جان فان هاشوم «زهور وفاكهة»

جان فان هاشوم «زهور وفاكهة»

منذ بدايات القرن السادس عشر كان الهولنديون سبّاقين في تطوير رسم الطبيعة الصامتة، فيما كان الإيطاليون والفرنسيون مثلًا يضعون هذا الفن أسفل قائمة تراتبية المواضيع الفنية. لكن لوحات الطبيعة الصامتة الهولندية ظلت ذات مواضيع متقشفة ومتواضعة مثل الأطعمة والزهور البسيطة والآنية المنزلية الخزفية والفقيرة نسبيًا بفعل تشدد القبضة الدينية البروتستانتية طوال القرن السادس عشر.
في عام1602م تأسست شركة الهند الشرقية الهولندية التي كانت وراء رخاء اقتصادي كبير في هولندا استمر حتى زوال هذه الشركة في نهاية عام 1799م، كما أن قبضة التشدد الديني تراخت إلى حد كبير. فكثر الطلب على اللوحات الباذخة ذات الطابع التزييني بالدرجة الأولى للقصور والأثرياء الجدد والقدامى على حدٍ سواء، وأصبح رسم الزهور اختصاصًا رائجًا بحد ذاته، له أساتذته، ويُعتبر جان فان هاشوم آخر هؤلاء الأساتذة المبدعين، بإيصاله هذا الفن إلى ذروة لم تترك للذين أتوا من بعده غير تقليده واتباع نهجه.

نشأة فان هاشوم
ولد فان هاشوم عام1682م لأب كان رسام زهور أيضًا. رسم في شبابه عدة لوحات تمثل مناظر طبيعية ذات أطلال متخيلة وأشجار ساكنة شبه ميتة لم تلقَ وقتها إعجابًا كبيرًا، فتخلّى في عام1717م عن رسم المناظر الطبيعية، لينصرف بشكل شبه كامل إلى رسم الزهور حتى وفاته عام  1749م.
تُعتبر اللوحة التي نقف أمامها هنا نموذجًا «وسطيًا» لما كانت عليه لوحات الزهور عند هذا الفنان. فهنا نرى جزءًا من الإناء الخزفي الذي يحتويها، وفي غيرها قد يظهر الإناء شبه كامل أو يدفن كله تحت الزهور فلا نرى منه شيئًا، وهنا نرى بعض الفاكهة مثل الدرّاق والعنب، وفي لوحات أخرى قد تختفي الفاكهة أو يظهر أكثر من عشرة أنواع منها. لكن ما هو مشترك بين كل هذه اللوحات يُختزل في ثلاث نقاط:
أولى هذه النقاط هي أبسطها: الخطاب الفكري الذي يقتصر على التعبير عن الوفرة والرخاء الاجتماعي من خلال الكثرة، كثرة الزهور وتعدد أنواعها الورد، الزنبق، الياسمين، النرجس، القرنفل... وعلى رأسها طبعًا زهرة التوليب التي هي رمز هولندا. وعزّز الفنان التعبير عن هذا الرخاء بوضع بعض الفاكهة بجوار الزهور، والإناء المزخرف، حتى الطاولة المصنوعة من الجرانيت الثمين.

جمال الزهور في تصويراته
النقطة الثانية هي تصوير جمال الزهور الطبيعية بأقصى حد من الالتزام الموضوعي بتكوينها، وذلك من خلال رسمها بدقة بالغة في أمانتها للواقع، حتى إننا نرى أن حبيبات العنب رُسمت بشكلين، بعضها عليه الغبار الطبيعي، وبعضها ذو ملمس لامع لأن الغبار زال عنها بفعل لمسها هنا أو هناك. وإلى ذلك أضاف الفنان بعض الحشرات، مثل الذباب والنمل، التي
لا تظهر بتصغير صورة هذه اللوحة.
أما النقطة الثالثة والكبرى التي تتجسّد فيها عبقرية الفنان ومقياس نجاحه فهي التعبير عن الإحساس بالأناقة ورهافة الذوق والجمال بحد ذاته، فضمن تركيب أساسي حول قوس من الزهور الفاتحة اللون بشكل شبه دائري، ملأ الفنان لوحته بزهور لم تترك لونًا لا في الطبيعة ولا في غيرها إلا استحضرته هنا من الأبيض والوردي الفاتح، إلى الأخضر على اختلاف درجاته، مرورًا بالأحمر والبرتقالي والأصفر والأزرق، وصولًا إلى الأسود.
ونظرًا لشدة التناقض ما بين الزهور المضاءة بقوة، وظلام الخلفية الداكنة، يشعر المشاهد بأن مصدر الضوء هو شعاع قوي يتسلل من كوة ضيقة أعلى اليسار على هذه الزهور الموجودة في غرفة مظلمة.
ولتلطيف هذا التناقض المصطنع لدواعٍ جمالية، عمل الفنان على إضاءة أسفل بعض الزهور مثل القرنفلتين البرتقاليتين خلف الإناء، لتعزيز الإحساس بالعمق وتحقيق أفضل شكل من التوازن الضوئي واللوني، وتقديم مشهد على أعلى مستوى من الأناقة والإحساس بالجمال ■