الإسكندرية وصفُها يشاكل اسمَها

الإسكندرية وصفُها يشاكل اسمَها

يحتار المرء - وهو في الإسكندرية - من أين يبدأ كتاباته عنها، ومن أين يبدأ تصويره لمعالمها وآثارها ومبانيها وسواحلها وموانئها ومصانعها وأناسها وأعلامها وحدائقها وشواطئها وأنديتها وشركاتها ومتاجرها وشوارعها وأسواقها ومقاهيها وأبوابها ومساجدها وكنائسها ومتاحفها ومطارها... إلخ، فهي مدينة عصيّة على الكلام، ودائمًا تأتي في الأحلام، من حيث لا تتوقع أو تدري، كأي غرام... هل لأنها قديمة في الزمان، فعمرها قبل الميلاد بثلاثمائة واثنين وثلاثين عامًا؟ أم لأنها كانت مركز العالم القديم في يوم من الأيام؟

 

 لعبت مكتبتُها وفنارُها، (الذي كان إحدى عجائب الدنيا السبع) وفلسفتها (مدرسة الإسكندرية الفلسفية أو اللاهوتية) وآدابها، دورًا بارزًا في الفكر الهيليني حتى هزيمة كليوباترا السابعة في معركة أكتيوم البحرية عام 31 قبل الميلاد أمام أوكتافيوس أغسطس، فتغيَّر وجه التاريخ وتبدل الماء في البحر المتوسط، فزالتْ صفة الهيلينية عن المدينة العالمية التي أسسها الإسكندر الأكبر، وتركها ورحل، ولم يعد إليها إلا جثمانًا في عربته الحربية الذهبية بعد موته بالحمَّى التي أصابته في بابل، إن صح هذا القول ودُفن فعلًا في الإسكندرية، وليس في بابل عام 323 قبل الميلاد، عن عمر لا يتعدى الثلاثة والثلاثين عامًا.
أيتها الإسكندرية الساكنة عند مداخل البحر، كاملة الجمال والبهاء، بنَّاؤوكِ تمَّموا جمالك.

الإسكندر الأكبر و55 إسكندرية في العالم    
لا تزال الأساطير تُروى عن تابوت الإسكندر، ولا تزال الحفائرُ تُحفر في الثغر المصري أملًا في الوصول إلى هذا التابوت الذهبي والعربة الملكية. ولا تزال البعثات تُرسل من اليونان واليونسكو للتنقيب والبحث. ولا تزال الحكومة المصرية تأمل، والشعب السكندري يحلم بهذا التابوت الذي إن وجد ستتسع شهرة الإسكندرية المصرية أكثر فأكثر، على الرغم من وجود «سكندريات» أخرى بدول أخرى في العالم، فكلما بنى الإسكندر مدينة على طول طريق حروبه ومجده من مقدونيا إلى بلاد الهند والسند سمَّاها باسمه، لكن الغريب في هذا الشأن أنه توجد في الولايات المتحدة الأمريكية مدينة باسم الإسكندرية أيضًا، تقع في ولاية فيرجينيا على الضفة الغربية لنهر البوتوماك على مسافة ستة أميال جنوبي العاصمة الأمريكية.
كان الشائع أن عدد إسكندريات العالم يصل إلى 17 إسكندرية، أشهرها الإسكندرية المصرية، التي أخذَنا تاريخُها ليكون مدخلًا للحديث عنها.
غير أنَّ تقريرًا بثه موقع إم بي سي نت   أكّد أن عدد إسكندريات العالم وصل إلى أكثر من 55 مدينة أشهرها - بعد الإسكندرية المصرية - إسكندرية تركيا، وإسكندرية اليونان، وإسكندرية أمريكا التي تضم إسكندريات، وليست إسكندرية واحدة تقع في كل من الولايات التالية: لويزيانا - مينيسوتا - فيرجينيا - إنديانا - كنتاكي - ميسوري - نبراسكا - أوهايو - بنسلفانيا - نيوهامبشاير - جنوب داكوتا - تنيسي - شمال داكوتا - ألباما، بالإضافة إلى إسكندريات أخرى بالعالم تقع في كندا، وأخرى تقع في كل من: مقاطعة كولومبيا البريطانية، وإسكندرية بدولة البرازيل، وإسكندريات قارة أوربا: إسكندرية اسكتلندا - إسكندرية إيطاليا - إسكندرية اليونان (أليكسندروبوليس) وإسكندرية رومانيا.
أما إسكندريات القارة الآسيوية، فهي: إسكندريات تركيا (عدد 2) ، إسكندريات أفغانستان (عدد 4) ، إسكندريات باكستان (عدد 2) إسكندريات الاتحاد السوفييتي السابق (عدد 6)، إسكندرية العراق - إسكندرية الخليج العربي.
وهناك إسكندريتان في قارة أستراليا، وإسكندريتان في قارة أفريقيا، وهما: إسكندرية (مصر)، إسكندرية (جنوب أفريقيا)، بالإضافة إلى إسكندرية نيوزيلندا، وإسكندرية في القارة الجنوبية المتجمدة.

سر تعدد اسم الإسكندرية
ولعلنا نتساءل عن السبب وراء تعدد اسم «الإسكندرية» في العالم على هذا النحو؟ هل هو سحر اسم القائد التاريخي الإسكندر الأكبر الذي دانت له الدنيا، كما لم تدِن لأحد من قبله أو من بعده؟ والذي لم ندرِ هل هو المقصود به «ذو القرنين» الوارد ذكره في سورة «الكهف» بالقرآن الكريم، أم غيره؟ بعض المؤرخين المسلمين يرون أن هناك تشابهًا بين قصة الإسكندر الأكبر وقصة ذي القرنين، بينما يرفض ذلك أغلب علماء الدين الإسلامي باعتبار أن الإسكندر المقدوني لم يعتنق التوحيد، ولم يكن مؤمنًا صالحًا مثل ذي القرنين الذي لم نعرف مَنْ هو على وجه التحديد.
لا تخلو «حكايات ألف ليلة وليلة» من ذكر الإسكندرية المصرية، ففي الليلة 825 تقول شهزراد: إن الفتى علي نورالدين (ابن التاجر تاج الدين) خرج من بولاق بمصر (أي القاهرة حاليًا) قبل الفجر وركب مركبًا (من فرع النيل) متوجهًا إلى الإسكندرية عن طريق رشيد، ودخل الإسكندرية من باب سدرة. وفي الليلة 826 يصف علي نورالدين الإسكندرية التي رآها مدينةً حصينة الأسوار، حسنة المتنزهات، تلذُّ لسكانها، وترغب في استيطانها، قد ولَّى عنها فصل الشتاء ببرده، وأقبل عليها فصل الربيع بورده، وازدهت أزهارُها، وأورقت أشجارُها، وأينعت أثمارُها، وتدفقت أنهارُها، وهي مدينة مليحة الهندسة والقياس، وأهلها أجنادٌ من خيار الناس، إذا أُغلقت أبوابُها، أمنت أصحابها، وهي كما قيل فيها هذه الأبيات:
قد قلتُ يوما لخلٍّ 
 له مقالٌ فصيحُ
اسكندريةُ صِفْها 
 فقال: ثغرٌ مليحُ
وقلتُ: فيها معاشٌ؟ 
 قال إن هبَّ ريحُ
فمشي نور الدين في تلك المدينة، ولم يزل ماشيًا فيها، إلى أن وصل إلى سوق النجارين، ثم إلى سوق الصرَّافين، ثم إلى سوق النقلية، ثم إلى سوق الفكهانية، ثم إلى سوق العطارين، وهو يتعجب من تلك المدينة، لأن وصفها قد شاكلَ اسمَها.
وعندما استضافه التاجر العطَّار (صديق والده) ومضى به إلى بيته، رأى علي نور الدين زقاقًا مليحًا مكنوسًا مرشوشًا، قد هبَّ عليه النسيم وراقْ، وظللته من الأشجارِ أوراقْ، وفي ذلك الزقاق ثلاث دور، وفي صدر ذلك الزقاق دار أساسها راسخ في الماء، وجدرانها شاهقة إلى عنان السماء، قد كنسوا الساحة التي أمامها ورشُّوها، ويشم روائحَ الأزهارِ قاصدوها، يقابلها النسيم كأنه من جنات النعيم.
كما يتردد اسم الإسكندرية في الحكايتين 927 و936 عن الصديقين أبي قير وأبي صير.

في كتب التراث
لو تتبعنا ذكر الإسكندرية في كتب التراث العربي لرأينا الكثير والكثير عنها. على سبيل المثال، كتب عمرو بن العاص للخليفة عمر بن الخطاب بعد فتح الإسكندرية في 29 سبتمبر 642 م، قائلًا:
«لقد استوليتُ على مدينة يمكن أن أقول إنها تضمُّ 4000 من القصور، و4000 من الحمَّامات، و400 مخزن، وبها 1200 من بائعي الخضراوات، و40 ألفًا من اليهود دافعي الجزية».
وقال جندي عربي مسلم، من جنود عمرو بن العاص، عن الإسكندرية: «إن ضوءَ القمر المنعكس على الرخام جعل المدينة تسبحُ في نور ساطع بدرجة تكفي لأي ترزي أن يلضم الخيط في إبرته دون حاجة لمصباح، ولا يستطيع أحدٌ أن يدخل المدينة، دون أن يغطي عينيه ليحجبَ عنهما وهج الجص والرخام».
وكتب ابن دقماق (مؤرخ الديار المصرية في زمانه 1349 - 1406م): «إذا الإنسان طاف حول الإسكندرية في الصباح، فالله سوف يصنع له تاجًا ذهبيًّا مرصعًا باللآلئ ومعطرًا بالمسك والكافور يشع الضوء شرقًا وغربًا».

العصر الذهبي للإسكندرية
كتب جون مارلو، صاحب كتاب «العصر الذهبي للإسكندرية» ترجمة: نسيم مجلي (المركز القومي للترجمة 419 - 2002): «كان التلاميذ ينجذبون نحو المدن الغنية أو الأكثر ثراءً، وبخاصة الإسكندرية، وذلك لتوفر الرعاية، وجماهير المستمعين، ووسائل الراحة، والفرص التي تنتظرهم هناك، بالمقارنة بالظروف المعيشية الضيقة في مدينة إقليمية مثل أثينا التي مزقتها الحرب، وأقعدها الفقر».
وعندما يقارن جون مارلو ماضي الإسكندرية بحاضرها، يقول: «الآن لم يبق هناك شيء فوق سطح الأرض من الإسكندرية القديمة، وفي الموقع نفسه، إلا العمود المرتفع هناك، المعروف بعمود بومبي (عمود السواري) في البقعة التي كان فيها معبد السرابيوم العظيم».
وبذلك ينقلنا جون مارلو إلى واقع الإسكندرية الحالي، فنرى أنها - بالفعل - لم تزل تحتفظ بالقليل من رونقها القديم، لكنها اتسعت اتساعًا عظيمًا، وصارت محافظة تضم عدة مدن، وتمتد على ساحل البحر المتوسط من منطقة أبوقير شرقًا إلى منطقة العجمي غربًا (حوالي 70 كيلومترًا)، وتحدها من الجنوب والشرق محافظة البحيرة، ومن الغرب محافظة مطروح، ويبلغ عدد سكانها نحو ستة ملايين نسمة. وتبلغ مساحتها نحو 2879 كيلومترًا مربعًا. وتعتبر من أكثر محافظات مصر كثافةً بالسكان نسبةً إلى مساحتها.
لكن هل لم تزل الإسكندرية كما وصفها نجيب محفوظ في أول صفحة من رائعته «ميرامار» على لسان عامر وجدي: «الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع»؟
ما بين ستينيات «ميرامار» والتسعينيات الماضية، شهدت الإسكندرية أسوأ فترات تاريخها المعاصر، وشهدت - تدريجيًا - إهمالاً كبيرًا، بلغ أقصاه من أواخر الثمانينيات، حتى عام 1997، عندما تولى اللواء المحافظ محمد عبدالسلام المحجوب مقاليد أمورها، فشهدت المدينة نهضة سريعة في معظم مرافقها، وعادت الإسكندرية - قليلًا - إلى إسكندريتها. وفيها قلتُ:
لا تتأوْرَبي...
أو... تتأمْرَكي...
لا تَتَعَوْلَمي...
بَلْ... تَسَكَنْدري
في مِشْيَةِ العصاري...
تَسَمْهَرِي...
تَعَمْلَقي... عبرَ القرونِ القادمة
تنفَّسي صبحًا من الخيولِ في السحاب
ترقرقي... كالماءِ في الرُّضَاب
لقد حافظت الإسكندرية على تراث الشعوب التي مرت عليها، لكنها في وقت من الأوقات كانت في أشد الحاجة إلى من يحافظ على تراثها الفرعوني (جزيرة فاروس وقرية راقودة) والهلينستي أو البطلمي واليوناني والروماني والقبطي والإسلامي والأندلسي والعربي، فضلًا عن تراث الأجانب الذين وفدوا إليها واستقروا فيها - عقب تولي محمد علي باشا مقاليد الحكم في مصر عام 1805م - من فرنسيين وإنجليز وإيطاليين ويونانيين، ورومانيين وصقالبة، وشوام، ومغاربة، وعرب وأتراك وإسبانيين، وغيرهم من شعوب الأرض قاطبة، وشعوب دول حوض البحر المتوسط خاصة، لذا قيل عنها إنها مدينة كوزموبوليتانية.
كل هذا يعطي للحياة في الإسكندرية طعمًا مغايرًا للحياة عن أية مدينة مصرية أو متوسطية أخرى، وكما أن البحر يمنح الإسكندرية بعض أسراره، تمنحه الإسكندرية حبَّها وعشقها وأسرارها الخالدة.

من أسرار الإسكندرية
ولعل سرًّا من أسرار الإسكندرية يكمن في شوارع محطة الرمل والعطارين، خاصة شارع سعد زغلول، وشارع صفية زغلول، وشارع النبي دانيال، وميدان المنشية، وميدان محطة الرمل، وطريق الحرية، وشارع صلاح سالم، وشارع أحمد عرابي، وشارع العطارين، وشارع السبع بنات، وشارع فرنسا، والسكة الجديدة، وشارع الإسكندر الأكبر، والشلالات وحديقة سعد زغلول، وغيرها من ميادين وشوارع وأزقة حية مكتظة بالناس والتاريخ والمحلات والأسواق والعمارات والمباني ذات الطرز الخاصة.
مثل هذه الشوارع والطرقات كانت تمثل جانبًا من الحي الملكي أو حي الطبقة الأرستقراطية في وقت من الأوقات، مقابل الأحياء الشعبية التي لها رصيد هائل من الحضور الشعبي والروحاني، والذاكرة التاريخية والدينية والصوفية، وبخاصة شوارع حي بحري والأنفوشي وقلعة قايتباي، ورأس التين، وشوارع محرم بك، والحضرة القبلية، وكرموز، وغيط العنب، ومينا البصل، والقباري، والورديان، والمكس، والدخيلة، والعجمي.

الإسكندرية الشعر والرواية
ولئن كان الكاتب الإنجليزي لورانس داريل قد كتب في رباعية الإسكندرية (جوستين - بالتازار - ماونت أوليف – كليا) عن عالم الأجانب في الإسكندرية بعد الحرب العالمية الثانية، فإن الكاتب المصري محمد جبريل كتب رباعية بحري (أبو العباس - ياقوت العرش - البوصيري - علي تمراز) وتدور أحداثها أيضًا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى مطلع الخمسينيات. ولا تخلو هذه الرباعية من أزجال وأغاني الصيادين وأغاني الأفراح الشعبية والموالد والطهور في مدينة الإسكندرية خلال تلك الحقبة التي تتحدث عنها الرباعية، فضلًا عن الأناشيد الدينية وما يُتلى من أذكار وأوراد في حلقات الذكر والخلوة، وغيرها من طقوس الصوفية وأحوالهم.
وكأن محمد جبريل أراد أن يقدم عالمًا موازيًا ومغايرًا لما قدمه لورانس داريل، أراد أن يقدم الوجه الشعبي للإسكندرية التي ولد فيها وعاش معها، فتغلغلت فيه وتغلغل فيها، ومثله في ذلك مثل مبدعين آخرين من أبناء الإسكندرية أمثال: إدوار الخراط صاحب «يا بنات إسكندرية»، «وترابها زعفران»، وإبراهيم عبدالمجيد صاحب «لا أحد ينام في الإسكندرية»، و«الإسكندرية في غيمة»، ومصطفى نصر صاحب «يهود الإسكندرية»، (وليهود الإسكندرية حكايات وروايات في الواقع السكندري القديم والمعاصر)، ومثل محمد الصاوي صاحب «كوم الدكة»، ومحمد عبدالله عيسى صاحب «العطارين»، وغيرهم الكثير والكثير من مبدعي الثغر، أو حتى لزائريه العابرين الذين لم يمكثوا طويلًا في الإسكندرية، وأضرب مثالًا بالشاعر أمل دنقل الذي أهدى ديوانه «مقتل القمر» إلى «الإسكندرية سنوات الصبا»، والشاعر فاروق شوشة الذي قال عنها في إحدى قصائده:
الحكاياتُ ملءُ صدرِكِ
والبحرُ هو البحرُ،
يوافيك جاثيًا
- مثلما الآنَ -
ومستغرقًا 
إلى ركبكِ الملكيِّ
وفي قصرِكِ العسجديِّ
على عرشْكِ الثبجيّ
ويعطيكِ من نفسهِ
لا يضنُّ،
ولا يشتكي
إنه باسطٌ ذراعيه حوليْكِ
ومازلتِ ...
هل تبوحين؟
تصدِّين؟
أم لعلكِ في أسْرِ هواهُ
تُرخينَ حبلَ الغواية!

لقد كتب الشعراء كثيرًا عن الإسكندرية قديمًا وحديثًا، فيقول أمير الشعراء أحمد شوقي على سبيل المثال:
إسكندريةُ يا عروس الماءِ 
 وخميلةُ الحكماءِ والشعراءِ
نشأتْ بشاطئِكِ الفنونُ جميلةً 
 وترعرعتْ بسمائِكِ الزهراءِ
جاءتك كالطيرِ الكريمِ غرائبا 
 فجمعتها كالربوة الغنّاءِ
ويكتب فوزي خضر ديوانًا كاملاً بعنوان «ولهية إلى الإسكندرية» (الوَلَه: إفراط الوجد بمشاهدة السر، حسب تفسير ابن عربي)، ويكتب أحمد محمود مبارك «نبضات وألوان»، ويكتب جابر بسيوني عنها «نورس لا يرى إلا الجميل»، ويتساءل عبد المنعم الأنصاري:
من أين هذا العطرُ والأثوابُ 
 لا الرومُ تعرفها ولا الأعرابُ؟
وتاريخ الشعر في الإسكندرية تاريخ عريق، يبدأ من جماعة الحَمَام (بليآد) التي أسسها الشاعر كليماخوس (310 - 240 ق. م) وفي العصر الحديث وجدنا جماعة الشلالات، وجماعة نشر الثقافة، وجماعة الأدب العربي، وجماعة أدباء الشعب، وهيئة الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، وجماعة فاروس للآداب والفنون، وغيرها.

فنون الإسكندرية
وإذا ذُكرت فنون الإسكندرية يُذكر على الفور الشيخ سلامة حجازي، وسيد درويش في الموسيقى والغناء، ومحمود سعيد ومحمد ناجي وعفت ناجي وعبدالهادي الجزار، في الرسم والتلوين، وبيرم التونسي في فن الزجل والأغنية، وليلى مراد، وعمر الشريف، ويوسف شاهين، وهند رستم، وزينات صدقي، ومحمود عبدالعزيز وغيرهم في فن التمثيل والإخراج.
يقول بيرم التونسي عن الشخصية السكندرية في أحد أزجاله:
أما احنا يا اسكندرانيه 
 طالعين جميعا شُضليه
طبيعة في الطين والميه 
 متركبة تحت سماها
الاسكندراني إذا صافح 
 يغلط ساعات ويروح ناطح
وارثها عن جده الفاتح 
 فحل الملوك اللي بناها
وانا اللي جيت م السيَّالة 
 فيها العيال والرجاله
شجعان ولكن بهباله 
 يا ننتصر يا أكلناها
وإذا كانت فيروز قد غنت لمصر (من كلمات وألحان الأخوين رحباني) فقالت في حديقة الأندلس عام 1976: 
مصرُ عادتْ شمسُك الذهبُ 
 تَحمِل الأرضَ وتَغترِبُ
كَتَبَ النِّيلُ على شطِّهِ 
 قصصًا بالحبَّ تلتهبُ
فإنها خصَّت الإسكندرية قبلها بأغنيتها الجميلة «شط اسكندرية» حيث كانت زيارتها الأولى مع الأخوين رحباني لمصر في فبراير 1955، وأقامت في فندق سيسل بمحطة الرمل، وبعدها، ومن وحي الزيارة غنت «شط إسكندرية» التي تقول فيها:
شط اسكندرية يا شط الهوى
رُحنا اسكندرية رمانا الهوى
يا دنيا هنيّة وليالي رضيّة
أحملها بعنيا... شط اسكندرية
وكما فعل نجيب محفوظ في الرواية، فعل عبدالحليم حافظ في أفلامه التي كان للإسكندرية نصيبٌ فيها، ومنها: «حكاية حب» مع مريم فخر الدين، و«البنات والصيف» مع سعاد حسني وزيزي البدراوي، و«أبي فوق الشجرة» مع ميرفت أمين ونادية لطفي، بل كان يمتلك كابينة في شاطئ «ميامي». وفي فيلمه الأخير غنى للإسكندرية اسكتش «قاضي البلاج»، و«دقوا الشماسي» فقال
من كلمات مرسي جميل عزيز وألحان منير مراد:
يا أحلى شمس وأحلى رمل وأحلى ميه
إحنا وشبابنا وحبنا يا اسكندرية
جايين على نسمة أمل نرتاح شوية
والحر زي الشوق نهاره وليله قاسي
دقوا الشماسي عالبلاج دقوا الشماسي
وبالمناسبة، فإن نجيب محفوظ كان شديد الإعجاب بأغنية عبدالحليم حافظ «في يوم في شهر في سنة» التي غناها على شط الإسكندرية (كلمات مرسي جميل عزيز وألحان كمال الطويل)، ضمن أغاني فيلم «حكاية حب».

أبوقير وشواطئها
تمتلك الإسكندرية شواطئ كثيرة وعريضة متعددة من أول أبوقير حتى العجمي، ولعل شاطئ (أبو قير) يحتاج إلى إلقاء بعض الضوء عليه، نظرًا لأهمية هذه المنطقة التي ورد ذكرها في ليالي ألف ليلة وليلة، كما أشرنا من قبل، فقد عُرفت هذه المنطقة منذ احتلال الرومان للإسكندرية بعد هزيمة كليوباترا في موقعة أكتيوم البحرية سنة 31 قبل الميلاد، وهي حاليًا تتبع حي المنتزه ثان، مع أنها تستحق أن تكون تابعةً لنفسها، وهي آخر محطات قطار (أبو قير)، الذي ينطلق من وسط المدينة في المنطقة الواقعة بين حي محرم بك وحي العطارين (محطة مصر) ولمسافة 23 كيلومترًا، ويجري حاليا تطوير سكك حديد قطار (أبو قير) ليتحول إلى مشروع مترو الإسكندرية السريع الذي تمتد مرحلته الأولى من (أبو قير) حتى محطة مصر، ثم ينطلق في مرحلته الثانية إلى الكيلو 21 بمنطقة العجمي، ثم إلى مدينة برج العرب، ليخدم بذلك ملايين الركاب الذين يترددون يوميًا على تلك المناطق الثلاث صيفا وشتاء.
أما منطقة «أبوقير» التي تعد إحدى المناطق الشعبية شرق الإسكندرية، والمتاخمة لحدود الإسكندرية مع محافظة البحيرة المجاورة لها، فيوجد بها أكثر من شاطئ مثل: البحر الميت، والبحر الحي، والبرديسي، وعدة شواطئ أخرى، وتتميز تلك الشواطئ بوجود محلات الأسماك الطازجة الموجودة على رمالها، والرخيصة نوعًا ما عن محلات شواطئ أخرى في المعمورة السياحية والمنتزه على سبيل المثال.
وقد حضرتُ ذات مرة - وكان الوقت فجرًا - مزادًا علنيًا للأسماك الطازجة الخارجة توًّا من شواطئ أبي قير، فكان الجمبري (الروبيان) لا يزال يلعب أمامنا، فضلًا عن أسماك أخرى مثل الكابوريا (أبوجلمبو أو السلطعون) والبوري والسبيط والبطاطا والمكرونة والشراغيش والبربون، إلى جانب أم الخلول والسردين والبساريا والبكالاه وغيرها. كان المشترون لأغلب هذه الأسماك في المزاد من مندوبي الفنادق الكبرى التي تقع شرق الإسكندرية مثل: فندق فلسطين وفندق شيراتون المنتزه، إلى جانب أصحاب محلات الأسماك والأهالي.
وقبل أن نغادر «أبوقير» ينبغي الإشارة إلى وجود إحدى القلاع التي تعود إلى عهد محمد علي باشا، وتستعمل الآن كمنطقة عسكرية، وهي تأتي على طراز قلعة قايتباي في حي الأنفوشي غرب الإسكندرية التي بنيت مكان منارة الإسكندرية القديمة (منارة فاروس) وبأحجارها. كما تحتوي أبوقير على أحد فروع الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري، في منطقة طوسون، وكلية التربية الرياضية التابعة لجامعة الإسكندرية.
ومما يذكر تاريخيًا عن (أبوقير) أنها كانت شاهدة على تحطيم أسطول نابليون بونابرت أمام شواطئها على يد الأسطول الإنجليزي، في الموقعة التي عرفت باسم «موقعة (أبو قير البحرية»)، والتي سمَّاها الإنجليز «معركة النيل» وجرت وقائعها في 2 أغسطس 1798 بين القوات البحرية الإنجليزية بقيادة نلسون والأسطول الفرنسي، لذا سنجد إحدى الجزر الواقعة في أبوقير تسمى «جزيرة نلسون» وقد عُثرتْ على بقايا حطام الأسطول الفرنسي هناك، إلى جانب بعض السفن والآثار الغارقة.
‏وعلى الناحية الأخرى من المدينة توجد حلقة أسماك الأنفوشي، وقد بنيت عام 1834 م، وقبلها كانت هناك حلقة سمك في ميدان القناصل بالمنشية، كما توجد حلقة أسماك في حي المكس.

مساجد وكنائس ومسارح ومراكز
نحن على وشك الانتهاء من حديثنا عن الإسكندرية في هذا الحيز وهذه الصفحات، ولم نذكر الكثير عنها، وعن تاريخها الطويل، وثقافتها وتعليمها وإعلامها (إذاعة وتلفزيون)، وفنونها وصحافتها (جريدة الأهرام أُسست في الإسكندرية قبل انتقالها إلى القاهرة)، ومساجدها (وأشهرها المرسي أبوالعباس، والبوصيري، والقائد إبراهيم)، وكنائسها (وأشهرها كنيسة المرقسية، وكنيسة السيدة العذراء مريم بمحرم بك) والمعبد اليهودي في شارع النبي دانيال، ومسارحها (وأشهرها مسرح بيرم التونسي، ومسرح محمد عبدالوهاب، ومسرح قصر ثقافة الأنفوشي، والمسرح الروماني بكوم الدكة) إلى جانب أوبرا الإسكندرية (مسرح سيد درويش)، ومركز الحرية للإبداع (قصر ثقافة الحرية سابقًا) وقصور ثقافتها الأخرى: قصر ثقافة الأنفوشي، قصر ثقافة الشاطبي، قصر ثقافة سيدي جابر، قصر ثقافة رشدي، قصر ثقافة أبوقير، قصر ثقافة 26 يوليو، قصر ثقافة القباري، ودور السينما فيها (وأشهرها: مترو وأمير وراديو والهمبرا، وعلى مسرح سينما الهمبرا بمحطة الرمل كانت أم كلثوم تُحيي حفلاتها في الإسكندرية، لكن تهدمت هذه الدار السينمائية منذ سنوات)، إلى جانب المراكز الأجنبية التي تشارك في النشاط الثقافي بالإسكندرية بفاعلية، مثل: المركز الثقافي الفرنسي، المركز الثقافي الروسي، المركز الثقافي الألماني (جوته)، المركز الثقافي البريطاني، المركز الثقافي اليوناني، المركز الثقافي الإسباني، ومركز الجزويت الثقافي، وغيرها.
فضلاً عن نشاط الإسكندرية الرياضي حيث توجد أندية شعبية عريقة، مثل نادي الاتحاد السكندري، والنادي الأولمبي المصري، ونادي سموحة، ونادي اسبورتنج، ونادي حرس الحدود (السواحل قديمًا)، ونادي أصحاب الجياد، ونادي الكشافة البحري، إلى جانب استاد الإسكندرية، واستاد برج العرب، ونادي وادي دجلة جنوب حي محرم بك.
وكما بدأنا بالحَيرة: من أين نبدأ الكتابة عن الإسكندرية، فإنني أنهي حديثي عنها بالحَيرة نفسها، لأنني لم أكتب سوى القليل عن أشياء كثيرة، وتركت الكثير عن أشياء أكثر، فلم أتحدث مثلًا عن «مكتبة الإسكندرية»، أو عن أشهر حدائق الإسكندرية مثل حديقة المنتزه، وحدائق انطونيادس، وحدائق النزهة، وحديقة الحيوانات، وأشهر قصورها: قصر المنتزه وقصر رأس التين، وقصر المجوهرات وقصر الصفا، ولم أتحدث عن ترامها الأصفر الذي كان يربط صُرَّة المدينة وأطرافها من النزهة حتى المكس، وترامها الأزرق الذي يربط المدينة ما بين محطة الرمل ومنطقة فكتوريا التي تقع فيها كلية فكتوريا (فكتوريا كوليج) التي تأسست عام 1902 وتخرج فيها عدد كبير من المشاهير بالسياسة والفن والصحافة والإعلام من أمثال: الملك الحسين بن طلال (ملك الأردن) والملك سيمون الثاني (ملك بلغاريا) والملكة صوفيا (ملكة إسبانيا)، والكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد، والكاتب السعودي عدنان خاشقجي، والكاتب المصري محمد سلماوي، والكاتب الكويتي عبدالله النفيسي، والفنانين: أحمد رمزي وعمر الشريف وسمير صبري، وشادي عبدالسلام، والمخرج توفيق صالح، والإعلامي عمرو أديب، وجاستون زنانيري، وغيرهم.
ويبدو أن الأمر سيحتاج إلى كتابة أخرى عن الإسكندرية، مسقط رأس توفيق الحكيم، وجمال عبد الناصر، ومحمود سعيد الذي سُمي باسمه أحد شواطئ الإسكندرية (أفلاطون سابقًا)، بالإضافة إلى شاطئ إدوار الخراط، وشاطئ إيناس حقي، وغيرهما ■

تمثال الإسكندر الأكبر مؤسس المدينة على حصانه بوسيفالوس أمام حدائق الشلالات بمنطقة باب شرقي

المكتب الثقافي التابع لسفارة دولة الكويت يقع أمام استاد الإسكندرية بشارع باتريس لومومبا بمنطقة باب شرق

المركز الثقافي الروسي للعلوم والثقافة بشارع البطالسة وندوات شهرية تسلط الضوء على الأدبين الروسي والعربي

المركز الثقافي الألماني (جوته) بشارع البطالسة ومنافسة ثقافية مع المركز الثقافي الروسي

تمثال محمد علي باشا على حصانه يحلق عاليا في سماء ميدانه بالمنشية

نسخة من تمثال كاتمة الأسرار 1926 للمثَّال محمود مختار يزين حدائق الشلالات

ساحة تياترو محمد علي (دار أوبرا الإسكندرية) يتوسطها تمثال نوبار باشا (1825 ــ 1899) أول رئيس لوزراء مصر

(صورة مركبة) مسجد أبوالعباس المرسي (سلطان الإسكندرية) من الخارج والداخل (واقروا الفاتحة لأبوالعباس... يا اسكندرية يا أجدع ناس)

سور أزبكية الإسكندرية بشارع النبي دانيال (أحد أقدم شوارع الإسكندرية) قبلة الباحثين والأدباء والمثقفين شبابا وكبارا

شاطئ الأنفوشي الشعبي

عائدون من رحلة الصيد اليومية

استاد الإسكندرية يحتضن جميع الألعاب الرياضية. فتح أبوابه عام 1929 ويتسع ملعب الكرة لخمسين ألف متفرج