في السنة العالمية للزجاج الإرث الغني للزجاج الإسلامي

في السنة العالمية للزجاج الإرث الغني للزجاج الإسلامي

أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2022 العام العالمي للزجاج في  18 مايو 2021، وذلك بهدف الاحتفاء بالدور الذي تلعبه هذه المادة في العلوم والفنون والثقافة والحضارة الإنسانية بمجملها، بالإضافة إلى تسليط الضوء على ماضي وحاضر ومستقبل صناعة الزجاج وكيفية استخدامه من أجل التقدم نحو تحقيق أهداف جدول أعمال الأمم المتحدة للتنمية المستدامة في 2030. بهذه المناسبة، كان لا بد من العودة إلى الحضارة الإسلامية التي كانت لها إسهامات مهمة في صناعة الزجاج وتطويره، إن كان من حيث الشكل أو الألوان، أو من حيث استخداماته المختلفة.

 

منذ أولى بداياته لم يكن اكتشاف الزجاج بعيدًا عن المنطقة العربية، إذ يقول المؤرخ إيزيدور الإشبيلي في الموسوعة التي وضعها في القرن السابع عن أصول اكتشاف الزجاج، إنه: «... في جزء من سورية يسمى فينيقيا يوجد نبع... يخرج منه نهر بيلوس... وتقول إحدى الرويات إن سفينة تجارية محملة بالنطرون  (كربونات الصوديوم) قد تحطمت عند ذلك المكان؛ وبينما كان التجار منتشرين على الشاطئ يحضرون الطعام ولم يكن في متناولهم حجارة ليضعوا عليها قدورهم أحضروا كتلاً من النطرون من السفينة، وعندها اختلطت رمال الشاطئ مع النطرون المحترق وانصهرت معه فتدفقت تيارات شفافة لسائل جديد وكان ذلك أصل الزجاج». 
لكن لعلماء الآثار نظرية أخرى تقول إن صناعة الزجاج نشأت فعليًا في بلاد ما بين النهرين في نحو 2500 قبل الميلاد، حيث تم العثور على الخرز والأختام والزخارف الزجاجية على المباني، وبعد نحو ألف عام تعلم حرفيو الزجاج كيفية صنع الأواني الزجاجية وانتشرت التقنية في مصر واليونان. وكلتا النظريتان تشيران إلى أن صناعة الزجاج قد بدأت بالفعل في المحيط العربي لكن المكانة الكبيرة التي احتلتها كانت في ظل الحضارة الإسلامية التي خلفت الكثير من المنتجات والأدوات والزخارف الزجاجية العالية الجودة، إن كان من حيث دقة وتعقيد الزخارف والأنماط، أو من حيث عمق الألوان وثراؤها والحجم الهائل للابتكار والتجدد الذي دخل فيها، والتي تم الاكتشاف العديد منها وبقيت لتخبرنا عن مدى التقدم الذي توصلت إليه صناعة الزجاج في ظل الحضارة الإسلامية.
 
صناعة الزجاج وتداخلاتها الاجتماعية والثقافية
يقول شاعرنا الكبير عمر الخيام:
 أمس أبصرت في حانوت الخزاف
مئات الأباريق صامتة في الظاهر، ناطقة في الباطن، تحدث بعضها، لتقول:
«أين هو صانع الخزف؟» أين هو بائعه؟ مَن هو مشتريه؟
وبالمثل، إذا نظرنا إلى العديد من مخلفات الصناعات الزجاجية في الحضارة الإسلامية نرى أن الكثير من تلك الأشياء الجميلة والهشة في آن يمكنها أن تخبرنا، حتى في «صمتها»، الكثير عن أذواق وقدرات صانعيها وكل مَن اقتناها وتاجر بها حتى بعد فترة طويلة من رحيلهم، كما يمكنها أن تكشف لنا تفاصيل صناعة الزجاج والسعي وراء الأناقة والجمال. 

نمو صناعة الزجاج
فمن عدسات ابن الهيثم البصرية وقوارير ابن حيان الكيميائية إلى مصباح مسجد الأمير طوسون، لعبت الحضارة الإسلامية دورًا رئيسيًا في نمو صناعة الزجاج في العالم منذ أن ورث صانعو الزجاج في العالم الإسلامي العديد من تقنيات أسلافهم في الإمبراطوريتين البيزنطية والساسانية، بما في ذلك نفخ الزجاج واستخدام القوالب وإضفاء الزخارف على الزجاج المصهور. لكن صانعي الزجاج الإسلامي من القرن السابع حتى القرن الرابع عشر لم يكتفوا بما ورثوه من مهارات حرفية من حضارات سابقة بل عمدوا إلى إضافة الكثير من التفنن والابتكار إلى صناعة الزجاج، فشهدت تلك الصناعة معهم مراحل مجيدة، مثل تلك الخاصة بالزجاج المقطوع الرائع والاواني المذهبة والمطلية بالمينا، التي رسخت تفوقها في صناعة الزجاج في جميع أنحاء العالم. خلال تلك الفترة تحولت المساجد والمنازل والمدن إلى مساحات جميلة مزينة بالزجاج بحيث كان العنصران الجمالي والوظيفي أساسيين في التصميم والبناء، وبهدف تزيين آلاف المساجد، وأيضًا بفضل الأدوات الخاصة بالنشاط العلمي المزدهر في مجالات مثل البصريات والكيمياء، حوّل صانعو الزجاج في العالم الإسلامي - ما كان حتى ذلك الحين - حرفة إلى صناعة توظف تقنيات جديدة وعددًا كبيراً من العمال من مختلف أنحاء بلدان الشرق الإسلامي.
وعن المستوى الرفيع الذي وصلت إليه صناعة الزجاج في ظل الحضارة الإسلامية يقول الدكتور علي يوسف الحسن في كتابه الصادر في 2001 بعنوان «العلم والتكنولوجيا في الإسلام: التكنولوجيا والعلوم التطبيقية» إنه «في ظل الإسلام، شهدت صناعة الزجاج انتعاشًا وازدهرت المراكز القديمة وأنشئت مراكز جديدة. إن كنوز الزجاج الإسلامي الرائعة والفاخرة التي يتم توزيعها بين المتاحف في جميع أنحاء العالم اليوم تشهد على المستوى الفني والتكنولوجي العالي للزجاج الإسلامي». وقد ترسخت صناعة الزجاج في صلب الحضارة الإسلامية وتطورت إلى درجة أنه في القرن الثامن الميلادي ضمّن العالم جابر بن حيان 46 وصفة لإنتاج الزجاج الملون في كتابه «الدرة المكنونة»، بالإضافة إلى 12 وصفة أضافها العالم الفلكي الحسن المراكشي إلى طبعة متأخرة من هذا الكتاب. 
وقد قدم الكتاب وصفات لتصنيع الزجاج الملون والزجاج اللامع والأحجار الكريمة الاصطناعية واللؤلؤ، كما أن مجمل الوصفات يكشف عن ثراء الألوان في مزيجها وتدرجاتها من الأحمر مع تدرج الأزرق الداكن، والأخضر الذي يشبه الزمرد، والأبيض العاجي، والأصفر مع تدرج الأرجواني، ومجموعة من الألوان الغريبة الأخرى. كما أننا نجد أثر الزجاج الثقافي في الشعر أيضا عندما وصف الشاعر العربي البحتري نقاوة الزجاج في قوله:
وكأنَّ حيطان الزجاج بجوِّهِ
لججٌ يمُجنَ على جُنوب سواحلِ
أو في قول الشاعر الأندلسي أبو الصلت الداني:
بِـشـاطـئ نَهـر كَأَنَّ الزُجاجَ
وَصَــفـو اللّجـيـنِ بِهِ ذوّبـا

أو في ما قاله الشاعر العربي من العصر العباسي ابن وكيع التنيسي:
أنم من النصول على مشيب
ومن صافي الزجاج على عقار

استخداماته المختلفة
للزجاج الإسلامي وظائف واستخدامات عديدة عبر التاريخ، فقد تم تصنيع منتجات متنوعة من بينها مصابيح المساجد ومختلف الأوعية والأكواب والأطباق والأباريق والدوارق والقوارير والزهريات وزجاجات العطور وما إلى ذلك، حيث كان بعضها يزين بزخارف جميلة
لاسيما عندما عرفت مصر وبلاد الشام زخرفة الزجاج بطريقة المينا والتذهيب في أوائل العصر الإسلامي، وكانت تتميز بالكتابات الموجودة عليها التي كانت غالبًا ما تنتظم في مناطق أفقية للأواني حيث اتساع المساحة وتفصلها بعض الأشرطة الضيقة على البدن، فكان الزجاج مناسبًا بشكل مثالي للمصابيح لأن شفافيته لا تخفف الضوء من ناحية، ومن ناحية أخرى، يمكنها أيضًا أن تعطي اللون للضوء من خلال تلوين الزجاج نفسه. 
ومن بين المنتجات التي اشتهرت بها مدن مثل حلب ودمشق قوارير صغيرة الحجم مزخرفة بشكل جميل كانت تصنع لتحتوي على الكحل (كحل أكسيد الأنتيمون) أو العطور أو الزيوت العطرية بالإضافة إلى أواني الحبر، وكذلك الأباريق أو الزجاجات ذات العنق الضيق والتي لا يمكن أن تتبخر منها السوائل الموجودة فيها بسهولة. من الأمثلة على ذلك إبريق في مجموعة متحف الكويت الوطني، الذي هو مثال رائع على الأعمال الزجاجية الإسلامية أواخر القرنين العاشر والحادي عشر، بحيث يتميز بشكله الأنيق مع جسم كروي وحافة واسعة متوهجة يشبه مقبضه الزخرفي، الذي تم إنشاؤه بانسيابية من خلال تركيب مسارات زجاجية، الأوعية المصنوعة من الكريستال الصخري في تلك الفترة.

قاعدة النارجيلة
ولا يمكن الحديث عن فن صناعة الزجاج الإسلامي دون ذكر قاعدة النارجيلة أو الحُقة (وهي كلمة هندوستانية من أصل عربي تعني الزجاج أو أنبوب الماء) التي بدأت تصنع في بداية القرن السابع عشر بالهند، وكانت قاعدتها عبارة عن حبة جوزة الهند مفرغة من قلبها، ثم قام الفرس بتطويرها فعمدوا إلى استبدالها بالزجاج. لكنهم لم يكتفوا بذلك بل قاموا بتزيينها بزخارف جميلة جعلتها تشبه البلور الصخري، كما تميزت معهم بنقوش وكتابات جميلة لا سيما تلك التي كانت تقدم في البلاط المغولي في الهند والتي كانت تصنّع في إيران، فكانت تكشف عن الوظيفة الاجتماعية للنارجيلة إذ وجد على بعض منها بيت شعر فارسي محفور على الزجاج يشير إلى أن النارجيلة كانت «معلمة الآداب» وكانت تخضع لقواعد آداب البلاط فتبقى صامتة إلى أن يقوم صاحبها بتناول الخرطوم كي يباشر التدخين، يقول:
( حتى لو وضعت الفحم المحترق على رأسها فالحقة معلمة الآداب لن تستجيب ما لم يتم استنشاقها
وهكذا يمكن للمرء أن يتعلم التهذيب من آدابها).
وفي مكان قريب من إيران والحضارة الفارسية ظهرت الرعاية العثمانية لصناعة الزجاج لا سيما في صفحات مخطوطة مصورة من عام 1582 تتحدث عن الاحتفالات التي أقيمت بمناسبة ختان ابن السلطان مراد الثالث، فكانت تحتوي على رسوم إيضاحية تصور حرفيين من صناعات مختلفة يسيرون في موكب أمام السلطان، بمن في ذلك صانعو الزجاج والنوافذ ومصنعو القوارير والأباريق والزجاجات، حيث كانوا يثبتون حرفيتهم من خلال صناعات «حية» على فرن بعجلات وهم يصنعون الزجاج مع تقدم المسيرة بينما يحمل آخرون المنتجات النهائية. 

تطورات موازية بين العلوم وصناعة الزجاج
يقول المؤرخ الفرنسي فريدريك آرتز في كتابه «العقل في العصور الوسطى» إن: «الكيمياء الحديثة انبثقت، إلى حد ما، من التطورات في علم الكيمياء في العصور الإسلامية…. حيث كان هناك قدر كبير من التجارب العملية التي تم إجراؤها في صناعة الزجاج والجلود والقماش والتعدين وإعداد الأدوية...». أما فيما يتعلق بصناعة الزجاج فقد أدخل المسلمون العديد من الأواني الزجاجية في العلوم والطب والكيمياء مثل الدوارق وأنابيب الاختبار وزجاجات الحجامة. ومن خلال استخدام الزجاج والعدسات في التجارب العلمية قام العلماء المسلمون مثل جابر بن حيان والكندي وابن سهل وابن الهيثم 
وابن سينا بتطوير النظريات المتعلقة بعلم البصريات التي كان قد وضعها الإغريق والهنود القدامى وقاموا بتوسيع التحليلات المنهجية والنظرية.كما كان لهم تأثير على العلماء المسلمين والأوروبيين في وقت لاحق ليس فقط في علم البصريات بل أيضًا في علوم الفيزياء والفلك وطب العيون. هناك العديد من علماء الكيمياء والأطباء الذين استخدموا الزجاج في إجراء الاختبارات في الممارسة الطبية وفي اختبار وإنشاء المركّبات الكيميائية والعقاقير الطبية وفي عمليات التبلور والتقطير وغيرها. 
ومن الأمثلة على استخدام علماء الكيمياء الأدوات الزجاجية يمكن الإشارة إلى ما توصل اليه علماء كابن حيان وابن سينا من تقدم في مجال التقطير لتأسيس صناعة العطور. فقد ركز الكندي في كتابه «كيمياء العطر والتصعيدات» بشكل أساسي على تحضير الزيوت الأساسية والمراهم والماء العطري وقدم 107 وصفات مختلفة لتحضير العطور.  ولعدة عقود احتكر صانعو العطور المسلمون الأسواق وأخذوا يصدرون العطور إلى أوروبا والهند والصين، وكان للعديد منهم علاقة وثيقة مع الحرفيين الذين كانوا يصممون القوارير خصيصًا لمنتجاتهم.
وفي وقت لاحق عندما تمت ترجمة الجزء الأساسي من الأعمال المتعلقة بالكيمياء والصيدلة والطب وعلم الفلك وعلم البصريات إلى اللاتينية ودخلت إلى الغرب كذلك دخلت معها معدات المختبرات الزجاجية مثل الأنبيق الذي لا يزال يحمل اسمه العربي إلى الآن.ومما لا شك أن التقدم الذي تم إحرازه بفضل ليونة الزجاج وميزاته العملية قد غير مسار العلوم والتصورات عن العالم الطبيعي والطب والصناعة. وخلال الحضارة الإسلامية كان الجو العام الذي كان داعمًا للعلوم والصناعة والتجارة والدراسات الأكاديمية مماثلاً لذلك الذي كان دافعًا للإبداع والابتكار في صناعة الزجاج. 
أخيرًا، يمكننا القول إنه في مجال الفنون الإسلامية عامة يعتبر الزجاج حرفة غالبًا ما ارتفعت إلى مستوى الامتياز لكن تم تجاهلها إلى حد كبير من قبل مؤرخي الفن في العالم، فقد قام الآلاف من صانعي الزجاج المجهولين، من القاهرة إلى دلهي، بنقل معرفتهم بفخر من جيل إلى آخر، حيث قاموا بتجربة الألوان والأشكال والتقنيات والزخارف والنقوش لهذه المادة متعددة الاستخدامات بشكل غير عادي، ويظهر ذلك في المجموعات الخاصة والعامة المعروضة في متاحف مختلفة بجميع أنحاء العالم التي بقيت «في صمتها» شاهدة على الإرث الغني والمميز للزجاج الإسلامي ■