تجديد الفكر العربي ثلاث رؤى عربية

تجديد الفكر العربي  ثلاث رؤى عربية

في 31 ديسمبر 2016، كتب أمين عام الجامعة العربية السيد أحمد أبو الغيط مقالًا بالغ الأهمية والدلالة في جريدة «الحياة اللندنية» يحمل عنوان «أربعة جسور لا غنى عنها لتجديد الثقافة العربية»، وقد مهد لتفعيل تصوره لهذه الجسور، بأنه في الجدل الدائر حول مسؤولية ودور السياسة تأتي الثقافة أولًا وكل شيء يأتي بعدها، الثقافة هي المبتدأ والمنتهى في أي مشروع وطني أو عابر للأوطان، هي البيئة الأساسية لأي بناء حضاري، والسياسة في واقع الأمر فرع من الثقافة وأحد منتجاتها. 

 

والواقع‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬تستمد‭ ‬قيمتها‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬تصدر‭ ‬عن‭ ‬شخصية‭ ‬سياسية‭ ‬في‭ ‬الأساس،‭ ‬وهي‭ ‬المسؤولة‭ ‬عن‭ ‬إدارة‭ ‬العمل‭ ‬العربي‭ ‬المشترك‭. ‬وأتصور‭ ‬أن‭ ‬إدراك‭ ‬الأمين‭ ‬العام‭ ‬لدور‭ ‬الثقافة‭ ‬يأتي‭ ‬صدى‭ ‬لما‭ ‬تتعرض‭ ‬له‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬صعود‭ ‬الجماعات‭ ‬الأصولية‭ ‬التي‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬تحريف‭ ‬الدين‭ ‬الإسلامي‭ ‬والأعمال‭ ‬الإرهابية‭ ‬المدمرة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المجتمعات‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬مجتمعات‭ ‬أجنبية،‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬تشويه‭ ‬صورة‭ ‬الدين‭ ‬الإسلامي‭ ‬ووسطيته‭ ‬وتعاليمه‭ ‬السمح،‭ ‬والواقع‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬الجدل‭ ‬السياسي‭ ‬والفكري‭ ‬الذي‭ ‬أثارته‭ ‬هذه‭ ‬الجماعات‭ ‬وأعمالها‭ ‬الإرهابية‭ ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬إجماع‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬محاربتها‭ ‬وهزيمتها‭ ‬لن‭ ‬تتأتيا‭ ‬فقط‭ ‬بالسلاح،‭ ‬وإنما‭ ‬أساسًا‭ ‬بنزع‭ ‬وتفكيك‭ ‬الأساس‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬الذي‭ ‬تعتمد‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬تجنيد‭ ‬الشباب‭ ‬وإقناعهم‭ ‬بأنهم‭ ‬وهم‭ ‬يمارسون‭ ‬القتل‭ ‬والتدمير‭ ‬إنما‭ ‬يدافعون‭ ‬عن‭ ‬العقيدة‭ ‬والإسلام‭. ‬هذا‭ ‬التصور‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬قادنا‭ ‬بالتالي‭ ‬إلى‭ ‬الدعوة‭ ‬المتصاعدة‭ ‬إلى‭ ‬تجديد‭ ‬أو‭ ‬إصلاح‭ ‬الخطاب‭ ‬الديني‭ ‬وتفريغه‭ ‬من‭ ‬دعاوى‭ ‬التكفير‭ ‬ومعاداة‭ ‬الآخر،‭ ‬وفي‭ ‬النقاش‭ ‬حول‭ ‬أدوات‭ ‬وآليات‭ ‬تجديد‭ ‬الخطاب‭ ‬الديني‭ ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬اتفاق‭ ‬على‭ ‬أهمية‭ ‬تحديث‭ ‬العقل‭ ‬والفكر‭ ‬والثقافة‭ ‬العربية‭ ‬بشكل‭ ‬يضمن‭ ‬بناء‭ ‬إنسان‭ ‬تحصّن‭ ‬عقليًا‭ ‬ضد‭ ‬دعاوى‭ ‬التطرف‭ ‬والفهم‭ ‬الخاطئ‭ ‬للدين‭ ‬ومقاصده‭.  ‬والواقع‭ ‬أن‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬تجديد‭ ‬وتحديث‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬قد‭ ‬شغلت‭ ‬المفكرين‭ ‬العرب‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬العقود‭ ‬الماضية،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يدفعنا‭ ‬إلى‭ ‬استدعاء‭ ‬مساهمات‭ ‬ثلاث‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬المفكرين‭ ‬الذين‭ ‬اتفقوا‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬التاريخية‭ ‬الحاسمة‭ ‬التي‭ ‬يعيشها‭ ‬العرب‭ ‬تصبح‭ ‬قضية‭ ‬تحديث‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬هي‭ ‬القضية‭ ‬الحضارية‭ ‬الأولى‭. ‬المفكرون‭ ‬الثلاثة‭ ‬هم‭: ‬د‭. ‬زكي‭ ‬نجيب‭ ‬محمود‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬المبكر‭ ‬‮«‬تحديث‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‮»‬‭ ‬ود‭. ‬حسن‭ ‬صعب‭ ‬في‭ ‬عمله‭: ‬‮«‬تجديد‭ ‬العقل‭ ‬العربي‮»‬،‭ ‬دراسات‭ ‬حول‭ ‬الثورة‭ ‬الثقافية‭ ‬اللازمة‭ ‬للتقدم‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬ثم‭ ‬د‭. ‬معن‭ ‬زيادة‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬معالم‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬تحديث‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‮»‬‭.‬

 

أولًا‭: ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬بين‭ ‬التراث‭ ‬والمعاصرة‭ ‬

في‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬تاريخه‭ ‬الفكري‭ ‬ظل‭ ‬أستاذ‭ ‬الفلسفة‭ ‬الدكتور‭ ‬زكي‭ ‬نجيب‭ ‬محمود‭ ‬مشغولًا‭ ‬دراسة‭ ‬وتدريسًا‭ ‬وكتابة‭ ‬عن‭ ‬الفكر‭ ‬الأوربي‭ ‬المعاصر،‭ ‬تملكه‭ ‬القلق‭ ‬حول‭ ‬تراث‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي،‭ ‬وألح‭ ‬عليه‭ ‬السؤال‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬للفكر‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬عربيًا‭ ‬حقًا‭ ‬ومعاصرًا‭ ‬حقًا،‭ ‬ويبحث‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬الطرفين‭ ‬في‭ ‬مركب‭ ‬واحد،‭ ‬وانتهى‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬تركيبة‭ ‬عضوية‭ ‬تمزج‭ ‬تراثنا‭ ‬مع‭ ‬عناصر‭ ‬العصر‭ ‬الحاضر‭ ‬الذي‭ ‬نعيش‭ ‬فيه‭ ‬لنكون‭ ‬بهذه‭ ‬التركيبة‭ ‬العضوية‭ ‬عربًا‭ ‬ومعاصرين‭ ‬في‭ ‬آن،‭ ‬واكتشف‭ ‬أنه‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬عند‭ ‬أسلافنا‭ ‬طريقة‭ ‬تفيدنا‭ ‬في‭ ‬معاشنا‭ ‬الراهن‭ ‬أخذناها،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬الجانب‭ ‬الذي‭ ‬نحييه‭ ‬من‭ ‬التراث،‭ ‬أما‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬ينفع‭ ‬عمليًا‭ ‬نظريتنا‭ ‬فهو‭ ‬الذي‭ ‬نتركه‭ ‬غير‭ ‬آسفين‭.‬

ورغم‭ ‬ما‭ ‬اكتشفه‭ ‬الدكتور‭ ‬زكي‭ ‬نجيب‭ ‬محمود‭ ‬من‭ ‬الانكباب‭ ‬على‭ ‬دراسة‭ ‬التراث‭ ‬الفكري‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬عوامل‭ ‬قوة‭ ‬ومن‭ ‬الوقفات‭ ‬المنهجية‭ ‬العظيمة‭ ‬التي‭ ‬وقفها‭ ‬الأولون،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬اكتشف‭ ‬عوامل‭ ‬أخرى‭ ‬تعمل‭ ‬فينا‭ ‬كأبشع‭ ‬ما‭ ‬يستطيع‭ ‬فعله‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬من‭ ‬أغلال‭ ‬وأصفاد،‭ ‬وإنه‭ ‬لمن‭ ‬العبث‭ ‬أن‭ ‬يرجو‭ ‬العرب‭ ‬لأنفسهم‭ ‬نهوضًا‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬النهوض‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يخلعوا‭ ‬عن‭ ‬عقولهم‭ ‬تلك‭ ‬القيود‭ ‬كي‭ ‬ينطلقوا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يسعون‭ ‬إليه،‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬يسجل‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬العقبات‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬يراه‭ ‬من‭ ‬الضغط‭ ‬الفكري‭ ‬للسلف‭ ‬فيتمثل‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قالوا‭ ‬وما‭ ‬أعادوه‭ ‬ألف‭ ‬مرة،‭ ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬يصبح‭ ‬السؤال‭ ‬الأساسي‭ ‬المطروح‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭: ‬أي‭ ‬الأفكار‭ ‬التي‭ ‬يريدوننا‭ ‬أن‭ ‬نبعثها‭ ‬من‭ ‬تراث‭ ‬الأسلاف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نعلق‭ ‬به‭ ‬الرجاء؟‭ ‬وهل‭ ‬صحيح‭ ‬إننا‭ ‬ما‭ ‬وجدنا‭ ‬في‭ ‬أفكار‭ ‬الأسلاف‭ ‬بالأمس‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ينير‭ ‬أمامنا‭ ‬الطريق،‭ ‬ويستخلص‭ ‬أن‭ ‬أفكارهم‭ ‬كانت‭ ‬وليدة‭ ‬مشكلاتهم،‭ ‬فهل‭ ‬تكون‭ ‬مشكلاتنا‭ ‬هي‭ ‬مشكلاتهم،‭ ‬بحيث‭ ‬نهتدي‭ ‬بحكمتهم‭ ‬في‭ ‬اقتراح‭ ‬الحلول؟‭ ‬إن‭ ‬ما‭ ‬يواجه‭ ‬العرب‭ ‬اليوم‭ ‬مشكلات‭ ‬أخرى‭ ‬غير‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬شغلت‭ ‬الأسلاف،‭ ‬مشكلات‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬علاقة‭ ‬الإنسان‭ ‬بالطبيعة‭ ‬وبالصناعة،‭ ‬وبزميله‭ ‬الإنسان،‭ ‬وفي‭ ‬المجمل‭ ‬يدور‭ ‬فكر‭ ‬زكي‭ ‬نجيب‭ ‬محمود‭ ‬حول‭ ‬تجديد‭ ‬الفكر‭ ‬العربي،‭ ‬حول‭ ‬سؤال‭ ‬حاول‭ ‬الإجابة‭ ‬عنه‭ ‬وهو‭: ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬حد‭ ‬يمكن‭ ‬للعربي‭ ‬المعاصر‭ ‬أن‭ ‬يستعين‭ ‬بالتراث‭ ‬الفكري‭ ‬في‭ ‬معالجة‭ ‬مشكلات‭ ‬العصر‭ ‬الذي‭ ‬يعيشه‭.‬

 

ثانيًا‭: ‬البعد‭ ‬الحديث‭ ‬للمواطن‭ ‬والمجتمع‭ ‬العربي إذا‭ ‬كان‭ ‬ذكي‭ ‬نجيب‭ ‬محمود‭ ‬بدأ‭ ‬لتجديد‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬بالتركيز‭ ‬على‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬التراث‭ ‬العربي‭ ‬والمعاصر‭ ‬وأنه‭ ‬تصور‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬الإمكان‭ ‬صياغة‭ ‬وحدة‭ ‬عضوية‭ ‬تجمع‭ ‬الاثنين‭ ‬يستفاد‭ ‬فيها‭ ‬بما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مفيدًا‭ ‬وعمليًا‭ ‬من‭ ‬التراث،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬خلص‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تناوله‭ ‬النقدي‭ ‬للتراث‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ ‬كله‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬له‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬عالمنا‭ ‬المعاصر‭ ‬ومشكلاته‭ ‬المختلفة‭ ‬جذريًا‭ ‬عن‭ ‬المشكلات‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬التراث،‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬كذلك‭ ‬مع‭ ‬ذكي‭ ‬نجيب‭ ‬محمود،‭ ‬فإن‭ ‬مفكرًا‭ ‬عربيًا‭ ‬آخر‭ ‬هو‭ ‬الدكتور‭ ‬حسن‭ ‬صعب‭ ‬‮«‬تحديث‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭...‬‮»‬‭ ‬يعتبر‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحديث‭ ‬المواطن‭ ‬والمجتمع‭ ‬العربي‭ ‬يتطلب‭ ‬الأمر‭ ‬ثورة‭ ‬ثقافية،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬يعتبر‭ ‬أنه‭ ‬بعد‭ ‬قرن‭ ‬ونصف‭ ‬القرن‭ ‬من‭ ‬تفاعلنا‭ ‬مع‭ ‬العالم‭ ‬الحديث‭ ‬تغيرت‭ ‬بعض‭ ‬مظاهر‭ ‬حياتنا،‭ ‬لكننا‭ ‬لم‭ ‬نعرف‭ ‬بعد‭ ‬هذه‭ ‬الثورة‭ ‬الثقافية‭ ‬لذلك‭ ‬فإن‭ ‬عقليتنا‭ ‬لم‭ ‬تتغير،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬السبب‭ ‬الحقيقي‭ ‬لما‭ ‬نحن‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬تخلف‭. ‬

ومن‭ ‬الأهداف‭ ‬الرئيسية‭ ‬لهذه‭ ‬الثورة‭ ‬الثقافية‭ ‬عند‭ ‬صعب‭ ‬خلق‭ ‬الإنسان‭ ‬الحديث،‭ ‬ويحدد‭ ‬خصائصه‭ ‬في‭ ‬‮«‬الأهلية‭ ‬لتقبل‭ ‬الطرق‭ ‬والأفكار‭ ‬الجديدة،‭ ‬والاستعداد‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬الآراء،‭ ‬وحسن‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يوجه‭ ‬الإنسان‭ ‬المعاصر‭ ‬إلى‭ ‬الحاضر‭ ‬والمستقبل‭ ‬لا‭ ‬إلى‭ ‬الماضي،‭ ‬والالتزام‭ ‬بالدقة‭ ‬والاهتمام‭ ‬بالتخطيط‭ ‬والتنظيم‭ ‬والفعالية،‭ ‬والإيمان‭ ‬بالعلم‭ ‬والتكنولوجيا‭.‬

ويذكر‭ ‬حسن‭ ‬صعب‭ ‬العرب‭ ‬بأنهم‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يتباهون‭ ‬فيه‭ ‬بأنهم‭ ‬أدخلوا‭ ‬الروح‭ ‬العلمية‭ ‬والمنهجية‭ ‬الأوربية‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬منذ‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬عشر،‭ ‬فإن‭ ‬عليهم‭ ‬أن‭ ‬يدخلوا‭ ‬هذه‭ ‬الروح‭... ‬وأن‭ ‬يعتمدوا‭ ‬هذه‭ ‬المنهجية‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬في‭ ‬ديارهم،‭ ‬فالجهود‭ ‬العلمية‭ ‬العربية‭ ‬مكنت‭ ‬الغرب‭ ‬‮«‬‭... ‬من‭ ‬خلق‭ ‬العلم‭ ‬الحديث‭ ...‬‮»‬‭ ‬لكن‭ ‬على‭ ‬العرب‭ ‬الآن‭ ‬‮«‬‭... ‬أن‭ ‬يتقبلوا‭ ‬العلم‭ ‬الحديث‭ ‬وأن‭ ‬يصطنعوه‮»‬‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬مجالات‭ ‬الحياة‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬المجال‭ ‬الزراعي‭ ‬حتى‭ ‬المجال‭ ‬السياسي‭. ‬فهذه‭ ‬الروح‭ ‬هي‭ ‬روح‭ ‬التقدم‭ ‬الحقيقية،‭ ‬وهي‭ ‬روح‭ ‬الحضارة‭ ‬الحديثة،‭ ‬وهي‭ ‬الروح‭ ‬التي‭ ‬تصنع‭ ‬اليوم‭ ‬الصاروخ‭ ‬والمركبة‭ ‬الفضائية‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬صنعت‭ ‬بالأمس‭ ‬الطائرة‭ ‬والقنبلة‭ ‬النووية‭. ‬وهي‭ ‬الروح‭ ‬التي‭ ‬تفضي‭ ‬بالإنسان‭ ‬إلى‭ ‬المعرفة‭ ‬فالقدرة،‭ ‬وإلى‭ ‬العلم‭ ‬فالبحبوحة،‭ ‬وإلى‭ ‬الحرية‭ ‬فالنصر‭. ‬وهي‭ ‬الروح‭ ‬التي‭ ‬حلقت‭ ‬بالإنسان‭ ‬إلى‭ ‬القمر،‭ ‬والتي‭ ‬ستمكنه‭ ‬من‭ ‬اكتشاف‭ ‬سائر‭ ‬آيات‭ ‬الكون‭ ‬وروائعه‭.‬

ورغم‭ ‬أن‭ ‬د‭. ‬صعب‭ ‬سيتوسع‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬المعايير‭ ‬الاقتصادية‭ ‬للتقدم‭ ‬والتخلف،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬يعتبر‭ ‬المعيار‭ ‬المحوري‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬اعتمادنا‭ ‬معيارًا‭ ‬منهجيًا‭ ‬علميًا،‭ ‬فالإنسان‭ ‬المتقدم‭ ‬هو‭ ‬الإنسان‭ ‬العلمي‭ ‬التجريبي،‭ ‬والإنسان‭ ‬المتخلف‭ ‬هو‭ ‬الإنسان‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬العلمي‭ ‬وما‭ ‬قبل‭ ‬التجريبي،‭ ‬لذلك‭ ‬فإن‭ ‬طريق‭ ‬التحول‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬التخلف‭ ‬إلى‭ ‬التقدم‭ ‬هو‭ ‬التحول‭ ‬المنهجي‭ ‬من‭ ‬التجريد‭ ‬والتغييب‭ ‬إلى‭ ‬الملاحظة‭ ‬والتجريب‭. ‬

وبناء‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المعيار‭ ‬المنهجي‭ ‬العلمي‭ ‬يطالب‭ ‬د‭. ‬صعب‭ ‬العرب‭ ‬بأن‭ ‬يتيقنوا‭ ‬بأننا‭ ‬مطالبون‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬بتحقيق‭ ‬معجزة‭ ‬علمية‭ ‬جديدة‭ ‬تبرز‭ ‬معجزتنا‭ ‬العلمية‭ ‬الوسطوية،‭ ‬وتفوق‭ ‬المعجزة‭ ‬العلمية‭ ‬اليابانية‭ ‬الحديثة‭. ‬ولن‭ ‬نستطيع‭ ‬ذلك‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬استعدنا‭ ‬ثقتنا‭ ‬بأنفسنا‭ ‬وبالمعرفة‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وحركنا‭ ‬الطاقة‭ ‬الإبداعية‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬لدى‭ ‬الإنسان‭ ‬العربي،‭ ‬أي‭ ‬لدى‭ ‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬عربي‭. ‬

ويدرك‭ ‬حسن‭ ‬صعب‭ ‬أنه‭ ‬بعد‭ ‬قرن‭ ‬ونصف‭ ‬القرن‭ ‬مرت‭ ‬من‭ ‬تفاعل‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬مع‭ ‬العالم‭ ‬الحديث،‭  ‬أنه‭ ‬تغيرت‭ ‬بعض‭ ‬ظواهر‭ ‬حياتنا،‭ ‬لكننا‭ ‬لم‭ ‬نعرف‭ ‬بعد‭ ‬هذه‭ ‬الثورة‭ ‬الثقافية‭.  ‬لذلك‭ ‬فإن‭ ‬عقليتنا‭ ‬لم‭ ‬تتغير‭ ‬بعد‭. ‬وهذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬هي‭ ‬السبب‭ ‬الرئيسي‭ ‬فيما‭ ‬نحن‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬تخلف،‭ ‬فقد‭ ‬سبقتنا‭ ‬اليابان‭ ‬إلى‭ ‬التفاعل‭ ‬مع‭ ‬العالم‭ ‬الأوربي،‭ ‬فبدأنا‭ ‬اتصالنا‭ ‬بوجهه‭ ‬الحديث‭ ‬منذ‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬بينما‭ ‬بدأت‭ ‬اليابان‭ ‬هذا‭ ‬الاتصال‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬لكن‭ ‬اليابان‭ ‬تسبقنا‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬ميادين‭ ‬التقدم‭ ‬والتصنيع‭. ‬وكنا‭ ‬أسبق‭ ‬إلى‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬العالم‭ ‬الحديث‭ ‬من‭ ‬الصين،‭ ‬لكن‭ ‬الصين‭ ‬كانت‭ ‬أسبق‭ ‬منا‭ ‬إلى‭ ‬دخول‭ ‬العهد‭ ‬النووي‭.‬

ويفصل‭ ‬حسن‭ ‬صعب‭ ‬مجالات‭ ‬التحديث،‭ ‬بثلاث‭ ‬مجالات‭: ‬الأول‭ ‬التحديث‭ ‬القيمي،‭ ‬وينبه‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬العسير‭ ‬تناول‭ ‬الحديث‭ ‬القيمي‭ ‬وعلاقية‭ ‬التحديث‭ ‬الإنمائي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تناول‭ ‬التجديد‭ ‬الديني،‭ ‬ويتناول‭ ‬ثلاثة‭ ‬إمكانات‭ ‬إبداعية‭ ‬للفكر‭ ‬الإسلامي‭: ‬إمكان‭ ‬تجديد‭ ‬مفهومنا‭ ‬للقرآن،‭ ‬وإمكان‭ ‬تحول‭ ‬هذا‭ ‬التجديد‭ ‬الى‭ ‬اجتهاد‭ ‬جديد،‭ ‬والاجتهاد‭ ‬يعرف‭ ‬بأنه‭ ‬مبدأ‭ ‬الحركة‭ ‬في‭ ‬الإسلام،‭ ‬والمجال‭ ‬الثاني‭ ‬للتحديث‭ ‬هو‭ ‬التحديث‭ ‬القيادي‮»‬‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬يشرح‭ ‬كيفية‭ ‬انبثاق‭ ‬القيادة‭ ‬الريادية‭ ‬الانمائية،‭ ‬والبحث‭ ‬القيادي‭ ‬هو‭ ‬موضوع‭ ‬من‭ ‬موضوعات‭ ‬الإنماء‭ ‬السياسي‭. ‬والمجال‭ ‬الثالث‭ ‬في‭ ‬التحديث‭ ‬هو‭ ‬‮«‬التحديث‭ ‬التربوي‮»‬‭ ‬ودور‭ ‬التربية‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬الإنسان‭ ‬العربي‭ ‬الحديث،‭ ‬وينقل‭ ‬عن‭ ‬المفكر‭ ‬الفرنسي‭ ‬جان‭ ‬لاكروا‭ ‬أن‭ ‬التربية‭ ‬هي‭ ‬استثمار‭ ‬في‭ ‬الرأسمال‭ ‬الإنساني‭.‬‭ ‬والرأسمال‭ ‬الإنساني‭ ‬هو‭ ‬الثروة‭ ‬الوطنية‭ ‬الرئيسية‭... ‬ومردود‭ ‬التربية‭ ‬على‭ ‬الصعيدين‭ ‬الفردي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬هو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬معادل‭ ‬لمردود‭ ‬الرأسمال‭ ‬المادي‭. ‬ولربما‭ ‬ذهب‭ ‬الرأسمال‭ ‬المادي‭ ‬هدرًا‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يوجد‭ ‬أناس‭ ‬مدربون‭ ‬يحسنون‭ ‬التصرف‭ ‬به‭. ‬ولنضف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬القدرة‭ ‬الإبداعية‭ ‬أصبحت‭ ‬من‭ ‬الآن‭ ‬فصاعدًا‭ ‬أشد‭ ‬أهمية‭ ‬للنمو‭ ‬الاقتصادي‭ ‬من‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬‮«‬التكنيز‮»‬‭  ‬أو‭ ‬الادخار‭...  ‬لذلك‭ ‬فإن‭ ‬أفضل‭ ‬ما‭ ‬نفعله‭ ‬لصنع‭ ‬رجال‭ ‬الغد‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬نخلق‭ ‬أجيالًا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التثميرات‭ ‬الفكرية‭ ‬العامة‮»‬‭. ‬

ويواصل‭ ‬د‭. ‬صعب‭ ‬القول‭ ‬بأننا‭ ‬مدعوون‭ ‬إذًا‭ ‬لا‭ ‬لأن‭ ‬نتربى،‭ ‬لا‭ ‬لأن‭ ‬ننمو،‭ ‬لكي‭ ‬نستعيد‭ ‬منزلتنا‭ ‬الحضارية‭ ‬الريادية،‭ ‬بل‭ ‬لأن‭ ‬نتربى‭ ‬تربية‭ ‬إبداعية،‭ ‬ولأن‭ ‬ننموَ‭ ‬نموًا‭ ‬إبداعيًا،‭ ‬أي‭ ‬إن‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نجتاز‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬الهوّة‭ ‬بين‭ ‬الأمية‭ ‬والإبداع،‭ ‬الأمية‭ ‬الكمية،‭ ‬لأن‭ ‬أكثر‭ ‬أبناء‭ ‬شعبنا‭ ‬العربي‭ ‬لا‭ ‬يزالون‭ ‬أميين،‭ ‬والأمية‭ ‬النوعية،‭ ‬لأن‭ ‬أكثر‭ ‬الذين‭ ‬تعلموا‭ ‬لم‭ ‬يرَبوا‭ ‬تربية‭ ‬إبداعية،‭ ‬أو‭ ‬لم‭ ‬يتَح‭ ‬لهم‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يثمروا‭ ‬معرفتهم‭ ‬تثميرة‭ ‬إبداعية‭. ‬ولعلنا‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬تذكرنا‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬لا‭ ‬نعجب‭ ‬للنكبة‭ ‬الثالثة‭ ‬التي‭ ‬نزلت‭ ‬بنا‭ ‬في‭ ‬الخامس‭ ‬من‭ ‬يونيو‭ . ‬فالحرب‭ ‬سواء‭ ‬أحببناها‭ ‬أو‭ ‬كرهناها‭ ‬هي‭ ‬لحظة‭ ‬الحسم‭ ‬التي‭ ‬تكشف‭ ‬حقيقة‭ ‬الوجود‭ ‬الذاتي،‭ . ‬والحرب‭ ‬الحديثة‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬نظامية‭ ‬أو‭ ‬شعبية‭ ‬هي‭ ‬الذروة‭ ‬التدميرية‭ ‬للتنظيم‭ ‬العقلاني‭ ‬الحديث،‭ ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬للهزيمة‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬أسبابها‭ ‬الكثيرة‭ ‬البعيدة‭ ‬والقريبة،‭ ‬لكن‭ ‬سببها‭ ‬الرئيسي‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الذي‭ ‬نعيشه‭ ‬هو‭ ‬التخلف‭ ‬في‭ ‬معراج‭ ‬التنظيم‭. ‬وقد‭ ‬كنا‭ ‬في‭ ‬الخامس‭ ‬من‭ ‬يونيو‭ ‬كما‭ ‬نحن‭ ‬الآن،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬العدو‭ ‬عدة‭ ‬وجنودًا‭ ‬وموارد‭ ‬ومساحات،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬أحسن‭ ‬سياسة‭ ‬وقيادة‭ ‬وتنظيمًا‭ ‬وتواصلًا‭ ‬واستراتيجية‭ ‬وحركة‭ ‬وفداء،‭ ‬فانتصر‭ ‬التفوق‭ ‬التنظيمي‭ ‬النوعي‭ ‬على‭ ‬التفوق‭ ‬الكمي‭ ‬العشوائي،‭ ‬وكان‭ ‬تنظيم‭ ‬العدو‭ ‬محكمًا‭ ‬كل‭ ‬الأحكام،‭ ‬لكن‭ ‬إحكامه‭ ‬لم‭ ‬يقضِ‭ ‬على‭ ‬روح‭ ‬المبادرة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬أعلى‭ ‬القيادة‭ ‬وأدنى‭ ‬القاعدة‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬تنظيمنا‭ ‬في‭ ‬حالتي‭ ‬السلم‭ ‬والحرب‭ ‬يقضي‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الروح،‭ ‬لذلك،‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬فوجئنا‭ ‬بخطة‭ ‬استراتيجية‭ ‬غير‭ ‬متوقعة،‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬مباشرة‭ ‬كما‭ ‬يسميها‭ ‬الخبراء،‭ ‬حتى‭ ‬انهار‭ ‬البناء‭ ‬العسكري‭ ‬بين‭ ‬عشية‭ ‬وضحاها‭. ‬وكما‭ ‬ذكر‭ ‬المفكر‭ ‬الإيطالي‭ ‬إسحق‭ ‬دوتشر‭ ‬في‭ ‬مقالته‭ ‬الرائعة‭ ‬عن‭ ‬الحرب‭ ‬الإسرائيلية‭ - ‬العربية‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬الأزمنة‭ ‬الحديثة،‭ ‬فإن‭ ‬نكبتنا‭ ‬العسكرية‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لتبلغ‭ ‬ما‭ ‬بلغته‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬جيوشنا‭ ‬تربي‭ ‬في‭ ‬ضباطها‭ ‬وجنودها‭ ‬عادة‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬المبادرة‭ ‬الفردية‭. ‬ولو‭ ‬ربوا‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬التربية‭ ‬لاستطاعوا‭ ‬اتخاذ‭ ‬الاحتياطات‭ ‬الأولية‭ ‬دون‭ ‬انتظار‭ ‬نزول‭ ‬الأوامر‭ ‬من‭ ‬فوق‭.‬

ويعني‭ ‬حسن‭ ‬صعب‭ ‬بالتحديث‭ ‬الرابع،‭ ‬‮«‬التحديث‭ ‬الإعلامي‮»‬‭ ‬فعنده‭ ‬أن‭ ‬الإنماء‭ ‬كمفهوم‭ ‬شامل‭ ‬هو‭ ‬مسؤولية‭ ‬الإعلام‭.‬

 

ثالثًا‭: ‬تحديث‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭... ‬معالم‭ ‬على‭ ‬الطريق‭ ‬يواصل‭ ‬الدكتور‭ ‬معن‭ ‬زيادة‭ ‬في‭ ‬‮«‬معالم‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬تحديث‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‮»‬‭ ‬ما‭ ‬بدأه‭ ‬د‭. ‬حسن‭ ‬صعب‭ ‬من‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تحديث‭ ‬المواطن‭ ‬والمجتمع‭ ‬العربي‭ ‬شرط‭ ‬رئيس‭ ‬للتقدم‭ ‬والنهضة،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬يستعين‭ ‬تفصيلًا‭ ‬بالتجربة‭ ‬الأوربية‭ ‬وما‭ ‬شهدته‭ ‬منذ‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬جهود‭ ‬إصلاح‭ ‬وتحديث‭ ‬مؤسساتها‭ ‬خاصة‭ ‬الدينية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬استمر‭ ‬حتى‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر،‭ ‬وكان‭ ‬أساس‭ ‬انطلاقة‭ ‬المجتمعات‭ ‬الأوربية‭ ‬نحو‭ ‬التقدم،‭ ‬بحيث‭ ‬استطاعت‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قفزة‭ ‬ثقافية‭ ‬تحقيق‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الإنجازات‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الجهات،‭ ‬ومع‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬كانت‭ ‬ثقافة‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬قد‭ ‬تكاملت‭ ‬وتكامل‭ ‬معها‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬تسميته‭ ‬بالفكر‭ ‬الحديث‭ ‬أو‭ ‬العقل‭ ‬الحديث‭.  ‬وكان‭ ‬من‭ ‬مكونات‭ ‬هذا‭ ‬الفكر‭ ‬حركتان‭: ‬الحركة‭ ‬الإنسانية‭ ‬والحركة‭ ‬العقلانية،‭ ‬اللتان‭ ‬جاءتا‭ ‬بعد‭ ‬ما‭ ‬سمي‭ ‬بالثورة‭ ‬البروتستانتية‭ ‬التي‭ ‬وصفت‭ ‬التحول‭ ‬الفكري‭ ‬التي‭ ‬ظهرت‭ ‬بوادره‭ ‬مع‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر،‭ ‬وكانت‭ ‬الحركة‭ ‬الإنسانية‭ ‬هي‭ ‬المكوّن‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬مكونات‭ ‬العقل‭ ‬الحديث،‭ ‬فقد‭ ‬اشتركت‭ ‬مع‭ ‬البروتستانتية‭ ‬في‭ ‬ثورتها‭ ‬على‭ ‬الهيمنة‭ ‬الفكرية‭ ‬للعصور‭ ‬الوسطى،‭ ‬ومثّل‭ ‬هذه‭ ‬الثورة‭ ‬فنانون‭ ‬وفلاسفة‭ ‬وعلماء‭ ‬سياسيون،‭ ‬أما‭ ‬الحركة‭ ‬العقلانية،‭ ‬وهي‭ ‬المكوّن‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬مكونات‭ ‬الفكر‭ ‬الحديث،‭ ‬فقد‭ ‬أثبتت‭ ‬أنها‭ ‬أكثر‭ ‬فعالية‭ ‬وأشد‭ ‬تأثيرًا‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬هذا‭ ‬الفكر‭ ‬وتكوينه،‭ ‬فإذا‭ ‬كانت‭ ‬البروتستانتية‭ ‬الإنسانية‭ ‬قد‭ ‬ساهمت‭ ‬مساهمة‭ ‬فعالة‭ ‬في‭ ‬تقويض‭ ‬أركان‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى،‭ ‬فإن‭ ‬العقلانية‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬قدمت‭ ‬البديل‭. ‬

غير‭ ‬أن‭ ‬السؤال‭ ‬الرئيس‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬التحديث‭ ‬والمعاصرة‭ ‬ينصب‭ ‬على‭ ‬خصائص‭ ‬الإنسان‭ ‬العصري،‭ ‬وفي‭ ‬تفصيل‭ ‬معن‭ ‬زيادة‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬هذه‭ ‬الخصائص‭: ‬

ما‭ ‬أدرك‭ ‬رواد‭ ‬النهضة‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬العربية،‭ ‬الطهطاوي‭ ‬والتونسي‭ ‬والكواكبي،‭ ‬أهمية‭ ‬مقولة‭ ‬الحرية‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الحديث‭ ‬ودورها‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬غنى‭ ‬عنه،‭ ‬وأنها‭ ‬ملازمة‭ ‬للحداثة‭ ‬والتقدم‭ ‬والازدهار،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الاستبداد‭ ‬والطغيان‭ ‬ملازمان‭ ‬للتخلف،‭ ‬فرفاعة‭ ‬الطهطاوي‭ ‬يفرد‭ ‬فصولًا‭ ‬مطولة‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬تخليص‭ ‬الإبريز‭ ‬في‭ ‬تلخيص‭ ‬باريس‮»‬‭ ‬يتحدث‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬المؤسسات‭ ‬الدستورية‭ ‬والشعبية‭ ‬الضرورية‭ ‬اللازمة‭ ‬لممارسة‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬وعن‭ ‬الحرية‭ ‬وضروبها‭ ‬وأقسامها‭ ‬وأشكالها،‭ ‬ولا‭ ‬ينسى‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬حرية‭ ‬الرأي‭ ‬والمعتقد،‭ ‬فيفرد‭ ‬لهما‭ ‬الصفحات‭ ‬الطوال‭ ‬ويشير‭ ‬إلى‭ ‬دور‭ ‬الصحافة‭ ‬ووسائل‭ ‬الإعلام‭.‬

أما‭ ‬خير‭ ‬الدين‭ ‬التونسي،‭ ‬فإنه‭ ‬يتخذ‭ ‬من‭ ‬عبارة‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬الشهيرة‭ ‬‮«‬الظلم‭ ‬مؤذن‭ ‬بخراب‭ ‬العمران‮»‬‭ ‬مدخلًا‭ ‬مناسبًا‭ ‬يعرض‭ ‬فيه‭ ‬رأيه‭ ‬بأن‭ ‬أسباب‭ ‬العمران‭ ‬تتأسس‭ ‬على‭ ‬‮«‬دعامتي‭ ‬الحرية‭ ‬والعدل،‭ ‬وأن‭ ‬التقدم‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬والمعارف‭ ‬والصناعات‭ ‬وبالجملة‭ ‬تقدم‭ ‬المجتمع‭ ‬ككل‭ ‬ونهوضه‭ ‬إنما‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬هاتين‭ ‬الدعامتين‭ ‬الأساسيتين‮»‬‭ ‬وعندما‭ ‬يعرض‭ ‬خير‭ ‬الدين‭ ‬للعوامل‭ ‬التي‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬نهوض‭ ‬المجتمعات‭ ‬وسقوطها،‭ ‬أو‭ ‬تقدمها‭ ‬وتخلفها،‭ ‬فإنه‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬التقدم‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬العدل‭ ‬والمساواة‭ ‬والأمن‭ ‬والحرية،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الطغيان‭ ‬والظلم‭ ‬والاستبداد‭ ‬تلازم‭ ‬التخلف‭ ‬والتفكك‭ ‬والسقوط‭. ‬لقد‭ ‬أفرد‭ ‬خير‭ ‬الدين‭ ‬فصلًا‭ ‬خاصًا‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬كتابه‭ ‬أقوم‭ ‬المسالك‭ ‬في‭ ‬معرفة‭ ‬أحوال‭ ‬الممالك‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬مطلب‭ ‬عواقب‭ ‬الاستبداد‭ ‬والعمل‭ ‬بالرأي‭ ‬الواحد‮»‬‭ ‬واستشهد‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬عواقب‭ ‬الاستبداد‭ ‬بسوقه‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬لفرنسا‭ ‬من‭ ‬الهزيمة‭ ‬عندما‭ ‬استبد‭ ‬بقيادتها‭ ‬نابليون‭ ‬بونابرت‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬القلائل‭ ‬الذين‭ ‬جاد‭ ‬بهم‭ ‬الدهر‭.‬

 

علاقة‭ ‬ضرورية

أما‭ ‬الكواكبي‭ ‬فقد‭ ‬صاغ‭ ‬نظرية‭ ‬متكاملة‭ ‬في‭ ‬الاستبداد‭ ‬عرضها‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬طبائع‭ ‬الاستبداد‭ ‬شرح‭ ‬فيها‭ ‬العلاقة‭ ‬الضرورية‭ ‬بين‭ ‬الاستبداد‭ ‬والتخلف،‭ ‬وقدم‭ ‬فيها،‭ ‬ولو‭ ‬بطريقة‭ ‬غير‭ ‬مباشرة،‭ ‬دفاعه‭ ‬القوي‭ ‬عن‭ ‬الحرية‭ ‬وعن‭ ‬ملازمتها‭ ‬وضرورتها‭ ‬للمجتمع‭ ‬المزدهر‭ ‬والمتقدم‭.‬

ومن‭ ‬خصائص‭ ‬الإنسان‭ ‬العصري‭ ‬البارزة‭ ‬تلك‭ ‬الحالة‭ ‬العقلية‭ ‬أو‭ ‬ذلك‭ ‬الاستعداد‭ ‬النفسي‭ ‬لقبول‭ ‬التغيير‭ ‬والدخول‭ ‬في‭ ‬تجارب‭ ‬جديدة‭ ‬والانفتاح‭ ‬على‭ ‬الآخرين،‭ ‬أفرادًا‭ ‬ومجتمعات‭.  ‬في‭ ‬المقابل،‭ ‬من‭ ‬خصائص‭ ‬الإنسان‭ ‬التقليدي‭ ‬المحافظ‭ ‬عدم‭ ‬قبول‭ ‬الأفكار‭ ‬الجديدة،‭ ‬ورفض‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬تجارب‭ ‬ونشاطات‭ ‬قد‭ ‬تصل‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬نتائج‭ ‬مغايرة‭ ‬لما‭ ‬درج‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬الخاصة‭ ‬وحياته‭ ‬المجتمعية‭. ‬إنها‭ ‬تلك‭ ‬الحالة‭ ‬العقلية‭ ‬أو‭ ‬النفسية،‭ ‬أو‭ ‬ذلك‭ ‬الاستعداد‭ ‬الداخلي‭ ‬للانفتاح‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬أننا‭ ‬نعيش‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬متطور‭ ‬متجدد‭ ‬باستمرار،‭ ‬وأن‭ ‬عالمنا‭ ‬ليس‭ ‬منتاتيكيًا‭ ‬ثابتًا‭ ‬يمكن‭ ‬إدراج‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬بمقولات‭ ‬محددة،‭ ‬كما‭ ‬فعلت‭ ‬فلسفة‭ ‬أرسطو‭ ‬مثلًا‭ ‬عندما‭ ‬قسمت‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬إلى‭ ‬عشر‭ ‬مقولات‭ ‬لا‭ ‬يشذ‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬الوجود‭ ‬عنها‭.‬

ويرتبط‭ ‬بهذه‭ ‬الحالة‭ ‬العقلية‭ ‬اهتمام‭ ‬الإنسان‭ ‬بجميع‭ ‬الأحداث‭ ‬والتطورات‭ ‬التي‭ ‬تطرأ‭ ‬على‭ ‬مجتمعه‭ ‬وعلى‭ ‬العالم‭ ‬بأسره‭ ‬واتخاذه‭ ‬مواقف‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأحداث‭ ‬والتطورات،‭ ‬وعدم‭ ‬انغلاقه‭ ‬على‭ ‬مجتمعه‭ ‬الصغير،‭ ‬قبيلة‭ ‬كانت‭ ‬أم‭ ‬عشيرة‭ ‬أم‭ ‬قرية‭ ‬أم‭ ‬طائفة،‭ ‬أم‭ ‬قطرًا‭ ‬من‭ ‬الأقطار،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬معايير‭ ‬العصرية‭ ‬والحداثة‭ ‬أن‭ ‬يدرك‭ ‬الإنسان‭ ‬أن‭ ‬عالمنا‭ ‬هو‭ ‬عالم‭ ‬واحد،‭ ‬وأن‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬أجزائه‭ ‬يهم‭ ‬الجزء‭ ‬الآخر‭. ‬

والصفة‭ ‬الثانية‭ ‬من‭ ‬صفات‭ ‬التفكير‭ ‬العلمي‭ ‬التي‭ ‬تهمنا‭ ‬هنا‭ ‬هي‭ ‬نزع‭ ‬صفة‭ ‬القداسة‭ ‬عن‭ ‬الظواهر‭ ‬الطبيعية‭ ‬والأشياء‭ ‬والأشخاص،‭ ‬والتي‭ ‬درج‭ ‬التفكير‭ ‬البدائي‭ ‬عليها‭.‬

والصفة‭ ‬الثالثة‭ ‬من‭ ‬صفات‭ ‬التفكير‭ ‬العلمي،‭ ‬الذي‭ ‬نعتبره‭ ‬من‭ ‬خصائص‭ ‬الإنسان‭ ‬العصري‭ ‬المحدث،‭ ‬والتي‭ ‬تترتب‭ ‬على‭ ‬الصفتين‭ ‬السابقتين‭ ‬وترتبط‭ ‬بهما‭ ‬هي‭: ‬أن‭ ‬عالمنا‭ ‬هو‭ ‬عالم‭ ‬معقول،‭ ‬تسوده‭ ‬قوانين‭ ‬مكتشفة‭ ‬أو‭ ‬هي‭ ‬قيد‭ ‬الاكتشاف،‭ ‬أو‭ ‬لنقل‭ ‬تسوده‭ ‬علاقات‭ ‬منظمة‭ ‬كما‭ ‬تؤكد‭ ‬الخبرة‭ ‬والتجربة‭ ‬والشواهد‭ ‬واطراد‭ ‬وقوع‭ ‬الأحداث‭. ‬وعندما‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬عالمنا‭ ‬عالم‭ ‬معقول‭ ‬لا‭ ‬نعني‭ ‬بذلك‭ ‬أن‭ ‬العقل‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يقرر‭ ‬ذلك‭ ‬بحكم‭ ‬منطقه‭ ‬الداخلي،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬عالم‭ ‬معقول‭ ‬بحكم‭ ‬العلاقات‭ ‬المنظمة‭ ‬التي‭ ‬تحكم‭ ‬ظواهره‭. ‬ونحن‭ ‬نستخرج‭ ‬هذه‭ ‬العلاقات‭ ‬من‭ ‬التجربة‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬الضرورة‭ ‬المنطقية‭. ‬فمن‭ ‬الناحية‭ ‬المنطقية‭ ‬الصرفة،‭ ‬نقيض‭ ‬أي‭ ‬قانون‭ ‬علمي‭ ‬هو‭ ‬ممكن‭ ‬عقلًا،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬التجربة‭ ‬تؤكد‭ ‬اطراد‭ ‬الأحداث‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬واحد،‭ ‬ووفق‭ ‬علاقة‭ ‬منظمة‭ ‬دون‭ ‬حدوث‭ ‬خلل‭ ‬ولو‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬يبرر‭ ‬سقوط‭ ‬القانون‭ ‬العلمي‭.‬

 

قنوات‭ ‬التحديث

إذا‭ ‬كان‭ ‬معن‭ ‬زيادة‭ ‬يكتفي‭ ‬بهذا‭ ‬القدر‭ ‬من‭ ‬الحديث‭ ‬عما‭ ‬أسماه‭ ‬خصائص‭ ‬الإنسان‭ ‬العصري‭ ‬المحدث،‭ ‬فإنه‭ ‬يجد‭ ‬من‭ ‬المهم‭ ‬بمكان‭ ‬أن‭ ‬نلقي‭ ‬نظرة‭ ‬على‭ ‬العوامل‭ ‬الفعالة‭ ‬التي‭ ‬تسهم‭ ‬في‭ ‬انتشار‭ ‬هذه‭ ‬المواقف،‭ ‬والقيم‭ ‬وأنماط‭ ‬السلوك‭ ‬التي‭ ‬يراها‭ ‬أساسية‭ ‬للإنسان‭ ‬والمجتمع‭ ‬المعاصرين‭. ‬

ضمن‭ ‬شبكة‭ ‬العوامل‭ ‬والدوافع‭ ‬وجملة‭ ‬المؤثرات،‭ ‬فإن‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬يتبادر‭ ‬إلى‭ ‬الذهن‭ ‬هو‭ ‬التعليم،‭ ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬أكثر‭ ‬الدراسات‭ ‬الجدية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الميدان‭ ‬تبين‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬علاقة‭ ‬مباشرة‭ ‬بين‭ ‬درجة‭ ‬التعليم‭ ‬الذي‭ ‬يتلقاه‭ ‬فرد‭ ‬من‭ ‬الأفراد‭ ‬ومقدار‭ ‬استعداده‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬الفكر‭ ‬التقليدي‭ ‬والدخول‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬الحديث،‭ ‬طبعًا‭ ‬فإن‭ ‬التعليم‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬أكثر‭ ‬الوسائل‭ ‬فعالية‭ ‬وأسرعها‭ ‬في‭ ‬التحول‭ ‬الثقافي‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يحدث‭ ‬للفرد‭ ‬أو‭ ‬المجتمع‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء،‭ ‬خصوصًا‭ ‬عندما‭ ‬تكون‭ ‬مناهج‭ ‬التعليم‭ ‬الحديثة‭ ‬متطورة‭ ‬تفتح‭ ‬الأذهان‭ ‬وتشحذ‭ ‬الأفئدة‭.‬

لقد‭ ‬أدرك‭ ‬رواد‭ ‬النهضة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬المنصرم‭ ‬أهمية‭ ‬التعليم‭ ‬المدرسي‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬التحول‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬فاهتم‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬رفاعة‭ ‬الطهطاوي‭ ‬وعلي‭ ‬مبارك‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬بتطوير‭ ‬التعليم‭ ‬والإشراف‭ ‬عليه‭ ‬وتحديث‭ ‬المناهج،‭ ‬ورسم‭ ‬الطهطاوي‭ ‬معالم‭ ‬مناهج‭ ‬تعليمية‭ ‬محدثة‭ ‬في‭ ‬كتابيه‭ ‬الشهيرين‭ ‬مناهج‭ ‬الألباب‭ ‬المصرية‭ ‬في‭ ‬مباهج‭ ‬الآداب‭ ‬العصرية‭ ‬والمرشد‭ ‬الأمين‭ ‬في‭ ‬تربية‭ ‬البنات‭ ‬والبنين،‭ ‬وأكمل‭ ‬ذلك‭ ‬عبر‭ ‬المجلة‭ ‬التربوية‭ ‬المسماة‭ ‬روضة‭ ‬المدارس‭. ‬وهذا‭ ‬يتضح‭ ‬من‭ ‬عناوين‭ ‬كتب‭ ‬الطهطاوي‭ ‬التي‭ ‬ذكرناها‭ ‬وكتبه‭ ‬الأخرى‭ ‬ومن‭ ‬مضامين‭ ‬هذه‭ ‬الكتب‭ ‬وموضوعاتها‭.‬

ومن‭ ‬العوامل‭ ‬الفاعلة‭ ‬عند‭ ‬زيادة‭ ‬في‭ ‬الانتقال‭ ‬إلى‭ ‬الحداثة،‭ ‬المؤسسات‭ ‬الوطنية‭ ‬على‭ ‬أنواعها‭ ‬من‭ ‬جمعيات‭ ‬ونقابات‭ ‬وأحزاب‭ ‬وجيوش‭ ‬وأمثالها‭. ‬ويأتي‭ ‬في‭ ‬طليعة‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬المؤسسة‭ ‬العسكرية‭ ‬الوطنية‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تلعب‭ ‬دورًا‭ ‬حاسمًا‭ ‬في‭ ‬التحول‭ ‬الاجتماعي‭. ‬ولا‭ ‬تلعب‭ ‬المؤسسة‭ ‬العسكرية‭ ‬هذا‭ ‬الدور‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التنظيم‭ ‬والدقة‭ ‬في‭ ‬المواعيد‭ ‬والتدريبات‭ ‬والمهارات‭ ‬التي‭ ‬يتعلمها‭ ‬الجنود،‭ ‬والتخطيط‭ ‬للعمليات‭ ‬العسكرية‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬حقيقة‭ ‬أساسية‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬الجيش‭ ‬الحديث‭ ‬لا‭ ‬يقوم‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬قيام‭ ‬المجتمع‭ ‬الحديث،‭ ‬وفي‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الحالات‭ ‬كانت‭ ‬الرغبة‭ ‬العارمة‭ ‬في‭ ‬امتلاك‭ ‬جيش‭ ‬حديث‭ ‬العدة‭ ‬والعتاد‭ ‬أقصر‭ ‬الطرق‭ ‬للدخول‭ ‬في‭ ‬الحداثة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬كاد‭ ‬يحصل‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬إبان‭ ‬عهدي‭ ‬السلطان‭ ‬سليم‭ ‬الثالث‭ ‬وابنه‭ ‬السلطان‭ ‬محمود‭ ‬الثاني،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬بالفعل‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬أيام‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬باشا‭ ‬الكبير،‭ ‬وإلى‭ ‬حد‭ ‬نسبي‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬أيام‭ ‬الباي‭ ‬محمد‭ ‬الصادق،‭ ‬والوزير‭ ‬الأول‭ ‬خير‭ ‬الدين‭ ‬التونسي‭.‬

أما‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬التربية‭ ‬والتعليم‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬هم‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬الأول‭ ‬هو‭ ‬العلوم‭ ‬العسكرية،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬اكتشف‭ ‬العلاقة‭ ‬العضوية‭ ‬بين‭ ‬التربية‭ ‬والتعليم‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬والعلوم‭ ‬اللازمة‭ ‬لقيام‭ ‬جيش‭ ‬حديث‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭.  ‬جعل‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬الكلمة‭ ‬الأولى‭ ‬للدولة‭ ‬في‭ ‬أمور‭ ‬التعليم‭ ‬والثقافة‭ ‬عمومًا،‭ ‬حيث‭ ‬نظم‭ ‬المدارس‭ ‬واستقدم‭ ‬لها‭ ‬مدرسين‭ ‬أجانب‭ ‬أول‭ ‬الأمر،‭ ‬وتبنى‭ ‬الترجمة‭ ‬من‭ ‬اللغات‭ ‬الأوربية‭ ‬إلى‭ ‬العربية،‭ ‬وأرسل‭ ‬البعثات‭ ‬إلى‭ ‬الخارج،‭ ‬ووسع‭ ‬دائرة‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الأدوات‭ ‬الثقافية‭ ‬من‭ ‬مطابع‭ ‬وكتب‭ ‬ومجلات‭ ‬وأرشيف‭ ‬وغير‭ ‬ذلك،‭ ‬وهيأ‭ ‬الظروف‭ ‬لانتشار‭ ‬الأفكار‭ ‬الجديدة،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬وضع‭ ‬مصر‭ ‬ومن‭ ‬ورائها‭ ‬العرب‭ ‬جميعًا‭ ‬على‭ ‬عتبة‭ ‬أبواب‭ ‬التحديث‭ ‬المشرعة‭.‬

وفي‭ ‬تونس‭ ‬سارت‭ ‬تجربة‭ ‬التحديث‭ ‬بمحاذاة‭ ‬التجربة‭ ‬المصرية،‭ ‬فقد‭ ‬بدأت‭ ‬الإرهاصات‭ ‬التحديثية‭ ‬الأولى‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الباي‭ ‬حمودة‭ ‬باشا‭ ‬وخلفه‭ ‬الباي‭ ‬محمود‭ ‬في‭ ‬الربع‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬وتركّزت‭ ‬في‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬جيش‭ ‬المرتزقة‭ ‬واستبداله‭ ‬بجيش‭ ‬حديث‭ ‬على‭ ‬النمط‭ ‬الأوربي‭. ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬مسيرة‭ ‬الإصلاح‭ ‬والنهوض‭ ‬بالمعنى‭ ‬الحديث‭ ‬للكلمة‭ ‬لم‭ ‬تبدأ‭ ‬إلا‭ ‬مع‭ ‬تجربة‭ ‬الباي‭ ‬أحمد‭ ‬والوزير‭ ‬خير‭ ‬الدين‭ ‬التونسي،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬أحمد‭ ‬معجبًا‭ ‬ومتأثرًا‭ ‬بتجربة‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬وقد‭ ‬بدأ‭ ‬عهده‭ ‬بإصلاح‭ ‬الجيش‭ ‬وبنائه‭ ‬على‭ ‬نمط‭ ‬جيش‭ ‬نابليون‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬الباي‭ ‬أحمد‭ ‬يكن‭ ‬له‭ ‬الاحترام‭ ‬الشديد،‭ ‬وقد‭ ‬أمر‭ ‬بترجمة‭ ‬التاريخ‭ ‬الفرنسي‭ ‬لاسيما‭ ‬تاريخ‭ ‬نابليون‭ ‬إلى‭ ‬العربية‭. ‬وقد‭ ‬ربط‭ ‬الباي‭ ‬أحمد‭ ‬تحديث‭ ‬التعليم‭ ‬والصناعة‭ ‬بتحديث‭ ‬الجيش،‭ ‬فكانت‭ ‬خطوته‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬تحديث‭ ‬الجيش‭ ‬تأسيسه‭ ‬كلية‭ ‬الهندسة‭ ‬أو‭ ‬مدرسة‭ ‬البولتيكنيك‭ ‬Ecole‭ ‬Polytecnique‭ ‬سنة‭ ‬1838،‭ ‬والتي‭ ‬استقدم‭ ‬لها‭ ‬بعض‭ ‬الخبراء‭ ‬الأجانب‭ ‬وأراد‭ ‬منها‭ ‬إعداد‭ ‬ضباط‭ ‬جيشه‭ ‬إعدادًا‭ ‬حديثًا‭ ‬على‭ ‬النمط‭ ‬الفرنسي‭ ‬بشكل‭ ‬خاص،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬أكثر‭ ‬المدرسين‭ ‬من‭ ‬الفرنسيين‭. ‬وقد‭ ‬تابع‭ ‬أحمد‭ ‬خطواته‭ ‬مقتفيًا‭ ‬آثار‭ ‬محمد‭ ‬علي،‭ ‬فاهتم‭ ‬بالتصنيع‭ ‬لإمداد‭ ‬الجيش‭ ‬بالأسلحة‭ ‬والمعدات‭ ‬اللازمة‭ ‬له،‭ ‬مدركًا‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬النفس‭ ‬في‭ ‬إمداد‭ ‬الجيش‭ ‬بما‭ ‬يلزمه‭ ‬من‭ ‬الأعتدة‭ ‬والذخيرة‭.‬

وقد‭ ‬نجحت‭ ‬سياسة‭ ‬التصنيع‭ ‬التي‭ ‬اعتمدها‭ ‬الباي‭ ‬أحمد،‭ ‬فشهدت‭ ‬تونس‭ ‬في‭ ‬عهده‭ ‬تأسيس‭ ‬مصانع‭ ‬متنوعة‭ ‬للأسلحة‭ ‬والذخيرة‭ ‬والنسيج‭ ‬والجلود‭ ‬وغيرها‭. ‬وقد‭ ‬أثمرت‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ذلك‭ ‬جهوده‭ ‬التعليمية،‭ ‬ويكفي‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬نذكر‭ ‬أن‭ ‬المصلح‭ ‬الشهير‭ ‬خير‭ ‬الدين‭ ‬باشا‭ ‬الذي‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬تحديث‭ ‬تونس‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬السابقة‭ ‬على‭ ‬الاستعمار‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬عداد‭ ‬الأجيال‭ ‬التي‭ ‬أعدتها‭ ‬سياسة‭ ‬الباي‭ ‬التربوية،‭ ‬فقد‭ ‬تخرج‭ ‬خيرالدين‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬البوليتكنيك،‭ ‬واحتك‭ ‬بأساتذتها‭ ‬وتأثر‭ ‬بهم‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتاح‭ ‬له‭ ‬فرصة‭ ‬السفر‭ ‬إلى‭ ‬فرنسا‭ ‬وأوربا‭ ‬مما‭ ‬أتاح‭ ‬له‭ ‬تجربة‭ ‬نادرة‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬ثمارها‭ ‬وضع‭ ‬كتابه‭ ‬الخطير‭ ‬‮«‬أقوم‭ ‬المسالك‭ ‬في‭ ‬معرفة‭ ‬أحوال‭ ‬الممالك‮»‬‭.‬

وباختصار‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬مسيرة‭ ‬التحديث‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬سارت‭ ‬على‭ ‬نفس‭ ‬طريق‭ ‬تجربة‭ ‬التحديث‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬بدءا‭ ‬بالمؤسسة‭ ‬العسكرية‭ ‬التي‭ ‬اقتضى‭ ‬تحديثها‭ ‬تحديث‭ ‬التعليم‭ ‬والصناعة‭ ‬والاقتصاد‭ ‬عمومًا‭. ‬

لذا‭ ‬لاشك‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬النظرة‭ ‬إلى‭ ‬التطور‭ ‬والتقدم‭ ‬وإلى‭ ‬المسيرة‭ ‬الحضارية‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬ساعدت‭ ‬الطهطاوي‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬مكانًا‭ ‬في‭ ‬عقله‭ ‬وقلبه‭ ‬أيضًا‭ ‬لعلم‭ ‬الغرب‭ ‬وثقافته‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ثقافته‭ ‬الأصلية،‭ ‬فالإنسان‭ ‬لم‭ ‬يبدأ‭ ‬مسيرته‭ ‬فوق‭ ‬كوكبنا‭ ‬الأرضي‭ ‬عالمًا،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬معرفته‭ ‬الأولية‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬المشاعر‭ ‬و«الأمور‭ ‬الوجدانية‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬تدرج‭ ‬خطوة‭ ‬بعد‭ ‬خطوة،‭ ‬وتقدم‭ ‬مرتبة‭ ‬بعد‭ ‬أخرى،‭ ‬وسبقت‭ ‬بعض‭ ‬الشعوب‭ ‬غيرها‭ ‬تارة،‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬البلاد‭ ‬الإفرنجية‭ ‬قد‭ ‬بلغت‭ ‬مراتب‭ ‬البراعة‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬الرياضية‭ ‬والطبيعية‭ ‬وما‭ ‬وراء‭ ‬الطبيعة‭ ‬أصولها‭ ‬وفروعها‮»‬‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬الغربيون‭ ‬قد‭ ‬أحرزوا‭ ‬قصب‭ ‬السبق‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬الميادين‭ ‬تقريبًا‭ ‬في‭ ‬أيامنا‭ ‬هذه،‭ ‬فإنه‭ ‬علينا‭ ‬الآن‭ ‬أن‭ ‬نحذو‭ ‬حذوهم،‭ ‬وعلى‭ ‬شعوبنا‭ ‬أن‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬كسب‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬تعرفه‭ ‬وجلب‭ ‬ما‭ ‬تجهله‮»‬‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تردد‭ ‬وقبل‭ ‬فوات‭ ‬الأوان‭.‬

 

العلم‭ ‬أولًا

وإذا‭ ‬كانت‭ ‬نظرة‭ ‬الطهطاوي‭ ‬إلى‭ ‬وحدة‭ ‬المعرفة‭ ‬البشرية‭ ‬ووحدة‭ ‬الحضارة‭ ‬الإنسانية‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬ساعدته‭ ‬على‭ ‬ألا‭ ‬يجد‭ ‬أي‭ ‬حرج‭ ‬في‭ ‬أخذ‭ ‬الشرق‭ ‬عن‭ ‬الغرب‭ ‬فإن‭ ‬شعوره‭ ‬بتقدم‭ ‬الغرب‭ ‬ورفضه‭ ‬استمرار‭ ‬تخلف‭ ‬الشرق،‭ ‬ومعرفته‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬رفع‭ ‬الغرب‭ ‬إلى‭ ‬مرتبة‭ ‬التقدم،‭ ‬وما‭ ‬نزل‭ ‬بالشرق‭ ‬إلى‭ ‬مرتبة‭ ‬التخلف،‭ ‬إنما‭ ‬هو‭ ‬العلم‭ ‬أولًا،‭ ‬واتساع‭ ‬دائرة‭ ‬المعرفة‭ ‬ثانيًا،‭ ‬والسبق‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬الحضارة‭ ‬ثالثًا،‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬دفعه‭ ‬إلى‭ ‬الحض‭ ‬على‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬البرانية‭ ‬والفنون‭ ‬والصنائع‭. ‬إن‭ ‬كمال‭ ‬ذلك‭ ‬ببلاد‭ ‬الإفرنج‭ ‬أمر‭ ‬ثابت‭ ‬شائع،‭ ‬والحق‭ ‬أحق‭ ‬أن‭ ‬يتبعه‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬جاء‭ ‬من‭ ‬أوربا‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تدين‭ ‬بشرعة‭ ‬الإسلام‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬همّ‭ ‬الطهطاوي‭ ‬ألا‭ ‬تظل‭ ‬أمم‭ ‬الشرق‭ ‬راكنة‭ ‬إلى‭ ‬جهلها‭ ‬وتخلفها،‭ ‬وأن‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬الاغتراف‭ ‬من‭ ‬العلم‭ ‬وتوسيع‭ ‬دائرة‭ ‬معرفتها،‭ ‬وأن‭ ‬تتقدم‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬الحضارة‭.‬

لقد‭ ‬استوى‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب‭ ‬في‭ ‬عقل‭ ‬الطهطاوي‭ ‬وقلبه،‭ ‬‮«‬فاستطاع‭ ‬أن‭ ‬يوائم‭ ‬عقيدته‭ ‬وتقاليده‭ ‬الصالحة‭ ‬وعلم‭ ‬الغرب‭ ‬وما‭ ‬حسن‭ ‬من‭ ‬تقاليده‮»‬،‭ ‬أضف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يغب‭ ‬عنه‭ ‬ما‭ ‬صارت‭ ‬إليه‭ ‬بلاده‭ ‬من‭ ‬تأخر،‭ ‬فيرد‭ ‬العلة‭ ‬إلى‭ ‬الجهل‭ ‬وفساد‭ ‬العادة،‭ ‬ويقرنها‭ ‬بما‭ ‬صار‭ ‬إليه‭ ‬الفرنسيون‭ ‬من‭ ‬تقدم‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬والفنون،‭ ‬وفي‭ ‬محاسن‭ ‬العادات‭ ‬كالنظافة‭ ‬والصدق‭ ‬ووفاء‭ ‬الوعد‭ ‬ومحبة‭ ‬الغرباء‭. ‬

إلا‭ ‬أنه‭ ‬وفي‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬البعض‭ ‬يركز‭ ‬على‭ ‬القيم‭ ‬الفردية‭ ‬الغربية‭ ‬والأخلاقية‭ ‬والدينية‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬تعليله‭ ‬لظهور‭ ‬الحداثة‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬فإن‭ ‬البعض‭ ‬الآخر‭ ‬يركز‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬خصائص‭ ‬البنى‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬عرفها‭ ‬الغرب‭ ‬في‭ ‬تعليله‭ ‬لظهور‭ ‬هذه‭ ‬الحداثة‭. ‬وقد‭ ‬يجمع‭ ‬البعض‭ ‬بين‭ ‬القيم‭ ‬الأخلاقية‭ ‬والدينية‭ ‬وخصائص‭ ‬المدينة‭ ‬الأوربية،‭ ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬ماكس‭ ‬فيبر‭ ‬Max‭ ‬Weber‭ ‬الذي‭ ‬يذكر‭ ‬قيمة‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬الأخلاق‭ ‬البروتستانتية‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬تعداده‭ ‬خصائص‭ ‬المدنية‭ ‬الأوربية‭ ‬لاسيما‭ ‬دور‭ ‬الحرفيين‭ ‬والتجار‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬الأوربية‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى‭.‬

 

معالم‭ ‬المجتمع‭ ‬الحديث

يخلص‭ ‬معن‭ ‬زيادة‭ ‬إلى‭ ‬بلورة‭ ‬ما‭ ‬يراه‭ ‬عن‭ ‬معالم‭ ‬المجتمع‭ ‬الحديث‭ ‬ومكوناته‭: ‬

أول‭ ‬ما‭ ‬يعرض‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬نطاق‭ ‬تحديد‭ ‬معالم‭ ‬المجتمع‭ ‬الحديث‭ ‬هو‭ ‬العلم‭ ‬والتكنولوجيا‭ ‬باعتبارهما‭ ‬يشكلان‭ ‬العامل‭ ‬الأساسي‭ ‬المحدد‭ ‬لهذا‭ ‬المجتمع،‭ ‬إنها‭ ‬العنصر‭ ‬الفاعل‭ ‬الأول‭. ‬والعلم‭ ‬هنا‭ ‬ليس‭ ‬أي‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬ضروب‭ ‬المعرفة‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬تلك‭ ‬المعرفة‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬التجربة‭ ‬الحسية‭ ‬وعلى‭ ‬الوقائع‭ ‬المادية‭ ‬الملموسة‭. ‬والعلم‭ ‬بهذا‭ ‬المعنى‭ ‬هو‭ ‬غير‭ ‬تلك‭ ‬المعرفة‭ ‬الحدسية‭ ‬أو‭ ‬الفلسفية،‭ ‬وغير‭ ‬المواقف‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬والدينية‭ ‬التي‭ ‬قوامها‭ ‬الإيمان‭ ‬لا‭ ‬العلم‭ ‬بالمعنى‭ ‬الضيق‭. ‬وهذا‭ ‬العلم‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬العامل‭ ‬الأساسي‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬التغيير‭ ‬الاجتماعي‭ ‬المتواصلة،‭ ‬فمنهجية‭ ‬عملية‭ ‬التغيير‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬منهجية‭ ‬العلم،‭ ‬فإذا‭ ‬كانت‭ ‬منهجية‭ ‬العلم‭ ‬هي‭ ‬وضع‭ ‬فرضيات‭ ‬مؤقتة‭ ‬قابلة‭ ‬للتغيير‭ ‬وفق‭ ‬قواعد‭ ‬معينة،‭ ‬فإن‭ ‬ما‭ ‬يترتب‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المنهجية‭ ‬العلمية‭ ‬من‭ ‬تغيير‭ ‬دائم‭ ‬ونتائج‭ ‬متجددة‭ ‬ينعكس‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬بأسرها‭. ‬يضاف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الحركة‭ ‬العلمية‭ ‬تفرض‭ ‬مناخًا‭ ‬من‭ ‬الحرية‭ ‬لا‭ ‬تقوم‭ ‬للعلم‭ ‬قائمة‭ ‬من‭ ‬دونه‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬التدخل‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬العلم‭ ‬وفي‭ ‬نتائجه‭ ‬يعني‭ ‬ضرب‭ ‬تلك‭ ‬المسيرة‭ ‬وتعطيلها‭. ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬العلم‭ ‬والتغيير‭ ‬الدائم‭ ‬أو‭ ‬التطور‭ ‬صنوين،‭ ‬فإن‭ ‬العلم‭ ‬والحرية‭ ‬صنوان‭ ‬أيضًا،‭ ‬وقد‭ ‬أكدت‭ ‬أحداث‭ ‬التاريخ‭ ‬ذلك‭. ‬

والتكنولوجيا‭ ‬كالعلم‭ ‬عامل‭ ‬حاسم‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬صورة‭ ‬المجتمع‭ ‬الحديث،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬العلم‭ ‬يفرض‭ ‬نتائجه‭ ‬على‭ ‬الفرد‭ ‬والمجتمع،‭ ‬حتى‭ ‬بات‭ ‬الفرد‭ ‬والمجتمع‭ ‬في‭ ‬صيرورة‭ ‬دائمة‭ ‬بسبب‭ ‬نتائج‭ ‬العلم‭ ‬المتطورة،‭ ‬فإن‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬تفرض‭ ‬ظلها‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬المحدد‭ ‬نمط‭ ‬حياته‭ ‬ونظاماه‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والاقتصادي،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬ترسم‭ ‬معالم‭ ‬ثقافة‭ ‬الإنسان،‭ ‬

فقد‭ ‬أدى‭ ‬تراكم‭ ‬المعرفة‭ ‬العلمية‭ ‬والمنجزات‭ ‬التكنولوجية‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالحركة‭ ‬العلمية،‭ ‬إلى‭ ‬دخول‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬حياتها‭ ‬بدأت‭ ‬بتلك‭ ‬الحركة‭ ‬الهائلة‭ ‬المعروفة‭ ‬بالنهضة‭ ‬الأوربية‭ ‬ومازالت‭ ‬مستمرة‭. ‬وقد‭ ‬انعكست‭ ‬نتائج‭ ‬العلم‭ ‬والتكنولوجيا‭ ‬على‭ ‬المجتمعات‭ ‬الحديثة‭ ‬وأسهمت‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬أنماط‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬النظم‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والسياسية‭. ‬

 

الخلاصـــــة

هكذا‭ ‬يشترك‭ ‬المفكرون‭ ‬الثلاثة‭ ‬في‭ ‬تشخيص‭ ‬الحالة‭ ‬العقلية‭ ‬والثقافية‭ ‬للعالم‭ ‬العربي،‭ ‬ويربطون‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬ما‭ ‬يعانيه‭ ‬من‭ ‬تخلف،‭ ‬ويحددون‭ ‬معالم‭ ‬الطريق‭ ‬نحو‭ ‬النهضة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬منهجية‭ ‬التفكير‭ ‬وأدواته‭ ‬من‭ ‬تعليم‭ ‬حديث‭ ‬وتربية‭ ‬تبني‭ ‬الإنسان‭ ‬والعقل‭ ‬الحديث،‭ ‬وما‭ ‬يتطلبه‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬حرية‭ ‬الرأي‭ ‬والتفكير‭ ‬وإطلاق‭ ‬الطاقات‭ ‬الإبداعية،‭ ‬والأخذ‭ ‬بالعلم‭ ‬وتطبيقاته‭ ‬والتكنولوجيا،‭ ‬وينتهون‭ ‬إلى‭ ‬أهمية‭ ‬مراجعة‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬التراث‭ ‬العربي‭ ‬والعالم‭ ‬المعاصر‭. ‬ويشترك‭ ‬المفكرون‭ ‬الثلاثة‭ ‬في‭ ‬التذكير‭ ‬بالنهضة‭ ‬الأوربية‭ ‬وما‭ ‬شهدته‭ ‬منذ‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬جهود‭ ‬إصلاح‭ ‬وتحديث‭ ‬مؤسساتها‭ ‬وبخاصة‭ ‬الدينية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬استمر‭ ‬حتى‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬وكان‭ ‬أساس‭ ‬انطلاقة‭ ‬المجتمعات‭ ‬الأوربية‭ ‬نحو‭ ‬التقدم،‭ ‬كما‭ ‬يذكّرون‭ ‬بروّاد‭ ‬النهضة‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭: ‬رفاعة‭ ‬الطهطاوي،‭ ‬وخير‭ ‬الدين‭ ‬التونسي‭ ‬والكواكبي،‭ ‬ودعواتهم‭ ‬إلى‭ ‬بناء‭ ‬الإنسان‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التعليم‭ ‬والمؤسسات‭ ‬العملية،‭ ‬وقيمة‭ ‬الحرية‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الحديث‭ ‬ودورها‭ ‬في‭ ‬ملازمة‭ ‬الحداثة‭ ‬والحرية‭ ‬والازدهار‭ ‬■