المرأة في الشعر الجاهلي

المرأة في الشعر الجاهلي

المرأة شجرة الحياة، ونحن ثمارها، وكلما نضجت ثمارها أعادت تكوين ثمرها الجديد المتعاقب بجدّته وقِدَمه منذ حواء وخروجها وآدم من الملكوت الأزلي للبداية بصنع أزل يتجدد بتجدد الليل والنهار. لهذا كانت مدخل الإنسان إلى كينونته المجبولة من حمَأٍ مسنون، وبهذا كان وجودها دليلًا على وجود كل القيم الروحية التي صُنع منها ابنها الذي أضمرته وكوَّنته بعد مغادرة الباب الذي أغلقه رضوان خلفها وخلف آدمها ليصنعا وجودنا الإنساني خارج الجنة التي كانا يخصفان عليهما فيها من ورق الجنة تستُّرًا ممّا اقترفا.

 

قلت هذا لأؤكدّ أهمية وجود المرأة التي وقف الشعر والجنة تحت قدميها أملًا بالعودة ثانية إلى النعيم المقيم. وقد كان الإنسان العربي أحد فروع هذا الوجود الأنثوي الخصب الذي أثرى الأرض بفصوله الخاصة به، وبما أن مرحلة العصر الجاهلي، أو ما نسميه مرحلة ما قبل الإسلام، هي أقدم ما نعرفه عن هذه الشجرة المثمرة، والتي سُمِّيتْ «حوّاء» فسوف نحاول رصدَ بعض معالم كينونة هذه «الحوّاء»، وكيف نظر الإنسان العربي إليها، وكيف تعامل معها في جغرافيته الصعبة الممتدة من الترابِ القاحل إلى الإنسان الجائع، والتي أبرزت قساوتَها في بعض مظاهر وأد الأنثى، وعلى الرغم من أنّ هذا قد حصل، ولكن حصوله كان ضيقًا ومحدودًا، وربما كان الفقر المدقع أبرز دلائل هذا الوأد المحدود. نعم كان الفقر سببًا، وصار بعض الناس «وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ» «سورة النحل - الآية: 58». وربما كان تعصبًا ناتجًا عن ذكورية حمقاء. 
لكن العرب بمكنونات إنسانيتهم راح أغنياؤهم يفْدون المَوْؤودات، لأن البعد الإنساني كان عميق الجذور في كينونة الإنسان العربي الروحية والفكرية.

مكانة كبيرة للمرأة العربية
عند العرب جميعًا كانت المرأة العربية تمثل شرف الإنسان العربي، وكانت أعظم ما يحمله من تراث يحافظ عليه في الشدائد والمحن، كان العربي يموت دون عرضه، وكان الرجال يقتحمون غمار الموت لتسلم أعراضٌ لهم وعقول، كان سبيُ النساء عارًا لا تحتمله العقلية العربية، لأنّ المرأة كانت امتدادًا لإنجاب التراث الأخلاقي والقيمي الذي يكتمل به الإنسان العربي تراثًا متصلًا، والذي لا يمكن أن يوجد ويُنْجَب إلا بوجود المرأة. وإذا كان العربي في جاهليته يعتزّ برجولته، فإنه كان يدرك أن الحفاظ على هذه الرجولة يتطلب مصنعًا لها يخلقُ بطلًا يستمر العربي به بعد موته، وهذا ما تقوم به حواء، فكان العربي يعتقد أن الفارس البطل الحامي الذمار لا يأتي إلّا من رحم امرأة تنتمي إلى مكارم أهلها وسؤددهم، فالحفاظ على سمو المرأة وصيانتها هو المقدمة لعزة الفرد والقبيلة على حدٍّ سواء.

تراث متراكم
ولا يمكن للعربي أن يتخلى عن هذه المفاهيم العميقة لأنها تؤكد استمراريته وامتداده في وجوده، والوجود عند الإنسان ليس حالة عابرة، وإنما هو تراث متراكم، وهذا الوجود ذو صلة بمقاومة الموت نفسه بالذرية المولودة من المرأة شجرة الحياة، كانت المرأة في الشعر العربي القديم هي مصنع الكينونة، وكان العربي منجذبًا إليها، حتى وهو يحاربها، وقد يكون نفورك من الشيء دليلًا وصورة عن تواجده فيك بقوة.  كان العربي في جاهليته يتباهى بمنابته وأصوله، وكان ينتظر ولادة الفارس من امرأةٍ تكون «بنتَ ذي الجدّيْن والفَرَس النهد». ولأن الشعر تاريخ العرب وإلياذتهم فقد كانت المرأة أخصب الحضور في الشعر الجاهلي، لأن الشعر كان في تلك الأيام تاريخ العرب، كما ذكر الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه. لذا كانت المرأة العربية تعني الأبعد من جغرافية المرأة، وأبعد من وجودها المادي، كانت المرأة في الشعر الجاهلي وطنًا، وكانت أهم من كل المقتنيات المادية والذود عنها كان تمامًا كالذود عن الوطن، كان العربي في تلك الأيام لا يَهِنُ ولا يشعر بالمذلة إذا فقد الإبل والأنعام على الرغم من فقره، وكان يتغاضى عن هذه الخسائر، ولامرئ القيس بيت من الشعر يعبر عن تفكير العربي في تلك الأيام، يقول فيه:
ودعْ عنك نهبًا صيح في جَنَباتهِ
ولكن حديثًا ما حديثُ الرواحلِ
إنه لا يبالي بما نُهِب من الإبل، لكنه يبالي بما تتناقله القبائل من أحاديث، وأصعب الأحاديث كان ما يتعلق بالأعراض والذود عنها، وما يعنيه سبيُ النساء لا يمكن أن يُصلَح بأي نوع من أنواع البطولة. يقول عنترة بن شداد مخاطبًا عبلة بنت مالك:
لهفي عليكِ إذا بقيتِ سبيّةً   
تَدَعين عنترَ وهو عنك بعيدُ
إن السبي هو أكبر النقائص إذا أصيبت به قبيلة من القبائل، وكان العربي وهو يخوض المعركة يفكر بما ترك خلفه من نساء، وكان صموده مرتبطًا بتجنب العار حين يتعرض عرضه للسبي، وكان يعتبر أن كرامته تُصان بصون العرض، والشعر الجاهلي مزدحم بربط الدفاع عن المرأة بكرامة القبيلة ومعنى وجودها. أن تكون أهلًا لتصبح زوجًا عليك أن تسمع ما تقوله لك المرأة: إذا لم تحمني فلست زوجي. ولنستمع إلى عمرو بن كلثوم، وهو يقول:
على آثارنا بيضٌ حِسانٌ   
نحـــــاذرُ أن تُـقَـسـَّمَ أو تهونا
يَقِتْنَ جيادَنا ويقُلْنَ لستمْ    
بـُـعُـــولَتَنا إذا لم تـمـنــعونا
إذا لم نَحْمِهنَّ فلا بقينا    
لشيءٍ بعدَهنَّ ولا حَيينا
المرأة في هذه الأبيات هي وطن، والوطن انتماء، والمرأة هي منجبة الوطن بما تنجب، وهي التي تعطي الرجل حق وجوده وتهب له اعتزازها به، إنها قوته الكامنة فيه، وهي التي تحرضه ليتغلب على ضعفه في الملمات. وهي كرامته وأداة سموِّهِ، وهي مقياس رجولة الرجل، إنه لا يصلح زوجًا إذا أصيب عرضه بمثلبة ونقيصة، وحمايتها تستدعي أن تكون أو لا تكون، وحين يربط عمرو بن كلثوم استمرار وجوده بصيانة النساء فإن هذا يعني أن وجود الإنسان وسمعته بين القبائل تنتفي حين تُنتَهك حرماته. والنساء في هذه الأبيات هنّ المحرضات على الصمود، وبهذا المعنى يكن لهنَّ سهم من النصر الذي يصنعه الرجل. إنّ تبرؤهنّ من الرجال الذين لم يمنعوهنَّ من مغبَّةِ السبي هو عارٌ على الرجال. وجود المرأة في وجدان العربي كان سيفًا وزَندًا في المعركة، كان يهب الرجل قوة تحريضية عالية لارتباط هذا الوجود بشرفه وكرامته. وكان الرجال أمام هذه الحقائق الراسخة فيهم يعترفون بأنهم غير جديرين بالحياة إذا لم يصونوا النساء: «فلا بقينا لشيء بعدهنّ ولا حيينا». ومعروفة قصة الشاعر عمرو بن كلثوم صاحب المعلقة المعروفة مع ملك المناذرة عمرو بن هند. لقد سمع استغاثة أمه حين نادت «واتغلباه» من الجناح الآخر في مضارب الملك، بعد إهانتها من أم الملك، فاستلّ سيفه وقتل الملك استجابة لصوت أمه واستغاثتها، وهو يقول له: «متى كنّا لأمك مقتوينا».
إنّ حضور المرأة في ذهن الرجل ووجدانه كان أقوى من حضور الموت نفسه أثناء المعركة، وكان هذا الحضور مرتبطًا بشرف العودة من المعركة، كان الفارس العربي لا يستطيع أن يرى نفسه مهزومًا، وحبيبته تنتظره، ولا نزال نذكر قول الشاعر الدهّان بن جندل الشيباني، يوم عاد بنو شيبان والقبائل العربية منتصرين على الفرس في معركة ذي قار، مخاطبًا المرأة الشيبانية ورفيقاتها اللواتي استقبلن المنتصرين بالزغاريد:
إنْ كنتِ ساقيةً يومًا على كرمٍ   فاسقي فوارسَ من ذُهْلِ بنِ شيبانا
واسقي فوارسَ حامَوا عن ديارهمُ  واعلي مفارقهم راحًا وريحانا

زغاريد النصر أعلى وسام
إنّ استقبال النساء للعائدين منتصرين من الحرب بالزغاريد كان لا يختلف عن أوسمة الدرجة الأولى، بل هو أعلى لأنه يوضع في الوجدان والأحاسيس التي لا تموت أبدًا.  إن المرأة بهذا المعنى تكون حاضرة بزغاريدها وأنوثتها وشرفها مع الرجل في المعركة، وهزيمته كانت تعني فقدانه كل قيمه. وقتئذ لا يكون الرجل يقاتل وحده، وإنما كانت المرأة فيه مقاتلة ومحرضة، لذا كان يخجل من الهزيمة.
كانت النساء تهدد بكل ما فيها من أنوثة هزيمة الرجل، والتهديد كان يصل إلى مرحلة الفراق والهجان، وهذا ما كانت تردده كرمة بنت صلع أم مالك بن يزيد:
نحن بناتُ طارقْ   
نمشي على النمارقْ
والدرُّ في المخانق 
 إنْ تُقبِلوا نعانق
أو تُدبروا نفارقْ  
 فراقَ غيرِ وامقْ
وهذا الكلام كان يعني الكثير للرجل وهو في حومة الوغى، يعني أنّ قوة تدخل فيه، وتدفعه للصمود والذود عن المحارم.  ولنتصور كيف تكون حال عنترة، وهو يذكر عبلة والرماح تنهل منه وبيض الهند تقطر من دمه، ويتساءل قارئ شعره:  ما هو الأكثر حضورًا فيه أثناء احتدام المعركة، عبلة بنت مالك أم الرماح النواهل دمه والسيف التي تقطر من دمه:
ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ   
مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددتُ تقبيل السيوف لأنها    
لمعت كبارق ثغرك المتبسمِ

عبلة هنا أشد حضورًا في المعركة من كل معالم المرأة، فهي حاضرة حتى في سيف عنترة ورمحه لتشحذ السيف وتركِّبَ السنانَ في القناة. ويستمر عنترة وهو يخاطب عبلة لتعلم ماذا يفعل هو، ومن الأهمية أن تسأل عنه الخيل والفوارس:

هلاّ سألتِ الخيلَ يا ابنة ماكٍ   
إنْ كنتِ جاهلةً بما لم تعلمي
يخبرْكِ من شهد الوقيعةَ أنني  
 أغشى الوغى وأعفُّ عند المغنمِ

أنْ تسأل عبلة الخيل يعني أن عنترة في قلب المعركة، وأن تسألَ من شهد الوقيعة يعني أنه في غمار المعركة، ويزداد عنترة حضورًا حين يصف أخلاقه خارج المعركة إذ «يغشى الوغى ويعفّ عن المغنم»، وربط الرجولة بالأخلاق هو من أهم ميزات الشعر العربي في الجاهلية، ونحن نزداد إعجابًا بشعر عنترة وأخلاقه حين نقرأ له:
وأغضُّ طرفي ما بدتْ لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواها

وهذا ما يجعلنا نؤكد أن صون المرأة كان من مكارم الأخلاق عند العرب وفي شعر شعراء الجاهلية، هذا الشعر الذي كان وحده تاريخ العرب آنذاك ■