جفاف الموهبة إلى أين يؤدي بالمبدع؟

جفاف الموهبة  إلى أين يؤدي بالمبدع؟

  الموهبة هبة من الله، يختص بها فئة قليلة من الناس، كتابًا وشعراء وموسيقيين ورسامين وعلماء أفذاذًا، هبة لا تفسير لوجودها عند فرد دون آخر، لكنها ليست هبة مطلقة، فهي تحتاج إلى رعاية وتغذية مثلما يحتاج النبات إلى الماء وإلا جفّ ويبس، والموهبة سر الإبداع، ونشاط إنساني فوق العادة يستهدف خلق صور ورموز وأفكار جديدة تعكس طاقات خلاقة تلبي شغف الإنسان بالحرية والجمال والتقدم.

 

‬وهج‭ ‬الابداع‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الكتابة‭ ‬لا‭ ‬يبقى‭ ‬مشتعلًا‭ ‬طوال‭ ‬الوقت،‭ ‬هناك‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬التردد‭ ‬وعدم‭ ‬الثقة‭ ‬بالنفس‭ ‬تصيب‭ ‬كل‭ ‬كاتب‭ ‬في‭ ‬فترات‭ ‬من‭ ‬مسيرته،‭ ‬يعاني‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬الجفاف‭ ‬وعدم‭ ‬ملاءمة‭ ‬الفكرة‭ ‬لما‭ ‬يريد‭ ‬التعبير‭ ‬عنه،‭ ‬وعدم‭ ‬الاطمئنان‭ ‬إلى‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬الصياغة،‭ ‬وعليه‭ ‬أن‭ ‬يجتاز‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬بعد‭ ‬فترة‭ ‬قصيرة‭ ‬وإلا‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الجدب‭ ‬والجفاف‭ ‬الإبداعي‭. ‬والكتَّاب‭ ‬العرب‭ ‬هم‭ ‬الأكثر‭ ‬عرضة‭ ‬لهذه‭ ‬الحالة‭ ‬من‭ ‬الجدب،‭ ‬ففي‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬البلاد‭ ‬العربية‭ ‬هناك‭ ‬ظروف‭ ‬ضاغطة‭ ‬من‭ ‬افتقاد‭ ‬الحرية‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬التعبير،‭ ‬فالكاتب‭ ‬يشعر‭ ‬أحيانًا‭ ‬بأنه‭ ‬محاصر‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يعلن‭ ‬عن‭ ‬رأيه‭ ‬صراحة،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬موضوعات‭ ‬تقف‭ ‬العادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬المتزمتة‭ ‬حائلًا‭ ‬دون‭ ‬الاقتراب‭ ‬منها،‭ ‬وعلى‭ ‬المستوى‭ ‬الفعلي‭ ‬يعاني‭ ‬معظم‭ ‬الكتاب‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬افتقاد‭ ‬الأمان‭ ‬المادي،‭ ‬فالكتابة‭ ‬في‭ ‬عالمنا‭ ‬العربي‭ ‬لا‭ ‬توفر‭ ‬مصدرًا‭ ‬كافيًا‭ ‬للرزق،‭ ‬وعلى‭ ‬الكاتب‭ ‬أن‭ ‬يمارس‭ ‬عملًا‭ ‬إضافيًا‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الكتابة،‭ ‬لذلك‭ ‬يظل‭ ‬الكاتب‭ ‬موزعًا‭ ‬بين‭ ‬متطلبات‭ ‬الإبداع‭ ‬من‭ ‬تنمية‭ ‬ذاته‭ ‬وزيادة‭ ‬حصيلته‭ ‬الثقافية‭ ‬وتأمين‭ ‬مصدر‭ ‬رزقه،‭ ‬حتى‭ ‬عندما‭ ‬ينجح‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬يظل‭ ‬إنتاجه‭ ‬ضئيلًا‭ ‬بالنسبة‭ ‬لنظيره‭ ‬في‭ ‬الثقافات‭ ‬الأخرى،‭ ‬ويترتب‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬يفقد‭ ‬الكاتب‭ ‬إيمانه‭ ‬بإبداعه‭ ‬وينصرف‭ ‬إلى‭ ‬مهنة‭ ‬أكثر‭ ‬أمانًا،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬سببًا‭ ‬في‭ ‬عزوف‭ ‬بعض‭ ‬الكتاب‭ ‬العرب‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬المهنة‭ ‬غير‭ ‬المربحة‭.‬

‭ ‬تناول‭ ‬المحلل‭ ‬النفسي‭ ‬النمساوي‭ ‬إدموند‭ ‬برغلر‭ (‬1962‭) ‬أزمة‭ ‬‮«‬سدّة‭ ‬الكتابة‮»‬،‭ ‬بأنها‭ ‬حالة‭ ‬يفقد‭ ‬فيها‭ ‬المؤلف‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬إنتاج‭ ‬عمل‭ ‬جديد‭ ‬أو‭ ‬يواجه‭ ‬تباطؤًا‭ ‬في‭ ‬عمله‭ ‬الإبداعي‭. ‬والسبب‭ ‬مرجعه‭ ‬إلى‭ ‬شعوره‭ ‬بالخوف‭ ‬وعدم‭ ‬الأمان‭ ‬نتيجة‭ ‬جفاف‭ ‬الابتكار‭ ‬في‭ ‬الأفكار‭ ‬وأساليب‭ ‬الكتابة،‭ ‬وبعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الأسباب‭ ‬الإبداعية‭ ‬قد‭ ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بأسباب‭ ‬خاصة‭ ‬بالعوامل‭ ‬النفسية‭ ‬للكاتب‭ ‬أو‭ ‬بظروف‭ ‬مجتمعه‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭. ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬نتصور‭ ‬أن‭ ‬حرص‭ ‬المبدع‭ ‬على‭ ‬فنه‭ ‬يساوي‭ ‬حرص‭ ‬الإنسان‭ ‬العادي‭ ‬على‭ ‬عضلةٍ‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬جسده‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يستعملها‭ ‬في‭ ‬الغرض‭ ‬الذي‭ ‬خلقت‭ ‬له‭ ‬فإنها‭ ‬ستتأثر‭ ‬ويصيبها‭ ‬الوهن‭ ‬،‭ ‬وتجف‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الإبداع‭.‬

 

بئر‭ ‬الإبداع

هناك‭ ‬تعبير‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬إن‭ ‬على‭ ‬الكاتب‭ ‬أن‭ ‬يموت‭ ‬ويُبعث‮»‬،‭ ‬فالإبداع‭ ‬ليس‭ ‬خطًا‭ ‬مستقيمًا،‭ ‬أو‭ ‬طريقًا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬النتوءات‭ ‬والتعرجات‭ ‬والعقبات،‭ ‬قد‭ ‬تمرّ‭ ‬بالمبدع‭ ‬فترات‭ ‬جفاف،‭ ‬يعاني‭ ‬خلالها‭ ‬من‭ ‬الشكّ‭ ‬في‭ ‬قدراته‭ ‬والخوف‭ ‬من‭ ‬فقدان‭ ‬البوصلة،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يلبث‭ ‬أن‭ ‬يسترد‭ ‬عافيته‭ ‬الإبداعية‭ ‬كأنه‭ ‬يُبعث‭ ‬من‭ ‬جديد‭. ‬النصيحة‭ ‬التي‭ ‬على‭ ‬الفنان‭ ‬أن‭ ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬ضوئها‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬يستدعي‭ ‬الإلهام،‭ ‬ولا‭ ‬يجلس‭ ‬في‭ ‬انتظاره،‭ ‬إن‭ ‬حقيقة‭ ‬نضوب‭ ‬الإبداع‭ ‬قد‭ ‬تصدم‭ ‬أي‭ ‬مبدع،‭ ‬نضوب‭ ‬‮«‬بئر‭ ‬الإبداع‮»‬،‭ ‬والتعبير‭ ‬هنا‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬الأديبة‭ ‬التشيلية‭ ‬إيزابيل‭ ‬الليندي،‭ ‬فالأفكار‭ ‬لا‭ ‬تواتيها،‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬الصياغة‭ ‬تخذلها،‭ ‬وإذا‭ ‬أصرت‭ ‬على‭ ‬المواصلة‭ ‬فإن‭ ‬الكلمات‭ ‬تبدو‭ ‬جافة‭ ‬أو‭ ‬شاحبة،‭ ‬وبلا‭ ‬معنى،‭ ‬أو‭ ‬سخيفة‭ ‬المعنى‭. ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬أدركت‭ ‬الليندي‭ ‬أن‭ ‬بئر‭ ‬إبداعها‭ ‬قد‭ ‬نضبت،‭ ‬وقد‭ ‬سعت‭ ‬إلى‭ ‬ملئها‭ ‬برحلات‭ ‬إلى‭ ‬مدن‭ ‬مختلفة‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬والاحتكاك‭ ‬بعوالم‭ ‬لجعل‭ ‬مخيلتها‭ ‬تستيقظ،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬جفاف‭ ‬بئر‭ ‬الإبداع‭ ‬مرده‭ ‬لحاجة‭ ‬المبدع‭ ‬إلى‭ ‬تبديل‭ ‬قناعاته‭.‬

يقول‭ ‬الفنان‭ ‬الهولندي‭ ‬الشهير‭ ‬فينسنت‭ ‬فان‭ ‬غوخ‭:  ‬‮«‬إذا‭ ‬سمعت‭ ‬صوتًا‭ ‬بداخلك‭ ‬يقول‭ ‬لا‭... ‬لا‭ ‬يمكنك‭ ‬أن‭ ‬ترسم،‭ ‬ففي‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬ترسم‭ ‬لتقاوم‭ ‬هذا‭ ‬الصوت‭. ‬وبمجرد‭ ‬أن‭ ‬تفعل‭ ‬عكس‭ ‬ما‭ ‬سمعته،‭ ‬سيصمت‭ ‬هذا‭ ‬الصوت‭ ‬للأبد‮»‬‭. ‬وهكذا‭ ‬ينطبق‭ ‬القول‭ ‬على‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأمور‭ ‬في‭ ‬الحياة‭.‬

 

متلازمة‭ ‬الورقة‭ ‬البيضاء

‮«‬متلازمة‭ ‬الورقة‭ ‬البيضاء‮»‬‭ ‬هي‭ ‬المشهد‭ ‬أو‭ ‬اللحظات‭ ‬التي‭ ‬يخشاها‭ ‬كل‭ ‬مبدع‭ ‬حين‭ ‬يعجز‭ ‬عن‭ ‬الكتابة‭ ‬ولو‭ ‬حرف‭ ‬واحد‭ ‬وتبدأ‭ ‬الحلول‭ ‬الخرافية‭ ‬بمحاصرته‭ ‬وهو‭ ‬يعلم‭ ‬أنها‭ ‬لن‭ ‬تتحقق،‭ ‬ولا‭ ‬حلّ‭ ‬غير‭ ‬الدرب‭ ‬الذي‭ ‬سار‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬لكن‭ ‬بسرعات‭ ‬مختلفة،‭ ‬تلك‭ ‬المتلازمة‭ ‬أصابت‭ ‬جميع‭ ‬الكتاب‭ ‬والمؤلفين‭ ‬والموسيقيين‭... ‬إلخ،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬يستدعي‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬مخارج‭ ‬مؤقتة‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬اكتشافات‭ ‬جديدة‭ ‬قد‭ ‬تقود‭ ‬المبدع‭ ‬إلى‭ ‬طريق‭ ‬لم‭ ‬يتخيله‭ ‬يومًا‭ ‬من‭ ‬الأيام‭.‬

محمود‭ ‬درويش‭ ‬شاعر‭ ‬المقاومة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬مرّ‭ ‬بحالة‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬في‭ ‬الثمانينيات‭ ‬عندما‭ ‬طردت‭ ‬منظمة‭ ‬التحرير‭ ‬الفلسطينية‭ ‬من‭ ‬بيروت‭ ‬بواسطة‭ ‬إسرائيل،‭ ‬فقد‭ ‬وجد‭ ‬نفسه‭ ‬لاجئًا‭ ‬للمرة‭ ‬الثانية،‭ ‬ذهب‭ ‬إلى‭ ‬باريس‭ ‬وهو‭ ‬مفعم‭ ‬بالتناقضات،‭ ‬اكتشف‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬فائدة‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬وأن‭ ‬سطوة‭ ‬البندقية‭ ‬أكثر‭ ‬قوة،‭ ‬وأنه‭ ‬لا‭ ‬مكان‭ ‬للحق‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم،‭ ‬لذلك‭ ‬عزم‭ ‬على‭ ‬ترك‭ ‬الشعر،‭ ‬لكنه‭ ‬وجد‭ ‬أن‭ ‬النضال‭ ‬الفلسطيني‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬متواصلًا‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬المنافي،‭ ‬وأن‭ ‬صوت‭ ‬الشعر‭ ‬رغم‭ ‬ضعفه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إسكاته،‭ ‬وظل‭ ‬درويش‭ ‬صوت‭ ‬الثورة‭ ‬حتى‭ ‬مات‭ ‬عام‭ ‬2008‭.‬

الأزمة‭ ‬نفسها‭ ‬عاشها‭ ‬الشاعر‭ ‬المصري‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬بعد‭ ‬ديوانه‭ ‬الأول‭ ‬‮«‬البكاء‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬زرقاء‭ ‬اليمامة‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬غلبت‭ ‬عليه‭ ‬روح‭ ‬التشاؤم،‭ ‬تزامن‭ ‬ذلك‭ ‬مع‭ ‬إقامته‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬السويس‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬جو‭ ‬أدبي‭ ‬وثقافي،‭ ‬وجعلته‭ ‬يعيش‭ ‬مللًا‭ ‬دائمًا‭ ‬وفراغًا‭ ‬عاطفيًا‭ ‬كبيرًا‭. ‬أما‭ ‬الأهم‭ ‬فكان‭ ‬فقدانه‭ ‬الحس‭ ‬الإبداعي‭ ‬مدة‭ ‬3‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬الصمت،‭ ‬ما‭ ‬دفعه‭ ‬إلى‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬الانتحار،‭ ‬لكنه‭ ‬عدل‭ ‬عن‭ ‬قراره‭ ‬بعدما‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬استعادة‭ ‬وحي‭ ‬الشعر،‭ ‬فصارت‭ ‬الكتابة‭ ‬لديه‭ ‬‮«‬بديلًا‭ ‬من‭ ‬الانتحار‮»‬‭.‬

ولعل‭ ‬الضغط‭ ‬النفسي‭ ‬الذي‭ ‬يتعرض‭ ‬له‭ ‬المبدع‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الزمنية‭ ‬التي‭ ‬نعيشها‭ ‬مختلف‭ ‬لأن‭ ‬الجمهور‭ ‬المتلقي‭ ‬لأعماله‭ ‬يمتلك‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬فيه‭ ‬منصة‭ ‬ما‭ ‬على‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬الاحتكاك‭ ‬الفوري‭ ‬والآجل‭ ‬مع‭ ‬تفاعلاتهم‭ ‬المتباينة‭. ‬وبقدر‭ ‬ما‭ ‬لتلك‭ ‬التفاعلات‭ ‬إلّا‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬المبدعين‭ ‬لا‭ ‬يحتملون‭ ‬النقد‭ ‬أو‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬النقد‭ ‬الآتي‭ ‬من‭ ‬المتابع‭ ‬العادي‭ ‬والآتي‭ ‬من‭ ‬الناقد‭ ‬المتمكن،‭ ‬وقد‭ ‬يصاب‭ ‬بعضهم‭ ‬بالإحباط‭ ‬الشديد‭ ‬والانزواء،‭ ‬ما‭ ‬يؤدي‭ ‬بالتالي‭ ‬إلى‭ ‬تنامي‭ ‬متلازمة‭ ‬الورقة‭ ‬البيضاء‭.‬

وتبقى‭ ‬هناك‭ ‬نقطة‭ ‬يجب‭ ‬الإشارة‭ ‬إليها‭ ‬وهي‭ ‬استسلام‭ ‬بعض‭ ‬المبدعين‭ ‬لوهج‭ ‬الشهرة‭ ‬وضرورة‭ ‬البقاء‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تكثيف‭ ‬الكتابة‭ ‬بغرض‭ ‬الظهور‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬موسم‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬مستوى‭ ‬ما‭ ‬يقدمه‭ ‬وتلك‭ ‬العملية‭ ‬تستنزف‭ ‬أي‭ ‬مبدع‭ ‬وقد‭ ‬تودي‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬هوة‭ ‬الانحدار‭.‬

‭ ‬

البديل‭ ‬المفجع

لكنّ‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يجدون‭ ‬بديلًا،‭ ‬فالانتحار‭ ‬ظاهرة‭ ‬معقدة‭ ‬ومربكة‭ ‬حتى‭ ‬لأعتى‭ ‬علماء‭ ‬النفس،‭ ‬ويزيدها‭ ‬تعقيدًا‭ ‬عندما‭ ‬يكون‭ ‬المنتحر‭ ‬مبدعًا‭ ‬يمتلك‭ ‬حساسية‭ ‬مفرطة‭ ‬تجاه‭ ‬العالم،‭ ‬وإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬قد‭ ‬مرّ‭ ‬بتجارب‭ ‬قاسية‭ ‬منذ‭ ‬طفولته‭ ‬وطوال‭ ‬حياته،‭ ‬ويهاجم‭ ‬المرض‭ ‬النفسي‭ ‬المبدعين‭ ‬بضراوة،‭ ‬وقد‭ ‬أثبتت‭ ‬الدراسات‭ ‬أن‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الثلث،‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬التخصصات‭ ‬الإبداعية‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬مرض‭ ‬الاكتئاب،‭ ‬لا‭ ‬فرق‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬بين‭ ‬البلاد‭ ‬الغنية‭ ‬والمناطق‭ ‬الفقيرة،‭ ‬فظروف‭ ‬الحياة‭ ‬العامة‭ ‬تمثل‭ ‬ضغطًا‭ ‬مستمرًا‭ ‬على‭ ‬نفوسهم‭ ‬المرهفة،‭ ‬وعندما‭ ‬يرتبط‭ ‬ذلك‭ ‬بالألم‭ ‬الداخلي‭ ‬تصبح‭ ‬الحياة‭ ‬صعبة‭ ‬التقبل،‭ ‬يقول‭ ‬البعض‭ ‬إن‭ ‬المرض‭ ‬النفسي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬أحيانًا‭ ‬دافعًا‭ ‬للإبداع،‭ ‬لكنه‭ ‬يتحول‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الأحيان‭ ‬إلى‭ ‬نزيف‭ ‬للروح،‭ ‬ولعلنا‭ ‬جميعا‭ ‬نتذكر‭ ‬الأديب‭ ‬الأمريكي‭ ‬آرنست‭ ‬هيمنجواي‭ ‬الذي‭ ‬انتحر‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬قليلة‭ ‬من‭ ‬فوزه‭ ‬بجائزة‭ ‬نوبل،‭ ‬وهي‭ ‬الجائزة‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الكتابة،‭ ‬ورغم‭ ‬مرور‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة‭ ‬على‭ ‬رحيله‭ ‬أوائل‭ ‬الستينيات،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬ظروف‭ ‬وفاته‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬تثير‭ ‬التساؤل،‭ ‬كان‭ ‬كاتبًا‭ ‬وصحفيًا‭ ‬ومغامرًا،‭ ‬شارك‭ ‬في‭ ‬حربين‭ ‬عالميتين،‭ ‬ورحل‭ ‬إلى‭ ‬مجاهل‭ ‬إفريقيا‭ ‬ليتسلق‭ ‬جبال‭ ‬كلمنجارو‭ ‬وإلى‭ ‬إسبانيا‭ ‬ليتابع‭ ‬رياضة‭ ‬مصارعة‭ ‬الثيران،‭ ‬ترك‭ ‬المدن‭ ‬الكبرى‭ ‬ليعيش‭ ‬في‭ ‬جزيرة‭ ‬كوبا،‭ ‬وتعرض‭ ‬للموت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة،‭ ‬كان‭ ‬يبدو‭ ‬دائمًا‭ ‬قويًا‭ ‬وقادرًا‭ ‬على‭ ‬الفعل‭ ‬لكن‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬جفاف‭ ‬الموهبة‭ ‬دفع‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬الاكتئاب،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬الإصابات‭ ‬القديمة‭.‬

كان‭ ‬يتألم‭ ‬في‭ ‬داخله‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬تعوّد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬صلبًا‭ ‬قويًا‭ ‬ولم‭ ‬يجد‭ ‬من‭ ‬سبيل‭ ‬إلا‭ ‬الشرب‭ ‬بشراهة،‭ ‬حتى‭ ‬يختفي‭ ‬الألم‭ ‬ويفقد‭ ‬الوعي،‭ ‬وقاده‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬الاكتئاب،‭ ‬في‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬العجوز‭ ‬والبحر‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أشادت‭ ‬بها‭ ‬لجنة‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬صياد‭ ‬وحيد‭ ‬في‭ ‬قاربه،‭ ‬يقف‭ ‬بمفرده‭ ‬وسط‭ ‬المحيط‭ ‬متحديًا‭ ‬قسوة‭ ‬الطبيعة،‭ ‬والموت‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬قريبًا‭ ‬منه،‭ ‬يدافع‭ ‬عن‭ ‬السمكة‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬اصطادها،‭ ‬ورغم‭ ‬أنه‭ ‬يستطيع‭ ‬الانتصار‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الرواية‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬ينهزم‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬يختصر‭ ‬الطريق‭ ‬ويأخذ‭ ‬مسدسًا‭ ‬قديمًا‭ ‬ويطلق‭ ‬النار‭ ‬على‭ ‬نفسه،‭ ‬مات‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬المؤلفين‭ ‬الأمريكيين‭ ‬شهرة،‭ ‬والذي‭ ‬فتح‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬بوابة‭ ‬على‭ ‬الكتابة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ممارسة‭ ‬الحياة‭ ‬وتحويلها‭ ‬إلى‭ ‬كتابة‭ ‬حية‭.‬

 

مقاومة‭ ‬الإحباط

المأساة‭ ‬نفسها‭ ‬حدثت‭ ‬مع‭ ‬شاعرنا‭ ‬اللبناني‭ ‬خليل‭ ‬حاوي‭. ‬لقد‭ ‬عاش‭ ‬حياة‭ ‬شاقة‭ ‬انتهت‭ ‬مع‭ ‬ضياع‭ ‬الأحلام،‭ ‬لقد‭ ‬قاوم‭ ‬كل‭ ‬عوامل‭ ‬الإحباط‭ ‬التي‭ ‬أحاطت‭  ‬به،‭ ‬لكنه‭ ‬عندما‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬نقطة‭ ‬النهاية‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬مجال‭ ‬للمقاومة،‭ ‬لم‭ ‬يترك‭ ‬خليل‭ ‬حاوي‭ ‬أي‭ ‬رسالة‭ ‬توضح‭ ‬الأسباب‭ ‬المباشرة‭ ‬لانتحاره‭ ‬لكن‭ ‬وقائع‭ ‬حياته‭ ‬توضح‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سبب،‭ ‬في‭ ‬الثالثة‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬فقد‭ ‬أباه‭ ‬واضطر‭ ‬أن‭ ‬يترك‭ ‬المدرسة‭ ‬ويعمل‭ ‬في‭ ‬حرفة‭ ‬البناء،‭ ‬ثم‭ ‬عمل‭ ‬إسكافيًا،‭ ‬وتنقل‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بين‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المهن‭ ‬الوضيعة،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬ينسَ‭ ‬حلمه،‭ ‬فظل‭ ‬يدرس‭ ‬طوال‭ ‬الليل‭ ‬حتى‭ ‬استطاع‭ ‬التفوق‭ ‬في‭ ‬الدراسة‭ ‬وعلّم‭ ‬نفسه‭ ‬العربية‭ ‬والإنجليزية‭ ‬والفرنسية‭ ‬واستطاع‭ ‬أيضًا‭ ‬أن‭ ‬يلتحق‭ ‬بالجامعة‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬متفوقًا‭ ‬على‭ ‬أترابه‭ ‬الأصغر‭ ‬سنًا،‭ ‬وظفر‭ ‬ببعثة‭ ‬إلى‭ ‬كلية‭ ‬كمبردج‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬وظفر‭ ‬بشهادة‭ ‬الدكتوراه‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العربي،‭ ‬لكن‭ ‬معاناته‭ ‬القديمة‭ ‬تركت‭ ‬آثارها‭ ‬عليه،‭ ‬فعلى‭ ‬المستوى‭ ‬الخاص‭ ‬فشلت‭ ‬محاولاته‭ ‬العاطفية‭ ‬وعجز‭ ‬عن‭ ‬إنشاء‭ ‬أسرة‭ ‬طبيعية،‭ ‬وعلى‭ ‬المستوى‭ ‬العام‭ ‬انهارت‭ ‬أحلامه‭ ‬في‭ ‬الوحدة‭ ‬العربية‭ ‬والمشروع‭ ‬الناصري‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬شديد‭ ‬الإيمان‭ ‬به،‭ ‬وتوقف‭ ‬إبداعه‭ ‬الشعري‭ ‬أولًا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬طعم‭ ‬الشعر‭ ‬‮«‬كالحنظل‭ ‬في‭ ‬فمه‮»‬‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬تعبيره،‭ ‬وبلغت‭ ‬المرارة‭ ‬أقصاها‭ ‬حين‭ ‬وقف‭ ‬في‭ ‬شرفة‭ ‬منزله‭ ‬وشاهد‭ ‬الدبابات‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬على‭ ‬أبواب‭ ‬بيروت،‭ ‬كانت‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬العواصم‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬السقوط‭. ‬إزاء‭ ‬هذا‭ ‬الانهيار‭ ‬الشامل‭ ‬لم‭ ‬يملك‭ ‬إلّا‭ ‬أن‭ ‬يوجّه‭ ‬بندقية‭ ‬الصيد‭ ‬إلى‭ ‬صدره‭ ‬ويطلق‭ ‬الرصاص‭ ‬ويموت‭ ‬في‭ ‬الموضع‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬الشرفة‭.‬

الانتحار‭ ‬هو‭ ‬قمة‭ ‬اليأس‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬جفاف‭ ‬الإبداع‭ ‬وفقدان‭ ‬المعنى،‭ ‬لقد‭ ‬عاش‭ ‬الرجلان‭ ‬حياة‭ ‬مليئة‭ ‬بالتحدي‭ ‬والإنجازات،‭ ‬لكن‭ ‬ظروف‭ ‬الحياة‭ ‬جعلتهما‭ ‬يفقدان‭ ‬إرادة‭ ‬مواصلة‭ ‬الحياة،‭ ‬لم‭ ‬تغذّ‭ ‬روحهما‭ ‬رحلة‭ ‬الإبداع‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬عبئًا‭ ‬عليه،‭ ‬كانت‭ ‬لا‭ ‬قدرة‭ ‬لديهما‭ ‬على‭ ‬مواجهة‭ ‬الظروف‭ ‬التي‭ ‬جعلتهما‭ ‬ينتقلان‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬الفعل‭ ‬المؤثر‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬اللا‭ ‬فعل‭ ‬والمعاناة‭ ‬بسبب‭ ‬ضغوط‭ ‬الحياة‭ ‬على‭ ‬نفوسهم‭ ‬المرهفة‭ ‬■