ميشال جحا حارس الذاكرة الثقافية

ميشال جحا حارس الذاكرة الثقافية

  في السابع من يناير من العام الجاري أغمض الباحث والأكاديمي اللبناني الدكتور ميشال خليل جحا عينيه ورحل عن تسعة عقود ونيّف، أمضى جُلّها في البحث والتأليف والجمع والتحقيق والاختيار والتقديم، وتمخّضت عن نحو ثلاثين كتابًا في حقول معرفية مختلفة، شكّلت شهادة على الحراك الثقافي، اللبناني والعربي، في القرن العشرين. ولم يُلقِ القلم من يده حتى قضى الله أمرًا كان مفعولًا.

 

  في الرابع والعشرين من سبتمبر1930 أبصر ميشال جحا النور، في بشمزّين الكورانية، من أعمال شمال لبنان، وهي بلدة صغيرة تشتهر بالصنوبر والسفرجل والعلم، أمدّت الجامعة الأمريكية في بيروت بعشرات الطلاب وآحاد الأساتذة، وشكّلت بيئة خصبة يتنافس أبناؤها في طلب العلم، ولم يكن الصبي ميشال ليشذّ عن هذه القاعدة، فانضمّ إلى مدرستها العالية وتخرّج فيها بشهادة 
الـ «High School» في العام1947، ثمّ التحق بالجامعة الأمريكية حتى العام1949، انقطع بعدها أربع سنوات عن الدراسة، عمل خلالها بشركة نفط العراق في طرابلس، ليعود بعدها إلى الجامعة، ويتخرّج بشهادة الماجستير في العام 1957. غير أن فرصة أخرى تلوح في الأفق حين يفوز بمنحة لمتابعة الدراسة في ألمانيا، فيسافر إليها بالباخرة ويمكث فيها أربع سنوات، ويدرس في جامعة مونستر (Munster)، على يد المستشرق هانس فير (Hans Wehr)، حتى إذا ما عاد منها بشهادة الدكتوراه في العام1961 يلتحق بالجامعة الأمريكية أستاذًا حتى العام1963، ينتقل بعدها إلى الجامعة اللبنانية حتى تقاعده منها في العام 1994. وهكذا، نكون إزاء حياة أكاديمية زاخرة بالمثابرة والنشاط.
  
خارج أسوار الجامعة  
  لم يكن الهمّ الأكاديمي وحده هو ما شغل الدكتور ميشال جحا في حياته، ولم تكن أسوار الجامعة لتشغله عمّا يجري خارجها. لذلك، نراه ينخرط  في العمل الوطني والنقابي والثقافي، بالتزامن مع انخراطه في العمل الجامعي؛ فعلى المستوى الأوّل يُشكّل تعرّفه إلى الرئيس الدكتور سليم الحص أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وهو المعروف بنزاهته وتواضعه، فرصة للانضمام إلى ندوة العمل الوطني التي كان يرأسها، ويشاركه في أعمال الهيئة الإدارية لمدة تزيد على عشر سنوات، يُشهد خلالها على أخلاقه الرفيعة، ويقيم على عهد الوفاء له حتى رحيله. وعلى المستوى الثاني، تُشكّل زيارته والشاعر خليل حاوي إلى الدكتور سهيل إدريس، في أواسط ستينيات القرن الماضي، فرصة للتداول في تأسيس اتحاد الكتاب اللبنانيين، والانضمام إليه لاحقًا، والمشاركة في أعمال هيئتيه العامة والإدارية، طوال ثلاثين عامًا، في سبيل تعزيز أوضاع الكتّاب، لكنّ الجهود التي بُذِلَت على هذا المستوى ذهبت أدراج الرياح. أمّا المستوى الثالث الثقافي فهو ما تتمحور حوله هذه القراءة.
 
  اهتمامات متعدّدة
   تعدّدت اهتمامات ميشال جحا الثقافية الكتابية وتنوّعت وتوزّعت على البحث الأدبي والدراسة الأكاديمية والنقد الأدبي والتراجم والمختارات والببليوغرافيا وكتابة المقدّمات والسيرة الذاتية وغيرها، وتراوح نتاجه في كلٍّ من هذه الحقول بين كتاب واحد وعدّة كتب، وبلغ مجموع الكتب التي وضع أو حقّق أو قدّم خلال خمسة وأربعين عامًا تسعةً وعشرين كتابًا، أوّلها «اللهجة اللبنانية» بالألمانية عام 1964، وآخرها «أوراق من كتاب العمر» عام 2019، وكان في الجعبة والمطبعة كتب أخرى لم يُتِحْ له الموت أن يشهد ولادتها، على أنّ التراجم والمختارات كانت لها حصّة الأسد في هذا النتاج المتنوّع.
 
   اعتبار وطني
   في التراجم والمختارات وضع جحا أحد عشر كتابًا، ستةٌ منها فردية وخمسةٌ جماعية، وتتراوح الاعتبارات الكامنة وراء وضعها، بالإضافة إلى الاعتبار الثقافي بين الوطنية والتربوية والجمالية؛ فانطلاقًا من الاعتبار الوطني، وفي معرض الرد على الحرب الأهلية اللبنانية، بين العامين 1975 و1990، التي شوّهت وجه لبنان الحقيقي، يقوم بنفض الغبار عن شخصيات لبنانية من روّاد النهضة، في القرنين التاسع عشر والعشرين، إيمانًا منه بـ«أن روّاد النهضة من الباحثين والعلماء والأدباء والمبدعين هم مجد لبنان». لذلك، يضع بين العامين 1989 و2007 كتبًا فردية في: سليم البستاني (1864-1884 )، إبراهيم اليازجي (1847-1906)، فرح أنطون (1874-1922)، أمين الريحاني (1876-1940)، جوليا طعمة دمشقية (1882-1954)، وماري عجمي (1888-1965). وهو في كلٍّ من هذه الكتب يعرّف بالشخصية ويُحدّد موقعها في حركة النهضة، ويلقي الضوء على نتاجها، ويورد مختارات من هذا النتاج.
   وانطلاقًا من الاعتبار نفسه، وفي محاولة منه  للرد على الحرب اللبنانية، وإبراز وجه  لبنان الحضاري، يتناول جحا، في كتابه الجماعي «وجوه منيرة»، خمسة وعشرين شخصية أكاديمية، ممّن درّسوا أو تولّوا مهامّ بارزة في الجامعة الأمريكية في بيروت، وقد ربطته بهم علاقات تلمذة أو زمالة أو صداقة، بدءًا من أنيس الخوري المقدسي، مرورًا بأنيس فريحة وفؤاد صرّوف ونقولا زيادة وخليل حاوي وإحسان عبّاس وسليم الحص، وانتهاءً بفيليب سالم. وهو في هذا التناول يُراجع بعض مؤلّفات الشخصية، ويكتب عنها بحثًا قصيرًا، ويُورد بعض أخبارها. ويخرج بانطباعات معيّنة يشكّل بعضها علامة فارقة للشخصية المدروسة، فنتعرّف معه إلى ثقافة إحسان عباس، واجتماعية نقولا زيادة، ومهابة فؤاد صرّوف، وموهبة سامي مكارم، ونزاهة سليم الحص، على سبيل المثال لا الحصر. 
  ولا يغيب الاعتبار الوطني عن ميشال جحا في دراسته «شعراء لبنانيون رحلوا» التي أمل، من خلالها، أن يعيد «لهؤلاء الشعراء اللبنانيين الذين خرجوا من الدنيا حضورهم في ذاكرة الوطن لأن لبنان توأم الشعر»، على حدّ تعبيره. وفيها يُسلّط الضوء على ستّة وثلاثين شاعرًا، نصفهم الأوّل وُلِد في القرن التاسع عشر ونصفهم الآخر وُلِد في الثلث الأوّل من القرن العشرين، بدءًا من إبراهيم اليازجي (1847-1906) وانتهاءً بجورج غانم (1932-1992). وهو يفعل ذلك في إطار أنطولوجي؛ فيعرّف بالشاعر، ويورد مختارات من شعره، ويذكر بعض ما قيل فيه، ويحدّد موقعه في الحركة الشعرية المعاصرة.

  اعتبار تربوي
  في سياق آخر، يكمن الاعتبار التربوي خلف وضعه «أعلام الشعر العربي الحديث من أحمد شوقي إلى محمود درويش»، وفيه يدرس خمسة وعشرين شاعرًا وشاعرة واحدة، يعتمد تاريخ الوفاة معيارًا لترتيبهم في الكتاب، يُعرّف بكلٍّ منهم بتمهيد قصير، يليه بحث موجز يضع الشاعر في موقعه على خارطة الشعر الحديث، ويذيّل البحث بمختارات من شعره. على أن الدارس يبرّر اختيار هؤلاء الشعراء دون سواهم باعتبارهم يمثّلون «أهمّ وأبرز شعراء الطبقة الأولى من المعاصرين في العالم العربي»، على حدّ تعبيره، لكنّه لا يحدّد مؤشّرات هذه الأهمّية ما يجعل المجال مفتوحًا على كثير من الذاتية في الاختيار، فهو يصرّح بتفضيل شاعر على آخر دون أن يعلّل أسباب التفضيل. ومع هذا، حظي كتابه بتقريظ أستاذه إحسان عباس الذي كتب إليه ينوّه بحسن الاختيار وجمال المختارات واعتدال التراجم والاستئناس بالأحكام النقدية المختلفة. 
 
  اعتبار جمالي
  لا تقتصر اهتمامات الدكتور جحا الشعرية على الشعر الفصيح، بل تتعدّى ذلك إلى الشعر العامي، منطلقًا من اعتبار جمالي تراثي، فيصدر في العام 2015 «روّاد الشعر العامي في لبنان» وهو نسخة منقّحة ومزيدة عن «أعلام الشعر العامي في لبنان» الصادر في العام 2003. ويهدف من خلاله إلى «تسليط الضوء على هذا الشعر الذي ينمّ عن قيم جمالية وإبداعية وصور رائعة لا نجدها أحيانًا في الشعر العربي المنظوم بالفصحى»، على حدّ تعبيره. ويحقّق هدفه بإلقاء الضوء على ثلاثة عشر شاعرًا، بدءًا من أسعد الخوري الفغالي الملقّب بـ«شحرور الوادي» (1894-1937) وانتهاءً بأسعد سعيد (1922-2010). وهو في هذا السياق يعرّف بالشاعر في ترجمة مختصرة تحدّد موقعه في حركة الشعر العامي، ويردفها بمختارات مطوّلة من شعره. على أنّ أهمّية الكتاب تكمن في المقدّمة التاريخية التي يعرّف فيها بفنّ الزجل مستأنسًا بمجموعة من المقتبسات المختصّة، فيشير إلى أنّ جذور هذا الفن على المستوى العربي تعود إلى أواخر القرن الخامس الهجري في الأندلس وتتّصل بمقدّم بن معافر وابن قزمان والأعمى التطيلي، فيما تعود، على المستوى اللبناني، إلى القرن الرابع عشر الميلادي، وتتّصل بسليمان الأشلوحي العكاري (1270-1335) والمطران جبرائيل القلاعي (1440-1516)، وترتبط بداياته بالأمور الدينية. ولئن كانت تلك البدايات قد اقترنت بركاكة اللغة وضحالة الأفكار، فإنّ ما بلغه هذا الشعر من تطوّر في العصر الحالي وما تيسّر له من لغة الحياة وجمال الصور ودقّة التعبير يجعله لا يقلّ أبدًا عن الشعر الفصيح إن لم يفُقه جمالًا في بعض تجلّياته، ولعل هذا ما حدا بالشاعر عمر أبو ريشة أن يختم تقديمه لكتاب «براعم ورد» للشاعر اللبناني طليع حمدان بالقول: «إنّه شعر يا طليع حمدان».

  حقول أخرى
  إذا كان حقل التراجم والمختارات شغل حيّزًا كبيرًا في اهتمامات ميشال جحا الثقافية، جعل المؤرّخ الأدبي فيه يطغى على الباحث النقدي، فإنّ حقولًا معرفية أخرى كان لكلٍّ منها حيّزه الخاص في هذه الاهتمامات. ونذكر، في هذا السياق الببليوغرافيا وكتابة المقدّمات والسيرة الذاتية؛ ففي الحقل الأوّل أصدر في العام 2008 كتابه المرجعي «القصّة القصيرة في لبنان»، وحشد فيه أربعًا وتسعين قصّة قصيرة لأربعة وتسعين كاتبًا وكاتبة، خلال القرن العشرين، بدءًا من أمين الريحاني المولود في العام 1876 وانتهاءً ببسمة الخطيب المولودة في العام 1975، واعتمد في ترتيب مادّة الكتاب معيار تاريخ ولادة الكاتب. على أنّ اشتمال الكتاب على هذا العدد الكبير من القصص القصيرة وكتّابها وكاتباتها يشي بأنه يجمع بين أجيال مختلفة، ويجاور بين مستويات متعدّدة. ولعل هذا التجاور يسمح للدارسين برسم خط بياني لتطوّر هذا النوع الأدبي في لبنان خلال القرن العشرين. 
  وفي الحقل الثاني المتعلّق بكتابة المقدّمات، قد يكون ميشال جحا من القلائل الذين أولَوا هذا الحقل بعض الاهتمام، فكتب اثنتي عشرة مقدّمة لاثني عشر عملًا أدبيًّا، جمع تسعة منها في كتاب «مقدّمات الدكتور ميشال جحا» الصادر في العام 2015. ومن نافلة القول أن المقدّمة تُعرّف بالعمل وصاحبه، وتذكر بعض ما قيل فيه، لتخلص إلى وضعه في موقعه من السياق الثقافي المختص. وبذلك يكون قد أسهم في تبلور حقل معرفي جديد، له ماهيّته وكيفيّته.

سيرة ذاتية
  أمّا الحقل المعرفي الثالث والأخير الذي شغل الباحث في سنيه الأخيرة فهو السيرة الذاتية. وكأني بميشال جحا الذي كتب عشرات السّير الغيرية المختصرة، خلال مسيرته التأليفية الطويلة، أراد أن يتوّجها بسيرته الذاتية، فوضع كتابه الأخير «أوراق من كتاب العمر» الصادر في العام 2019، وكتب سيرته بنفسه قبل أن يكتبها الآخرون. على أن المفارقة في هذه السيرة، أنّه يجاور بين العام والخاص، فيُطلق العنان لقلمه في الأوّل ولا يتورّع عن تسمية الأشياء بأسمائها، ويمارس التحفّظ في الثاني ويكتفي بالإيجابيات دون السلبيات. وعلى الرّغم من هذا الاكتفاء، فإنه لم ينزلق إلى تضخيم الذات واجتراح أدوار البطولة، وحافظ على التوازن بين احترام الذات من جهة، وعدم تضخيمها من جهة ثانية. وبكلمة أخرى، هو لم يَتَعَرَّ ولم يتقنّع. ولعلّ هذه الاستراتيجية هي التي حكمت موقفه من زوايا مثلّث المحرّمات العربي؛ فنراه يُداور في الكلام على علاقته بالمرأة، ويُحاذر الاقتراب من الدين، لكنه لا يتورّع عن الخوض في السياسة. 
  وبعد، حين يغيب الكبار تبقى آثارهم شاهدة على حضورهم، ولو إلى حين. واليوم، إذ يغيب الدكتور ميشال جحا، الباحث والصديق، عن هذه الدنيا، فإن حضوره، في آثاره المكتوبة وعلى صفحات مجلة العربي، هو أقوى من الغياب. وحسبنا في هذه العجالة أنّنا ألقينا الضوء على باحث مستحق لم يدّخر ضوءًا يلقيه على المستحقّين من أهل صناعة الكتابة.
ويبقى الزمن الحاكم الأوّل والأخير في نهاية المطاف ■