رمز التراث والمعاصرة في مسرح نجيب محفوظ

رمز التراث والمعاصرة في مسرح نجيب محفوظ

هل يمكننا أن نرى التراث والمعاصرة يتحركان أمامنا ككائن حي؟! يتناقشان في الخلافات بينهما، ويتحاوران في التوافقات التي يجب أن تجمعهما، يظهران للعين بحيث نشعر بأن الفكرة تجسَّدت أمامنا كلحم ودم. يمكنك الإحساس بالتراث والمعاصرة حين تطالع الثلاث مسرحيات التي تناولها نجيب محفوظ... الذي كتب نحو 8 مسرحيات في مسيرته الأدبية، ثلاث مسرحيات منها (يميت ويحيي، التَّرِكة، المهمة) اقتربت من موضوع التراث والمعاصرة بشكل كبير، وضربت على فكرة العلاقة بالتاريخ برمزية واعية لمناقشة الفكرة، حتى إنك تجد الشخصيات في المسرحيات الثلاث عبارة عن رموز للفكرة، لن نجد سوى فتى وفتاة، أو شاب، وبعض الشخصيات الأخرى التي بلا اسم، طبيب، رجل، مما يجعل مجال تأول الشخصيات أقرب لكونها رموزًا لأفكار أراد محفوظ أن يطرحها وأن يعبِّر عنها، وبذلك كانت هذه المسرحيات الثلاث أقرب إلى طرح قضايا عامة من شخصيات لها أعماقها النفسية والاجتماعية، ونجد أن فكرة التراث والمعاصرة سيطرت على قلب المسرحيات.

 

 (يُمِيت ويُحْيِي) 

يبدو الفصل واضحًا بين التراث والمعاصرة منذ الطلَّة الأولى على خشبة المسرح في مسرحية «يُميت ويُحْيِي» فالمسرح منقسم إلى قسمين، قسم أمامي وهو نحو ثلثي المسرح، مضاء واضح المعالم، وهو الذي ستجرى عليه أحداث الحاضر المعاصر الآني بكل ما فيه من حداثة، بين الفتى والفتاة، ونلاحظ أن الفتى من دون اسم، وواضح من تجريد الشخصية من التسمية، أنه يحمل معنى الفتوة والشباب والقوة والحاضر بكل عنفوانه، فهو فتى، ولقد اختار نجيب محفوظ لنصه الطابع التجريدي، حتى ملابس الفتاة التي تسير بها بين النخلة والساقية، فثوبها الظاهر يناسب الجو التجريدي للمسرحية بما يصعب تحديده على أساس جغرافي، كذلك ثياب جميع من سيظهرون على خشبة المسرح، وإذا كان الفتى يرمز للحاضر بقوته وفتوته، فالفتاة ترمز للدنيا بجمالها الزاهي.
في القسم الخلفي من المسرح تسيطر عليه الظلمة، وتلوح أشباح راقدة، نيام أو موتى، والطابع في النهاية يؤكد أنه تجريدي، تتضح رمزية العلاقات في المسرحية حين يقول الفتى للفتاة: «إني أحبك ولكنني أكره أن أتمرَّغ في التراب» وهي إحالة واضحة لتراب الأرض ومتعة الدنيا، هذا ما يدعو الدنيا الفتاة لأن ترد عليه:  «هذا يعني أنك لا تحبني»، وفي تلك اللحظة يدخل دور التراث حين يشير الفتى للمصطبة المسربلة في الظلام، بالقسم الخلفي من المسرح، والتي تحمل الرقود من الأشباح الهاربة من الماضي، يقول الفتى: «ليكن لي قدوة في الغابرين» بما يعني تراث الماضي وتاريخه، والدنيا المتمثِّلة في الفتاة تجيب أنها لا تحب النظر نحو الموتى، فهي الدنيا الآنية، والتراث والموتى والتاريخ لا ينتمون إليها، لكن الفتى يُلْقِي الجملة التي تعبِّر عن العلاقة بين التراث والمعاصرة والتاريخ والحاضر حين يقول عن الغابرين في القسم الخلفي: «لكنهم أحياء ما دمنا أحياء» إشارة جليَّة إلى أن الحاضر مادام حيًا سيعيش الماضي في حياته، وأنه لا حياة للماضي من دون حياة الحاضر الذي يذكره، وأن كلًا من التراث والمعاصرة في حالة ارتباط حياة، وإن كانت الدنيا الفتاة تردِّد في ثقة: «لا حقيقة في الوجود سواي» وتُكْمِل:  «إن للزمن بلسمًا يشفي كل شيء إلا الموت» ساعتها يشير الفتى الحاضر مؤكدًا أن الأجداد تعاملوا مع الموت بعقيدة أخرى فَوُهِبُوا الخلود».
تتكشَّف العلاقة بين المستوى التاريخي التراثي في الركن المظلم ومستوى المعاصرة الذي يتحدث منه الفتى والفتاة بشكل تدريجي حتى يدرك متابع المسرحية أن هاهنا حاضرًا وماضيًا في الوقت نفسه، ويستمر الصراع المتصاعد بين محاولة إثبات أن الماضي التراث ميت أو لا يزال حيًا، صراع بين الفتى والفتاة، فتقول الفتاة:
-  لقد ماتوا وشبعوا موتًا.
-  (مخاطبًا المصطبة وأهلها) قولوا إنكم خالدون (صوت من المصطبة كالصدى): إنكم خالدون.
- لا تخاطب الفراغ كالمجانين.
- ألا تسمعين.
بدا واضحًا أن المسرحية تتكئ على ما هو آنيّ معاصر وعلى ما هو تراث ساكن في الماضي في ظلمة الخلفية، حيث يمكن أن يخرج للفتى أشخاص يحاولون جذبه إليهم، ولأن المسرحية ترتكز على الأفكار الترميزية، فيمكن إحالة الشخصيات التي ظهرت لرموز خاصة، ما يجعل المسرحية تناقش أفكارًا مهمة، تخص الحاضر والماضي، وفي النهاية حين يقرِّر الفتى أن يصون كرامته حتى الموت ويحاول العملاق أن يدفعه نحو المصطبة مما يفجر لحظة النهاية فيخرج الرقود ويقومون من رقودهم في تثاقل؛ ليصلوا إلى مقدمة المسرح.  يستيقظ جميع من كانوا نائمين، تنتصب قاماتهم، والفتى لا يزال سائرًا نحو عدوه، يضرب الأرض ضربات مسموعة منتظمة، وهم يمضون خلفه في عزم صلب حتى يختفوا جميعًا، تاركين دائرة الصراع بين التراث والمعاصرة لا تزال مفتوحة.
هل كان التراث يدفع الفتى الحاضر المعاصر في النهاية نحو مقاومة العدو المشترك الذي يريد إهدار كرامته؟ هل الفتى استعان بالتراث ليستعيد كرامته؟ ربما، احتمالات وتأويلات كثيرة يمكن أن تتدخل في تفسير رموز المسرحية حول علاقة التراث بالمعاصرة .

 التَّرِكة 

من عتبة عنوان مسرحية «التَّرِكة» ندرك أن هناك شيئًا ما سيتم توريثه، فهي تركة متروكة لشخص ما، تركة من الماضي للحاضر، من فائت إلى قادم، من تراث إلى معاصرة، وحين نطالع ديكور المسرحية نجد أن المكان الذي تدور فيه الأحداث عبارة عن حُجْرة ذات طابع عتق، توحي بماضٍ سالف، مع وجود بعض الحُصر المزركشة المعلَّقة على الجدران، بما يشي بالعتاقة، وكأن شيئًا من الماضي تجسَّد أمامنا الآن، وأننا سنتعامل مع تراث قديم، حين تنفتح الستارة نجد فتى وفتاة يمثلان الحاضر، هذا الآني الذي نحن فيه، نلاحظ أن نجيب محفوظ استخدم الفتى والفتاة بصيغة ترميزية، كما حدث في مسرحية (يُميت ويُحْيِي). 
حين ندلف للحوار بين الفتى والفتاة نجد أن هناك رموزًا متعددة تشير للتراث وللتاريخ، تقول الفتاة: «البيت صامت كأنه قبر، بيتكم قديم، والحواري المفضية إليه شُقَّت فيما يبدو من عهد نوح»، وتأتي جملة صريحة على لسان الفتاة أيضًا: «الحاضر يمضي، والماضي يعود» إشارة إلى التركة المتروكة، والحالة التي هي فيها مع الفتى.
مع ولوجنا المسرحية نكتشف أن الفتى قد جاء لبيت والده ليحصل على التَّرِكة التي تركها له والده، بما يعني ميراثه وإرثه وتراثه، وأن الوالد وَلِي من أولياء الله، بما يحمل معنى من معاني التراث الصوفي حتى إن الفتاة تشير في حوارها إن الوالد الوَلِي ربما يعلم عن ابنه أكثر مما يتصور الابن نفسه، فللوالد خوارق، والناس تحبه، والابن الفتى الممثل للدنيا الحاضر المعاصر يرى في هذا التراث الأبوي الصوفي نوعًا من الحُواة، لأن الناس يرون في الحاوي معجزة، وحين تتعاطف الفتاة مع الوالد من داخلها يستهزئ الفتى بهذا التعاطف ويقول مؤكدًا على رفضه لكرامات والده: «إن قلبكِ لا يخلو من مواطن للخرافة».
يدور الحوار بين الفتى والفتاة في محاولة لاكتشاف كُنه هذا الوَلِي الذي يمثل التراث، والذي لا ينتمي إلى عالمهم الحاضر، المعاصر، وحين يدخل غلام الوَلِي وهو يدور بالمبخرة كطقس صوفي، وفي جملة فارقة من الغلام على لسان الوَلِي نكتشف العلاقة بين التراث والمعاصرة، قال الغلام على لسان الوَلِي: «دنا الأجل، آن لي أن أدعو ابني الضال لعله يَصْلح لأن يرث التَّرِكة» لقد أراد الوَلِي أن يُسَلِّم لابنه التَّرِكة كي يثوب إلى رشده، وكان الفتى يفكر في الكنز والأموال التي سيحصل عليها.
حين أزاح الغلام الحصيرة عن الخزانة التي تحوي الميراث أخرج منها كُتبًا صفراء، وظل يقرأ بعض العناوين «الحق، مدارج الروح، سلام القلب» وظل يضعها بحرص فوق الكنبة، لقد اتضح الآن أن التَّرِكة هي تراث قديم من المعرفة الروحية، دلَّت عليها عناوين الكتب، كتب تُثري الروح. الأب الذي يرمز للتراث يريد أن يسلم ابنه التراث الروحي القديم الذي سينقذه من الضلال ومن العتمة التي هو فيها، لكن الابن المتمثِّل في الحاضر والمعاصرة لا يلتفت إلى التركة التراث، لا يهتم سوى بنقود الحاضر والأموال التي تركها له والده، وحين يجد الأموال يفرح.
وكأنَّ التراث يدرك أن المعاصرة هي الأقرب للحالة المادية، وأن الابن ستلهيه الأموال عن تراثه الروحي فقد ترك الوالد الوَلِي شرطًا لإنفاق المال، وكانت وصية الأب الفارقة كحديث رصين من التراث للمعاصرة على لسان غلام الوَلِي: «يوصيك بألا تنفق منها مليمًا واحدًا قبل أن تستوعب ما في هذه الكتب»، هذه دلالة واضحة على أن الاستيعاب الحقيقي للتراث سيجعل الحاضر يستمتع بما في يده من ماديات، الاستيعاب الحقيقي للتراث الروحي هو ما سيجعل للحياة الحاضرة معنى.

إهمال التراث
يأتي موقف المعاصرة من التراث واضحًا جليًا حين تدوس الفتاة أثناء سيرها على الكتب، مما استثار غلام الوَلِي، وكانت النهاية وضع تركة التراث الروحية من الكتب في الخزانة، وهذه إشارة إلى أن الحاضر قرَّر أن يهمل التراث وأن يحصل على الحياة المادية فقط.
أدركنا الآن أن التراث عاد داخل الخزانة، وأن ورثة التراث لن يستفيدوا منه، لقد صار التراث محفوظًا من دون فائدة ومن غير نفع في الحاضر، والفتى سيفتتح بالمال الموروث خَمَّارة، وبدأ التفكير في بيع البيت الذي يحمل التراث ويحمل عبق حياة والده ليقوم بعمل ملهى ليلي يضاهي الأوبرج.
وحين اتضح موقف الحاضر الجلي من التراث، وانكشف أن الحاضر يريدها حياة مادية مليئة باللهو، بدأت المسرحية تأخذ شكل المحاسبة على هذه الأفكار، فظهر رجل يتهم الفتى بقتل والده، وقال إن والده الوَلِي قال: «إنني أموت مطعونًا بيد ابني الوحيد» هل هذه إشارة إلى القتل المعنوي للتراث وما حدث من وضعه في الخزانة دون الانتفاع بتعاليمه الروحية؟ وكان الجزاء لترك التراث أن استولى الرجل على النقود جميعًا، وكانت هذه إشارة من محفوظ إلى أن المال من دون العودة إلى التراث سيذهب وسيظل الفتى الحاضر المعاصر عالقًا مع التراث المحبوس وحده، يجب أن يفكر فيه، لكن الفتى قرَّر بيع البيت وهو مُكبَّل اليدين مع الفتاة بواسطة الرجل الذي أخذ المال، لا حراك ولا حرية، وهذا جرَّاء ترك التراث الروحي، ومع هذه الحبسة يبدأ التفكير في التراث بشكل مغاير، تقول الفتاة:
- لكنه أراد أن ترث عمله.
- فكرة سخيفة.
- هل حاول أن يلقنك سره وأنت صغير؟
بدا أن الفتى غير مقتنع بأسرار الوالد وتراثه الروحي الخاص، فقال: «لم يكن ثمة فردوس في الماضي، ولن يكون ثمة فردوس في المستقبل، علينا أن نتقبَّل الحياة كما هي» وتأتي جملة الغلام القاسمة المعبِّرة عن استهتار الحاضر المعاصر بالتراث، وأن الحاضر بدون تراث ضياع، لقد رفض أن يفك وثاقهما وقال: «أمرني الشيخ قبل ذهابه بألا أقدِّم لك أية مساعدة إذا أهملت تركته» التَّرِكة التراث هي النجاة، وهي السبيل لأن تجد المساعدة، الذي يحافظ على تركة التراث هو من يستحق المساعدة، ومن سيهملها سيضيع في التيه، وأكَّد الغلام: «مولاي ارتفع في السماء».
وتنتقل دراما الفكرة في المسرحية لصراع آخر بين الحاضر والتراث حين يظهر المهندس الذي يريد شراء البيت القديم ليقيم مكانه مصنعًا للأجهزة الإلكترونية، وهذا واضح الدلالة في رغبة المعاصرة في الإحلال محل التراث القديم ومحوه من قِبل بعض المعاصرين، رغبة أن يضيع التراث الروحي وتركة الأجداد مقابل أن يقوم مكانها مصنع إلكترونيات.
على لسان المهندس جاءت عبارة كاشفة بين التراث الروحي والتراث المادي، فالمهندس يضحك وهو يردد: «كان الوَلِي يقول إن الطمأنينة هي هدف النفس البشرية، وأقول له: بل التقدم يا مولاي ولو بالجهد والقلق»، التراث يريد الطمأنينة، والمعاصرة تريد التقدم مع القلق، ويعلن المهندس في رغبة أخيرة في محو التراث، عن أنه ليس بحاجة إلى أثاث البيت ولا للكتب، فلديه ما يحتاج من كتب ومعجزات وبدأت سيطرة الحاضر، وظهور ما يفيد بزوال التراث وتركة الأجداد وبدأ الحوار حول ثمن البيت وصفقة بيع التراث، وتصل لمتابع المسرحية من مجمل أفكارها صرخة تحذيرية من إهمال التراث، وأن المعاصرة لن تستطيع الحياة السوية من دون اللجوء للتراث الروحي للأجداد.

 (المهمة) 

أول ما يطالعنا على خشبة المسرح في مسرحية «المهمة» شاب، بما يعني الفتوة والقوة، بلا اسم، رمز الحاضر والمعاصرة، مع وجود شخصية غامضة لرجل في الخمسين يمثل الماضي التراث، وتبدو هنا أن العلاقة بين التراث والمعاصرة تأخذ صورة مغايرة عن مسرحية «يميت ويحيي» ومسرحية «التَّرِكة»، يبدو أن الرجل الماضي التراث يطارد الشاب وأن الماضي يلاحق الحاضر، وأن الحاضر الشاب مشغول بنفسه وبوضعه الآني فقط، وبالفتاة التي تمثل الدنيا، فالحاضر يعيش دنياه، والتراث يطارد المعاصرة، وبتدرج الحوار في المسرحية نعلم من الشاب أن الرجل الخمسيني يتابعه في الأماكن التي ذهب إليها: ميدان القلعة، شارع محمد على، مقهى الشمس، دار الآثار، صالة معروضات بالدقي، وهي أماكن تشير إلى عبق تاريخي وتراث قديم، هنا تبدأ الفكرة التي يطرحها محفوظ حول العلاقة بين التراث والمعاصرة، مبدأ أن الحاضر مشغول بالتاريخ أكثر من اللازم، مشغول بالتراث أكثر مما ينبغي، وفي الوقت نفسه الحاضر يظن أن التراث هو من يطارده، وأنه بعتاقته يقف في طريق استمتاعه بالدنيا، فكرة أن تكون مهتمًا وتشعر أنك مطارد بما تهتم به في الوقت نفسه، أن يكون ما يشغلك هو ما تظن أنه يعرقل حياتك بتتبعه لك.
يقول الرجل الخمسيني للشاب: «لقد شغلت نفسك بي أكثر مما يُتَصَوَّر» وتنكشف العلاقة أن الشاب هو من يدور في فلك التراث التاريخ وأنه ينسى العيش في اللحظة الراهنة المعاصرة، لحظة القُبْلة التي يُقَبلها للفتاة الدنيا والتي تمثل الاستمتاع بالحاضر، حتى إنه يترك فتاته دنياه ويذهب ويوقظ التاريخ التراث حين غفا، وبالتالي كان رد فعل التراث الماضي أن يتدخل في حاضره المعاصر ويكدِّر له أقرب اللحظات حميمية في دنياه. 
لقد أيقظ الحاضر التراث، حين يستيقظ التراث، يقول متسائلًا على لسان الخمسيني: «هل وقعتْ أحداث جديدة أثناء غفوتي؟» هذا سؤال لا يخرج إلا من الماضي، لقد كانت شخصية الرجل الخمسيني تتحدث بين آن وآخر بما يدل على أنها التراث، ونكتشف أن الشاب انزلق مرتين وأصيب في ركبته، في ميدان القلعة، وهو موقع تاريخي أثري، ويشرح له التراث أنه زلّ في موقع التراث؛ لأنه كان ينظر إلى امرأة، كان ينظر إلى الحياة المعاصرة فانزلق في التاريخ والتراث، وانزلق الشاب مرة أخرى في دار الآثار؛ لأنه كان يُحَدِّث نفسه، فهي سقطة أخرى داخل التاريخ التراث، التاريخ يريده خالصًا، بلا نوازع من دنيا، وبلا أحاديث نفس، هذه السقطة على ركبته تمثل التشتُّت بين التراث والمعاصرة، بين الماضي والحاضر، وحين يُفْسِد التراث لحظة المعاصرة يكون لديه المبرِّر: «ألم توقظني من النوم بنفسك؟» أنت في الحاضر أيقظت التاريخ، ولم تعش وقتك، وينصح التراث الحاضر بالوسيلة الناجعة للعلاقة بين التراث والمعاصرة وكيفية النجاة من الاشتباك بينهما. يقول الخمسيني على لسان التراث:
- تكره مرافقتي؟
- نعم
- لا تجعل للخرافة سيطرة عليك.
التراث يعلن هنا أن واجب الشباب الذين يبحثون في التراث وينقِّبون فيه أن يقلعوا عن الخرافات التي تلازم بعض التراث، أن يُنَقَّى التراث من الخرافات حتى يستطيع الشاب أن يعيش في الحاضر بمعاونة التراث، وحين يقول الشاب: «هل يمكنني أن أسير معتمدًا عليك»، فالحاضر قدمه متعبة، ويحتاج للمساعدة، لكن التراث يجيب: «سأضطر لحملك، وهو ما أعجز عنه، جرب أن تسير على مهل»، المعاصرة تطلب أن يحملها التراث، والتراث لا يستطيع حمل المعاصرة، ويعجز عن ذلك، لابد للحاضر أن يستقيم فقط بالتراث، لا أن يكون حملًا عليه، وفي النهاية نكتشف أن الشاب يعمل مدرسًا للتاريخ، وهنا يبدو الرمز واضحًا، هذا المدرس للتاريخ هو من كان يحمل التراث ويطارده حتى أعاقه عن النظر في المعاصرة. 

علاقة شائكة
وتتركك المسرحية وأنت حائر، لكنك تكون قد استخلصت العلاقة الشائكة بين التراث والمعاصرة، فالمعاصرة لا يمكنها أن تعتمد اعتمادًا كليًا على التراث، لأن التراث لن يستطيع حمل المعاصرة بكل معطياتها، والمعاصرة لا يمكنها أن تستغني كلية عن التراث، فمن دون التراث ستسير المعاصرة في حالة مرض. 
والخلاصة التي سعت إليها المسرحيات، أنه لا غنى للمعاصرة عن التراث الروحي، التراث الإنساني، ليعيش الانسان وقته الحاضر في سلام روحي، لابد أن يكون هناك تجانس وانسجام بين استلهام التراث لنفع الحاضر ■