النقد السينمائي بين النظرية والتطبيق من المنهج الاجتماعي إلى المنهج السيميائي

النقد السينمائي بين النظرية والتطبيق من المنهج الاجتماعي إلى المنهج السيميائي

مسألة النقد السينمائي هي مسألة أساسية في صيرورة الفعل السينمائي، فلا سينما حقيقية في غياب نقد جاد، يُتابع مستجداتها ويستطلع آخر منتجاتها، ويقف متسائلًا حول الأعمال التي قدّمتها بكل موضوعية بعيدًا عن المزايدات من جهة، وبعيدًا عن التنويه المفرط الذي لا يسهم بتاتًا في عملية التطوير والإجادة المرغوبة من جهة أخرى. 

 

ليس من مسؤولية النقد السينمائي فقط الاكتفاء بالحديث عن المسائل النظرية الموجودة في بطون الكتب الغربية منها تحديدًا، وإن كان ذلك أساسيًا في عملية التكوين ولا بد منه، بقدر ما هو تحليل والغوص في بنيات الأفلام السينمائية سواء على مستوى الثيمات التي تطرحها أو على مستوى التقنيات والتوزيع الإخراجي الذي يشكل إطارها السينمائي الكلي، وتقديم ذلك في لغة واصفة تتمثل فيها كل مواصفات النقد السينمائي العميق الذي يشكل هو الآخر نصًا ثقافيًا مهمًّا يُسهم في الرقي بالثقافة السينمائية بكل أبعادها. إن النقد السينمائي يجب أن يرتكز على نظرية ثقافية / علمية تقف خلفه أو على الأقل على نسق مفاهيمي يبني أطروحاته على جهازه، وينطلق منه في عملية مقاربة الفيلم السينمائي. وفي غياب ذلك، فإنّ هذا النقد سيتحول إلى مجرد انطباعات عابرة تختلف من حين لآخر، ومن فيلم لغيره.

قراءة الأفلام والسيميائيات
إنّ التركيز على قراءة الأفلام السينمائية وفق منظور علمي يستمد مقوماته من السيميائيات، كما هو الأمر عند رولان بارت أو عند غريماس أو كريستيان ميتز، مع مراعاة الفروقات المنهجية بينهم كما يعتمد على نظريات متعلقة بالمجال السينمائي تحديدًا كما هو الأمر عند أندري بازان على سبيل المثال، هذا التركيز يدفع بالقراءة النقدية للأفلام السينمائية نحو مدى أعمق، بحيث تتحول هذه القراءة إلى قراءة منتجة للمعرفة وقراءة بانية للمعنى. من هنا تصبح قراءة الفيلم السينمائي قراءة عالمة، وبالتالي فهي تساعد على تفكيك بنياته وإعادة بنائها بشكل جديد يمكن من تحديد معالمها وتقريبها إلى المتلقي. هنا يصبح للشكل الفيلمي مغزاه ، كما يذهب إلى ذلك الباحث السينمائي الأمريكي دادلي أندرو Dudley Andrew في كتابه المهم «نظريات الفيلم الكبرى» كما يكون للأسلوب السينمائي المتبع معناه الخاص كذلك. لنأخذ مثالاً، كما يذهب إلى ذلك دادلي أندرو نفسه، تجربة الناقد السينمائي الفرنسي أندري بازان، فهذا الناقد كان يبدأ طبعًا بمشاهدة الفيلم السينمائي، ثم بعد ذلك يحدد الإيجابيات التي يتوفر عليها وما قدمه بالنسبة للمجال السينمائي، ليصل فيما بعد إلى الصعوبات والسلبيات التي اعترته. كل ذلك طبعًا وفق نسق فكري متعلق بهذا الفيلم السينمائي لكن في مقارنته مع أفلام سينمائية أخرى تلتقي معه بطريقة من الطرق. إن أندري بازان وهو يقوم ببناء نظرية نقدية سينمائية انطلاقا من الأفلام السينمائية التي قام بمشاهدتها وقراءتها، يمكن له أن يُفيدنا في عملنا النقدي لا سيما أنه كان يركز في أغلب قراءاته على أربعة عناصر كبرى هي: مادة الفيلم والوسيلة التي أخرج بها والشكل الفني الذي اعتمده وأخيرًا الغاية منه، وهو ما يمكن أن نطلق عليه عملية إنتاج المعنى التي يريد أو يسعى الفيلم السينمائي لتحقيقها. إنّ القراءات المنهجية هذه التي قام بها هذا الناقد السينمائي قد استطاعت أن تجد لها أصداء عميقة سواء في المجال النقدي الأوروبي والأمريكي من جهة أو في مجال النقد السينمائي العربي وضمنه النقد السينمائي المغربي، لاسيما ذلك النقد السينمائي الذي يتوفر على طابع منهجي محكم وحمولة فكرية عميقة، من جهة أخرى. إن أندري بازان وهو يقوم في كتابه «ماهي السينما؟»  بالتحدث عن نشأة السينما والتطور الذي عرفته اللغة السينمائية وعلاقة السينما بالفنون الأخرى وجماليات الواقع والواقعية الجديدة والتركيز على عمق المجال في هذا الصدد، قد جعل من نظرية السينما كما صاغها هذا الناقد السينمائي مرجعًا أساسيًا لكل المشتغلين بالنقد السينمائي والفاعلين في ميدانه.

السيميولوجي الفرنسي رولان بارث
بموازاة عمل أندري بازان الذي اشتغل في المجال السينمائي تحديدًا نجد عملًا آخر استفادت منه النظريات المتعلقة في مجال الصورة عمومًا ومجال السينما خصوصًا، ذلك العمل هو عمل الباحث السيميولوجي الفرنسي رولان بارث. هذا الباحث بالمعنى الكامل للكلمة، من هؤلاء الذين بعد كل من سوسير وغريماس قد أسسوا السيميولوجيا. وما يهمنا هنا بالأساس هو عملية بناء المعنى في الفيلم السينمائي. من هنا سأتحدث عن المعنى وكيف تُقدمه العلامات المشكلة للفيلم، على اعتبار أن الفيلم السينمائي يشكل ملتقى علامات. فإذا كان رولان بارت في كتابه «ميثولوجيات»، قد اعتبر أن «الأسطورة هي قصة، بمعنى أنها «نسق تواصلي» فإنّ الأساطير بهذا المعنى هي ظاهرة سيميولوجية إذا اعتبرنا أن كل «الأشياء» هي عبارة عن «علامات» وأنها تحيل إلى شيء آخر ليس هو ذاتها، لتأتي بعد ذلك الخاصية الاجتماعية التي تُضاف إلى المادة الخام إلى حدود أننا يمكننا الحديث هنا عن خاصية مبنية انطلاقا من هذه القصص. 
هكذا نكون أمام تمثيل جماعي خالص لهذه الأشياء ذاتها. إن هدف السيميولوجيين / السيميائيين يتجلى في قراءة هذه القصص التي تحكي لنا اليومي من خلال هذه الأشياء التي أصبحت متداولة. الأسطورة بهذا المعنى هي ما تقوله الثقافة عن هذه الأشياء. الأسطورة هي كلام خفي، ومن ثم يجب جعله واضحًا وإزالة الغموض المرتبط به. وإذا اعتبرنا أن الفيلم السينمائي بهذا المعنى يشكل أسطورة بالمفهوم البارثي، فإنّ قراءته يجب أن تنطلق من تفكيك العلامات المشكلة له بدءًا من الصور المكونة له ودلالتها ووقوفًا عند القصة التي يقدمها باعتبارها محور أسطورته. 
إن الفيلم السينمائي هنا يصبح كما الصورة الفوتوغرافية، على اختلاف العلامات المكونة لكل منهما، وسيلة لتحقيق اللذة، لذة قراءة الفيلم السينمائي ولذة تأويله وطبعًا لذة مشاهدته أولاً. وكما هو الأمر في العالم الواقعي، فإنّ العالم الفيلمي مدعّم بمجموعة من القرائن المكونة له، ومن بينها التجربة التي يقدمها. إنّ قراءة الفيلم السينمائي حسب هذا التوجه السيميولوجي البارثي عمل يجمع بين تفكيك العلامات المشكلة للفيلم السينمائي من جهة، وبين تأويل الدلالات التي تمنحها هذه العلامات من جهة أخرى، علما بأنها علامات فارغة تمتلئ تدريجيًا من خلال قصة الفيلم السينمائي المشكلة لأسطوريته.   
إنّ غالبية القراءات النقدية التي اعتمدت على سيميولوجية رولان بارث في قراءتها للأفلام السينمائية انطلقت من قراءتها لمفهوم العلامة واعتمدت في الغالب على كتبه التي تناول فيها بالدراسة السرد الروائي، كما هو الأمر مع كتابه «S/Z» أو تلك التي ركز فيها على دراسة العلامات على اختلاف أنواعها، كما الأمر مع كتابه «إمبراطورية العلامات»، طبعًا بالإضافة إلى كتبه النقدية الأخرى.

نظرية كريستيان ميتز
في السياق نفسه، أي في عملية البحث عن معنى الفيلم باعتباره ملتقى لعلامات متعددة، تحضر نظرية كريستيان ميتز كرافد أساسي في هذا المجال. لقد ركز كريستيان ميتز في دراساته المتعددة، كما يذهب إلى ذلك الناقد والباحث السينمائي الأمريكي ج. دادلي أندرو، على عملية تفكيك بنية الصور وتحديد دلالة الخدع السينمائية وتأثيراتها في بناء المعنى الكلي للفيلم السينمائي. وتتبعًا لمسار كل من شارل بيرس وفرديناند دو سوسير، فقد أسمى ما يقوم به «سيميوطيقا السينما». في هذا الصدد ميز كريستيان ميتز في تنظيراته وقراءاته بين مفهومين أساسيين، الأول هو مفهوم «الفيلمي» والثاني هو مفهوم «السينمائي». 
«الفيلمي» حسب رأيه يتعلق بكل ما هو خارجي عن الفيلم رغم مساهمته في عملية تحققه، في حين أن الثاني هو كل ما يرتبط بالفيلم داخليًا، أي ما يشكل صلب بنائه.  وبالطبع فإن ما يهم كريستيان ميتز هو دراسة «السينمائي» في الفيلم، أي دراسة المكونات البنيوية الداخلية للفيلم السينمائي، وقد اعتمد في عملية إنجازه لقراءاته، كما يوضح الباحث السينمائي الأمريكي دادلي أندرو، على تفكيك الصورة المتحركة والمتعددة للفيلم السينمائي، بالإضافة إلى كل الكتابات الموجودة فيه والحوارات المسجلة والمؤثرات الصوتية المتوفرة فيه بما في ذلك موسيقى الفيلم السينمائي ذاته. إن كريستيان ميتز يهتم بالبحث عن الدلالة التي تتشكل من كل هذه المواد.  وبما أن كل دوال الفيلم السينمائي ترتبط بمدلولاتها، فإنه لا يمكن للناقد أن يفكك هذه الدوال دون أن يؤثر ذلك بمدلولاتها في الوقت نفسه. إن هذه النظرية / النظريات السيميائية هي مفتاح القراءة الداخلية للفيلم السينمائي، وهي ترتبط كما رأينا بكل ما «سينمائي»، وهذا لا يمنع طبعًا من أن هناك نقادًا سينمائيين آخرين يهتمون في دراستهم للأفلام السينمائية بكل ما هو «فيلمي» أي بكل ما يتعلق بخارجية الفيلم السينمائي مثل كيفية صناعة الفيلم السينمائي وتأثيره الجماهيري وقوانين الدعم السينمائي وغير ذلك. وطبعًا فإن عملهم النقدي هذا لا غنى عنه في المجال السينمائي.
ومع كل هذا، فإن السّؤال الذي يطرح علينا كمهتمين بمجال النقد السينمائي يتمثل في كيفية الانتقال من استيعاب النظريات إلى مجال تطبيقها على الأفلام السينمائية التي نشاهدها. هنا سأتحدث عن تجربة النقد السينمائي المغربي محاولًا الاكتفاء بالنقد السينمائي المغربي الذي استفاد من النظرية السيميائية على اختلاف مدارسها.
هذا النقد السينمائي حتى وإن استفاد من المناهج الحديثة في عملية تحليله لهذه الأفلام السينمائية يجب عليه أن يظل مرتبطًا بهذه الأفلام السينمائية وبما تقدمه هي، بعيدًا عن كل إسقاطات منهجية غير منبثقة من داخل بنية هذه الأفلام السينمائية موضع التحليل. وهو إن فعل ذلك فإنه سيحقق له وجودًا فاعلًا في التربة السينمائية التي يشتغل فيها.
هكذا نرى أن هذا الاتجاه النقدي السينمائي المغربي قد اهتم بالجانب الفكري/ الفلسفي والجمالي، ونجد له حضورًا قويًا في كتابات كل من نور الدين الصايل ومحمد الدهان، وخليل الدمون ونور الدين أفاية، ومصطفى المسناوي وإدريس الجعايدي ومختار أيت عمر وغيرهم، وهم قد اهتموا بالفن السينمائي في بعده الفكري والاجتماعي في علاقته بالبعد الجمالي. وهكذا كانت قراءاتهم النقدية وتحليلاتهم للأفلام السينمائية تسير على خطى النقد السينمائي الفرنسي المرتكز على الفلسفة أو علم الاجتماع، مستفيدين في هذا المجال من تجارب بعض الفلاسفة الفرنسيين من أمثال إدغار موران وجيل دولوز من جهة، أو على كتابات الناقد أندري بازان من جهة أخرى.  وقد استمر هذا النقد الفكري والاجتماعي متجليًا بعد كتابات هؤلاء النقاد الرواد في كتابات جيل آخر من النقاد يمكن أن نمثل له ببعض كتابات كل من عبد العالي معزوز ومحمد اشويكة وعز الدين الخطابي وعبدالجليل البويري ومبارك حسني وغيرهم، وذلك على اختلاف مشاربهم الفكرية واهتماماتهم الجمالية. هكذا نرى أنه في مقابل هذا الاتجاه النقدي السينمائي المغربي الذي اهتم بالجانب الفكري / الفلسفي والجمالي، كما أشرنا إلى ذلك، نجد اتجاهًا نقديًا سينمائيًا آخر تجلى في الاهتمام بالدرجة الأولى بالجانب الجمالي، حيث ركز على الجوانب الفنية التي تجعل من الفيلم السينمائي فيلما جديرًا بتسميته، مستفيدًا في هذا الجانب من النقد الفرنسي هو الآخر، لكن في بعده السيميائي بالتحديد، كما تجلى في كتابات كل من رولان بارت وغريماس ومن بعدهما في كتابات كريستيان ميتز المهووس بالمجال السينمائي والمنشغل به حتى النخاع. 
ومن بين الكتابات النقدية الرائدة في هذا المجال، نجد كتابات الناقد والمخرج السينمائي المغربي مومن السميحي.  وخيرًا فعل حين قام، فيما بعد، بتجميع هذه الكتابات النقدية في كتب صدرت باللغتين العربية والفرنسية، نذكر منها كتابه المعروف «حديث السينما» الذي أصدره في جزأين. هذا الكتاب الذي يتجلى فيه هذا التأثر الواضح بالمنهج السيميائي.  وفي هذا الاتجاه نفسه تحضر كتابات كل من النقاد والباحثين السينمائيين مثل حمادي كيروم ومحمد باكريم وإدريس القري وفريد الزاهي، وبوشتى فرقزايد وعبد الرزاق الزاهير ونور الدين محقق وغيرهم، وهي كتابات قدمت إما ضمن أطروحات جامعية أو ضمن لقاءات وندوات جامعية، والبعض منها قد صدر في كتب. وهي تختلف طبعًا عن كتاباتهم النقدية الأخرى التي قاموا أو يقومون بنشرها في الصحافة ■