا نبخس الأمير شكيب حقه، فقد سبق إلى مثل هذه الدعوة، وأبان عن رغبة وأمل رحيبين، وتساءل بإحساس ممرور عن دور الحكومات، عند حديثه عن «ميورقة وأخواتها»: «وميورقة كسائر بلاد الأندلس، لا تكاد تقلب فيها حجرًا حتى تجد تحته للعرب أثرًا، ولكن يجب لهذه الآثار تحقيقات طويلة عريضة عميقة، تقوم بها بعثات علمية عربية تنقب الأشهر بل السنين، وتنفق عليها الحكومات العربية أو الإسلامية كما يفعل الإفرنج في آثارهم، فأين الحكومات العربية والإسلامية من هذا الأمر؟ وهي لا تكاد تفحص عن الآثار التي تحت رجليها!» (الرحلة الأندلسية، ص 223).
-4 تتألف «حُلَّة» الرحلة عند شكيب أرسلان من خيوط أدبية ذات شكول، يَعْقد بينها رباط من السلاسة والوضوح في الأسلوب، والرصانة في التراكيب، والدقة في الوصف، مع مزاج جامع من الموضوعية والذاتية، تقتضيه أدبيات الرحلة في الصياغة والتعبير، ولعل مرد هذا التحدّر الأسلوبي إلى أن منشأ فصول الرحلة كان استكتابًا صحفيًا، من صاحب جريدة «الشورى» (محمد علي الطاهر)، وهو يستقبلها بتنويه واحتفاء، في العدد (281) الصادر بتاريخ 9/7/ 1930م: «... ولا شك أننا والقراء سنتمتع برسائل الأمير الطليّة، وناهيك بابن أرسلان، وهو يزور آثار الأجداد، وديارهم الدارسة، ومغانيهم الزائلة». لكن كاتبنا لا يوفر سبيلًا إلى إضفاء الأدبية على رسائله الصحفية، فكان أقرب طريقة إلى المراسل الأدبي، نجد ذلك في تلك الدفقة الوصفية الجمالية لبُستان العريف، وأبهاء قصره، حيث يتملكه الإعجاب والزهو؛ فيقول:
«ولا شيء يُمثّل لك ألف ليلة وليلة تمثيلا بارزًا، ويحوّلها مادة بعد أن كانت معنى مثل جنة العريف التي يقول لها الإفرنج «جنراليف» الواقعة بإزاء الحمراء في سد تشرف من ذلك العلو الشاهق فوق وادي حدرة، وهي ملتفة بالدوح الأشب، والسرو الباسق، غريقة بحر الخضرة، غذية ثدي النعومة، ربيبة مهد النعمة، تتفجر فيها النوافر من كل الجهات، وتخرّ أقنيتها بالماء الدافق كبطون الحيات، فلا نسمع في هاتيك الأرجاء إلا خرير الماء الزلال، وتصفيق الأغصان الوارفة الظلال!».

استدعاء الأجواء الأسطورية
يوقّع شكيب أرسلان على منوال قطعته الوصفية، جملة من العناصر الجمالية، تظهر في استدعاء الأجواء الأسطورية لقصص ألف ليلة وليلة، وتوالي الأوصاف (الشاهق - الدوح الأشب - السرو الباسق - الماء الزلال)، والاستغراق في التصوير البصري والحسي (بحر الخضرة - ثدي النعومة - مهد النعمة - بطون الحيّات...)، ثم الاتكاء على الفواصل المسجوعة.
  وهكذا، يتخلل السجع - ذلك المحسن البديعيّ العتيد - النسيج النصّي للرحلة خفيفًا، دون تعمل في أكثر المواضع، وإن بدا القصد إلى السجع ظاهرًا في بعض الافتتاحيات، كما في رسالته المعنونة «من غرناطة إلى مالقة»:
«كنتُ أريد، ولا أزال أريد القول في غرناطة، موقعها الأبدع، ومرجها الأمرع، وحمرائها التي لا يملّ منها الإنسان ولا يشبع...!».
  ولكن الأمير سرعان ما يتحوّل إلى الترسُّل، والتدفق الوصفي الذي يستند إلى معجم لفظي وافر الثراء، كما في هذا المقطع من وصف مطول لجبل طارق، الذي يعده خارقة من خوارق الطبيعة، يقصر عن تصوره كل لفظ، والمشاهدة بالعين - عند ذاك - تمثل البديل، والمرجع الأكيد:
«جبلٌ يزيد علوّه على أربعمائة متر، شامخ باذخ ضارب في السماء على سواء، دون تلطف ولا تدرج ولا أسلوب من الأساليب كلها، محاط بالبحر من كل الجهات إلا جهة واحدة شمالية، هو يرتبط بها بالبر الكبير، بر إسبانيا ارتباطًا ضعيفًا ضئيلًا خفيفًا برَمْلةٍ دَمْثَة واطِئَةٍ لاطِئَةٍ قليلة العرض، لا يكاد الإنسان يحسبها من الأرض»!.
وهنا تطفر الألفاظ التراثية، كما تطفر كلمات أُخَر من الرافد نفسه في مواضع متفرقات، وهذا المعجم موصول بروافد تحسينية مثل التضمين والاستيحاء؛ يقف طويلا عند مزايا قصر الحمراء، وتقترن فيه جمال الصنعة بجمال الموقع أو الطبيعة، ثم ينتهي إلى أن الوصف هنا لا يغني عن المشاهدة أو تصور الواقع «وغاية ما هناك أن تقول: {وإذا رأيت ثمّ رأيت نعيمًا وملكًا كبيرًا}»، والاقتباس ظاهر من القرآن الكريم في وصف الجنة (سورة الإنسان، الآية 20). 

مفخرة عظمى للمسلمين
كما يضمّن الشعر ويستوحيه، حين يرصد ذلك التفاوت الكبير بين المسلمين والنصارى في سياسة البلاد التي أخضعوها لحكمهم، والمساحة التي تحركت فيها الحرية الدينية، فينتهي إلى أن المفخرة العظمى كانت للمسلمين؛ فلم يجبروا أحدًا على الإسلام، ولا على تبديل الاسم والزي واللسان، ويستحضر قول الشاعر «الحيص بيص»:
وحسْبُكم هذا التفاوتُ بيننا
         وكلُّ إناءٍ بالذي فيه يَنْضحُ
  ويستوحي بيت العَرْجي الشهير، في سياق الحسرة والنقمة على الفرقة، وسقوط غرناطة: «فذهبتْ ولسان حالها يقول لهم: أضاعوني، وأي بلد أضاعوا».
وفي الطريق إلى الجزيرة الخضراء، يستعين بالتصوير التشخيصيّ: «فمن عن يمينك الجبال قائم، ورابض ومطمئن وناهض وشعراني وأجرد، وأخضر وأغبر، وبر فسيح وسهول تتعب فيها الريح».
ويذهب إلى التعبير الكنائي الساخر؛ لتصوير مدى دهشة سائحتين رآهما في قاعة بني سراج بقصر الحمراء: «فوجدتُ السيدتين لا تزالان جالستين، وقد علَت وجوههما علامة الهيام؛ حتى خِلتُ أن بعض السائحات قد يَحِضْن بلا سوء أدب عند رؤية هذه الأماكن»!.
  هذا النزوع نحو التحسين البديعيّ، والتصوير البياني في نص الرحلة الأندلسية، ليس بعيدًا عن التوقّع - في تقديري - من جهتين: جهة النزعة العروبية الظاهرة لدى شكيب أرسلان في كتاباته الغزيرة ومواقفه السياسية؛ حتى عُرف بأمير البيان العربي، ويشهد بذلك بحثه الدؤوب عن الأسماء العربية في الإسبانية المعاصرة. ثم طبيعة الوجهة ذاتها، وهي مدن الأندلس الآثار والتاريخ معًا، فعين الرائي تصافح القباب والعقود والنقوش والزخارف والأشكال الهندسية - حيثما حلّت - في أنواع شتى من العمارة الأندلسية، وهي تقوم على التماثل والتناسب، والتوازي والتكرار - وهل السجع مثالاً - في نسقه البنائي إلا تساو للوزن وتكرار للصوت؟
تصافح عين الرائي الأنساق المعمارية، وتعاينها وتتملّاها، ثم لا تلبث أن تنعكس آثار من هذه المرائي في نفس الكاتب، وفي أسلوبه، وطريقة رصفه الكلام وسبكه، من جانب آخر، فإن العمارة الأندلسية موصولة بالحرف العربيّ قرآنًا وشعرًا، والبهو «المقرنص» بساحة الأسود، يعمر بالعقود والعناقيد، والتخاريم والتراصيع الزخرفية، ويدور معها شعر «ابن زمرك» (ت. 793هـ) شاعر بني الأحمر، وتضم كثيرًا من قصائد ديوانه.
  يعمر المحقق هوامش الكتاب بملاحظات وتعليقات، ولا يوفر في ذلك مصدرًا مكتوبًا، ولا سؤالًا يتوجه به إلى أهل العلم والاختصاص، وإن كان في بعض هذه الهوامش زيادة عن المطلوب، وتوجيهًا خاصًا للخطاب. ومن اللافت أيضًا أن الهوامش تشير إلى خيوط دقيقة لمعالم رحلة أندلسية أخرى، قام بها الباحث نفسه، ولعلها ترى النور في القريب فتثري مدونة الرحلات العربية المعاصرة، ويتجدد عهد الأحفاد مع شغف الرحلة عند الرواد من الأجداد ■