الكاتب العراقي محسن الرملي: الأدب يحُصّن المجتمعات ضد الأدلجة والتدجين

الكاتب العراقي محسن الرملي: الأدب يحُصّن المجتمعات ضد الأدلجة والتدجين

يؤمن بأن للأدب دورًا فاعلًا في صياغة هوية الشعوب عبر تشخيص خصائصها الثقافية، كما يقوم الأدب بدور طليعي في قيادة المجتمع نحو التطور والانفتاح، وإن كان بوتيرة هادئة لكنها أكثر رسوخًا. وليس أدل على ذلك من إطلاق مصطلح العصر الذهبي على تلك الحقب المزدهرة بالآداب. هذه إحدى قناعات الأديب العراقي د. محسن الرملي، المقيم في إسبانيا، والذي يشغل حاليًا أستاذًا بجامعة سانت لويس الأمريكية في مدريد. أصدر أكثر من عشرين كتابًا، تنوعت بين الرواية والقصة والشعر والمسرحية بالإضافة إلى الترجمة، وترجمت أعماله إلى لغات مختلفة. وشارك في الكثير من المهرجانات والمؤتمرات ومعارض الكتاب الدولية، وفي لجان تحكيم وإدارة ورش للكتابة الإبداعية في إسبانيا والمكسيك والكويت والإمارات وغيرها.

 

● يقول الروائي ماريو فارغاس يوسا: «إن الأدب يخلق مواطنين يصعب جدًا تضليلهم كما يتم تضليل الآخرين». فهل نجح الوطن العربي الذي تتناهشه المعلومات المتضاربة في تطبيق هذه الحكمة؟
- عرفت وجربت ذلك بنفسي ورأيته عند كل المهتمين بقراءة الأدب. أنا وُلدت ونشأت تحت ظل سلطات ديكتاتورية مهيمنة، سياسية ودينية واجتماعية عمومًا، وفي يدها كل أدوات الدعاية والقوة لفرض رؤيتها، ومع ذلك لم تستطع إقناعي وتدجين دواخلي وخداعي بخطاباتها، لأن شغفي وكثرة قراءتي للأدب حصّناني منها، ومنحني الأدب معرفة أكثر باللغة، كأداة تعبير وتفكير، وظل يغذي نفسي بالأحلام وبالتأمل في الذات والعالم والمفاهيم، وعزز لدي قناعة الحق بالحريات، كحرية التفكير وحرية الرأي وحرية الاعتقاد وحرية الحركة وغيرها، مما قادني لاحقًا للهرب من تلك المناخات السلطوية التي كانت تريد فرض رؤيتها عليّ.
● كيف يمكن تمييز الأدب الجيد عن الأدب غير الجيد؟ وهل قياس الأثر هو المعيار الجوهري للتفرقة بينهما؟
- الأدب الجيد الحقيقي هو الذي ينحاز للإنسان ويعبر عن همومه وحرياته وحقوقه وأحلامه، ويُعينك على فهم ذاتك ومحيطك وتفهّم وتقبل الآخر المختلف ويحثك على محبته، وليس ذلك المكتوب بهدف التدجين والخداع، والذي يُستخدَم كأداة ترويج ومطية للأيديولوجيات والعنصريات العرقية والعقائدية، وبث الكراهية تجاه الآخر المختلف. 

العناوين الإبداعية
● هل تفتقر عناوين مؤلفاتنا العربية إلى القدرة على إثارة الدهشة؟
- العنوان مهمة صعبة لا يدركها إلا المبدع الحقيقي، سواء أكان غربيًا أم شرقيًا، وبخاصة بعد أن راكمت البشرية إرثها بملايين العناوين، كما تراكمت الدراسات الكثيرة حول هذه الموضوعة المهمة، ولا تخلو أية ثقافة من عناوين وأعمال مدهشة، لكن الفرق أن هناك من يشتغل عليها بجدية أكثر من غيره، وكم من عنوان فرض نفسه على ذاكرة الناس، بمن فيهم الذين لم يقرؤوا تلك الأعمال، ومع ذلك تسللت إلى لغتهم وتعابيرهم اليومية، ومنها على سبيل المثال عربيًا: (ألف ليلة وليلة، (الخبز الحافي)، (مدن الملح، لزوم ما لا يلزم، (طوق الحمامة)، (صراخ الصمت الأخرس)، (تهافت التهافت) وغيرها، ومن ثقافات أخرى مثل: (صباح الخير يا منتصف الليل)، (سيد الذباب)، (البحث عن الزمن المفقود)، (الصخب والعنف)، (الجريمة والعقاب) وعناوين روايات غابرييل غارسيا ماركيز (مئة عام من العزلة)، (الحب في زمن الكوليرا)، (قصة موت معلن)، (ليس للكولونيل من يكاتبه) وغيرها، يقابلها الكثير من العناوين التي طواها النسيان. في الغرب عمومًا، وبحكم وجود عوامل صناعة متكاملة للكتاب، يناقش المحرر الأدبي والناشر مع المؤلف كثيرًا، مسألة العنوان وصولًا إلى الأنسب، أما لدينا، فبحكم غياب هذا المناخ، يعتمد الكاتب على ذائقته الخاصة، وربما يستشير صديقًا، أو يستسهل الأمر، أو حتى يعاند أحيانًا لفرض ما في رأسه دون الاكتراث لملاحظات الآخرين.
 ● وهل صناعة الدهشة علم يحتاج إلى تدريب؟
- هي كذلك إلى حد كبير، مزيج من العلم والإبداع والصناعة والتجارة، ومن أبرز سمات الغرب أنه قادر على تحويل كل شيء إلى صناعة، بما في ذلك أبسط العادات والتقاليد والحكايات الخرافية، وقادر على تحويل الخيال إلى مشهد واقعي، وعلى تحويل عمل أدبي إلى متحف وإلى معلم سياحي، بينما نحن نفسد حتى ما هو مدهش أصلًا في ثقافتنا ونهمل صناعاتنا الفنية المحلية الموروثة.
● وهل لدى العرب إقبال على تعلم مهارة صناعة الدهشة؟
- أعتقد أن هناك فرقًا جوهريًا عامًا بين الذهنيتين، هم يفكرون في الحياة وما يمدها ونحن نفكر في الموت وما بعده. بالتأكيد، نحن على استعداد لتعلم كل شيء، لكن الأمر يحتاج إلى التعلم منذ الصغر، من البيت والشارع ومن أُولى مراحل التعليم في المدارس، لكننا لا نفعل ذلك للأسف ولا نهتم به. أنا بنفسي شهدت في طفولتي استهانة أهلي وأناس من قريتي بآثار عمرها آلاف السنين، يجدونها أثناء حفر بئر أو ساقية، فيستخدمونها كأية أدوات في المطبخ والزينة ومسندًا لجرة أو نافذة أو باب، حتى وإن كان لوحًا فخاريًا عليه نقوش وكتابات، أو يبيعونها بأثمان بخسة إلى أي عابر، وقد كتب أخي حسن مطلك روايته (قوة الضحك في أورا) انطلاقًا من ذلك.

الانفتاح على التكنولوجيا
● هل نجح الأدباء العرب الذين يقطنون دول أوربا، في أن يكونوا حلقة وصل وجسرًا لعبور أحدث ما تبدعه القرائح الغربية؟
- ليس الأدباء وحدهم مَن يشملهم أو يقع على عاتقهم هذا الأمر، وإنما الذي يُحدِث التغيير الحقيقي هو عموم الناس، وهذا ما سيحدث حتمًا بفعل انفتاح الناس على استخدام التكنولوجيا ووسائل التواصل، بحيث صار أي شخص في أية بقعة يستطيع أن يرى ويتابع ما يجري في كل بقاع العالم، لم يعد هناك فرق من حيث القدرة على المتابعة والتأثر، بين المقيم في أوربا أو المقيم في أية قرية عربية صغيرة، يبقى بعد ذلك مدى توفر أو تهيئة الظروف المناسبة في كل بلد لإحداث هذا التغيير.

الأدب الصادق
● السوداوية في السرد... هل تمقتها أم تحبذها في بعض المواضع السردية؟
- أحبّذها طبعًا، لأنها تلامس الهمّ الوجودي العميق للإنسان، لذا نجد أن كل الأعمال المهمة والخالدة تنطوي على حسّ تراجيدي ومأساوي. فالأدب الصادق والحقيقي لا يتهرّب من تناول الجوانب المعتمة، بل يسعى إلى وصفها ومحاولة الغوص فيها.
● لقد حوّلت تعاملك مع المطبخ إلى سرد لا ينتهي، فالصور التي تلتقطها والتعليقات العميقة حوّلت تلك الصور العادية إلى قصص وحكايات يتداولها المغردون؟
- ربما هذا من تأثيرات طول الحجْر في البيت بسبب فيروس كورونا، والذي جعلنا نعيد التعرف على الأشياء والتفاصيل الصغيرة في حياتنا الشخصية التي لم نكن ننتبه إليها من قبل، فطول التأمل لأي شيء، شكله ولونه ووظيفته واستذكار رحلة وصوله إلى المطبخ، سيجعلنا نكتشف أن له قصة فعلًا- حتى وإن كان مجرد ملعقة- بل قد نكتشف جماليات معينة في زوايا وأشياء ما كنا لنفكر في أن لها علاقة بأي جمال، وهكذا فإن ما أفعله هو محاولة، وبأسلوب يشبه الدعابة، قصد تنبيه الأصدقاء والمتابعين إلى هذه الأمور، وبخاصة أن غالبيتهم يشكون من الملل بسبب طول زمن الحجْر.
● ما الذي سيضيفه أدب السجون إلى الأدب، بما أنك تنادي بالالتفات إليه لقلته؟
- الكثير، ومن ذلك الشهادة على عذابات الآلاف في عالمنا العربي، أي كما تشيّد الأمم نصبًا تذكارية لأحداث مؤلمة كي لا تنساها، ومن ذلك أيضًا التذكير والتركيز على أن الحرية قيمة عليا، إن لم تكن أعلى القيم في الحياة على الإطلاق ■